أرشيف المقالات

بين ضمة النصيحة وكسرة الفضيحة.. إعراب كلمة صريحة

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
بين ضمة النصيحة وكسرة الفضيحة
إعراب كلمة صريحة


كم من أسلوبٍ استنكَرنا به النَّصيحة! وكم من موقفٍ رفضنا فيه النَّصيحة! وكم من شخصٍ انتقدناه لأسلوبه في فضيحةٍ استعارَت اسم النَّصيحة! فانجرَحنا وجرَّحنا، وتحدَّثنا عن أسلوب الفَضيحة إلى كلِّ شخص ومع كلِّ شخص، إلَّا مع هذا الشخص (صاحب النَّصيحة الفضيحة)!
 
وسواء أكان مقصوده محمودًا فقدَّم النَّصيحةَ، أم مذمومًا فأراد الفضيحة - يبقى سؤال لا مهرب منه: هل تَوجَّهنا إليه بكلمةٍ صريحة، نصارِحُه بما أزعَجَنا وبما جرَحنا؟ أم أنَّنا أكملنا الحلقات المتبقِّية من مسلسلٍ اسمُه فضيحة، وعند أول فرصة ردَدنا المكيالَ مكيالين وبفضيحة مماثِلة؟
 
أليس هذا أيضًا اسمًا مستعارًا للنَّصيحة؟ أليس اسمًا من أسماء الفضيحة؟
 
ولو أنَّنا توجَّهنا مباشرة وصارَحنا الشخصَ الآخر مهما كانت نواياه..
ولم نَسكت عمَّا أزعَجَنا - لأرَحنا أنفسَنا من التفكير السَّلبي بأسلوبه، ولأخرَجنا من قلوبنا عواملَ التسامُح الطبيعيَّة.
 
فلا نتصنَّع التسامح بتجاهُلٍ واجتناب عند رؤيتِه، أو غضَب وانفِعال عند محادثَتِه..
ألَا تعتقدون أنَّ المواجهة بقصْد الصَّفاء الحقيقي هي أفضَل من الحقن الدَّاخلي والدَّوران في دائرة التفكير الفردي؛ مواجهة مصارَحَة لا مواجهة مُبارَزة.
 
وقد تقول عزيزي القارئ: ماذا لو واجهتُه ورفض أن يَسمعَني، أو أسمَعَني كلمات لا أستطيع تحمُّلَها؟!
 
نعم إنه احتِمالٌ وارِد، ولكنَّه لا يُلغي الواجب؛ واجب إصلاح ذات البَين لتفتيت الخصومات ومَحْو العَداوات وعقْد الحَبل على الحبِّ والمؤاخاة.
 
فلسنا دائمًا مسؤولين عن النَّتيجة ولكن عن الأفعال، والفعل المناسِب هو أن تُصارِح وتقوم بما عليك القيامُ به مهما كانت النَّتيجة.
 
أعزَّائي القرَّاء، إنَّها النَّصيحة، إنها حبَّات ثلج بيضاء..
نقيَّةٌ وناصِعة، تضمُّ الجبالَ بشِدَّة بياضها دون أن تُشعِرها بشِدَّة غمرتها، تتساقَط بكثافة لكنَّها تَفترش الأرضَ بلطف...
 
إنَّها النَّصيحة كلَّما كانت ألطَف في محتواها، كانت أكثرَ كَثافة في فحواها، فلا أنت ولا أنا نَحتاج (لفيلسوف النَّصيحة) في عصرٍ كَثُر فيه الفلاسفة، ولا أنا ولا حتى أنت نَحتاج إلى متفَيقهٍ في النَّصيحة يَستعرض عضلاته في تطبيق أساليب النَّصيحة والتواصل الفعَّال ليُشعرَنا بلُغته الفصيحة وقدرته (الفظيعة) على إيصال الرِّسالة.
 
وحرفٌ فَصْل، يَفصل بين كلمة الـ(نصيحة) وكلمة (فصيحة)، حرف واحد يحوِّل الفصيحة إلى نصيحة فصيحة..
فنلغي النون ونضيف الراء فتصبح الكلمة الفصل هي (صريحة)..
نعم ما نَحتاجه هو كلمة صَريحة..
تَفصل بين مكوِّنات النَّصيحة وعناصر الفَضيحة والتركيبة الفصيحة، فبعد الكلمة (الصَّريحة) لا يهمُّ فصيحة كانت أو لم تكُن.
 
وإن كنَّا بالأمس نتحدَّث عن آداب النَّصيحة فلا تتحوَّل إلى فضيحة؛ فالآن نتحدَّث عن فئةٍ جديدة في أسواقنا تَبيع النَّصيحة لتروِّج لصورتها الدعائية..
ليُقال عنها: (بَلُغَت في النَّصيحة) بدلًا من (بلَّغت النصيحة)..
وبين بَلُغَت في النَّصيحة وبلَّغت النَّصيحة (في) حرفُ جرٍّ يجر ما بعده من ((الدِّين النَّصيحة)) إلى (أنا النصيحة)، وعِوضًا من أن نبلِّغ النَّصيحة مباشرة من دون وسائط ومن دون حروف وكلمات..
ها هو حرف الجرِّ يتوسط ليُبعِد المسافةَ بين البليغ والمبلِّغ؛ ((فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامِع))، وعلى هذا، فالمطلوب ناقِل للنَّصيحة مبلِّغ وليس ناقلًا مُبالِغًا متنمقًا...
والفصلُ بكلمة صريحة.
 
أيها القرَّاء الكرام، النَّصيحة رسالةٌ مَختومة، تصِلُنا، ونَستقبلها بعنوان على الغلاف الخارجي "من..
إلى"، ثمَّ نَقرؤها ونَستهلُّها بـ "تحيَّة طيبة، وأمَّا بعد"، لكنَّها تبقى واقِفة في جناح الاستقبالات ولا يُؤذَن لها بالدُّخول إلى بريد عقولنا إلَّا برسالة ارتجاعيَّة بعنوان: "وأمَّا قبل".
 
فلا بعد يُرتجى بلا قبل مُرتجى..
نعم (أمَّا قبل)..
فقبل النصيحة لا يقلُّ شأنًا وأهميَّة عن ما بعد النَّصيحة؛ بل إنَّ (أمَّا قبل) النَّصيحة هو ختمٌ يسمح بمرور واستِقبال (أمَّا بعد) النَّصيحة..
فنحن نَستقبل النصيحةَ إذا كانت بين هذين الاستهلالَين وفي هذين المزدوجين..
وبين استقبالها ورفضِها لا بدَّ من الاستهلال بـ (أمَّا قبل).
 
فلا بدَّ قبل النَّصيحة أن نقدِّم أُذنًا تُنصِت وقلبًا يستنبط؛ أُذُنًا تُنصِت للأوجاع، وقلبًا يَستنبط الآلامَ، ويدًا تشدُّ الآخرين برسالة أمان؛ رسالة أمان وثِقة، فكيف لنصيحةٍ أن تهبِط فجأة على سَطح الثِّقة من دون تواصُلٍ سابق واتِّصال مستمر لبناء هذه الثِّقة؟!
 
وكيف لنصيحةٍ أن تنادي باسم الخوفِ على الآخرين ولم يسبِقها نداءاتٌ بالاهتِمام معقودة باتِّصالات وجلسات ومتابعات للمستجدَّات؟! ماذا عن أحوالهم ويوميَّاتهم، اهتماماتهم ومشكلاتهم؟! كي لا يُقال في نصيحتنا كلمة باطلٍ وشك، وكي لا يُقال عنَّا: أصحاب النَّصيحة الفُجائية، فتتوجَّه إلينا أسئلة التشكيك: (هل الآن صِرتَ يا صاحب النَّصيحة تخاف وتحرِص عليَّ؟ أيُّ خوفٍ وأنت لا تعلم عنِّي، وأي حرصٍ وأنت لم تهتم لأمري، وبَعد وقوعي في فخِّ الخطأ تُقدِّم لي النصيحة من دون سؤالٍ ولا استِفسار عن الأحوال)؟! ويَسأل الآخرُ نفسَه: لماذا يا تُرى ذَكَرني الآن؟ وبماذا ذَكَرني؟ بنَصيحة! وأين كان قبل زلَّاتي؟ ولِم لم يكن السَّندَ وقتَها فيَمنعني من عَثراتي؟! أليسَت هذه هي النَّصيحة الصَّامتة عن الكلام، المتحدِّثة بلِسان الأفعال؟!
 
نعم، إنَّها كذلك إذا غُلِّفَت رسالة النَّصيحة بمغلَّف الثِّقة، وخُتمَت بطابع الصِّدق، وأُرسِلَت ببريد الأمان؛ إنَّها كلمةٌ صريحة.
 
ولا يجب أن تدفعنا الحماسَةُ إلى رَشِّ رسائل النَّصيحة في كلِّ المناسبات كما نَفعل في رسائل المجموعات (برودكاست) على هواتفنا؛ فالرَّسائل التي تَلقى ردودًا هي الرَّسائل التي تصِل في أنسَب الأوقات، فلا بدَّ من ذكاءٍ شَخصي وحَدْس ذاتي يَجعلنا نقرِّر أنسبَ الأوقات لنُرسِل رسالةَ النَّصيحة فنحصل على أفضَل الإجابات والاستجابات؛ والوقت الأنسَب في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإذا استَنْصحَك فانصَح له))؛ أي: عندما يتوجَّه إليك الآخرُ طالبًا منك النَّصيحة، ولكن هذا لا يَعني أن تَنتظر مبادرته؛ فمن الذَّكاء أن تعمل على الاستِنصاح لتُثير عنده طلَب النَّصيحة، وتَبذل جميعَ الجهود في فهم بيئة الآخَر، شخصيَّتِه، ما يثيره وما ينفِّره؛ وعندها تكون قد أعددتَ كلَّ مقومات طلَب الاستِنصاح، وجمعتَ كلَّ الأسباب لأفضل تَوقيت للإرسال؛ وهذه إحدى مكوِّنات الكلمة الصَّريحة، والآن أرسِل النَّصيحة.
 
ونقاط على الحروف: لضمَّةِ النَّصيحة ولكَسرةِ الفضيحة، دعوة لنقول كلمةً صريحة؛ ناصحًا كنتَ أو منصوحًا، ناقلًا أو منقولًا إليه، والصراحة في اثنتين:
• "إنْ أرضيناك فتحدَّث عنَّا، وإن لم نُرضِك فتحدَّث إلينا".
 
فإمَّا عنَّا وإمَّا إلينا، ومستحيل أن تكون علينا؛ لأنَّ النَّصيحة هي إرادةُ الخير، وإذا كان الدِّين - بما يَحمل من عباداتٍ وطاعات، وحسابات وعادات - هو النَّصيحة؛ فالنَّصيحة هي للتغيير؛ تغيير بنصيحة "منَّا" جميعًا و"إلينا" جميعًا؛ ليعمَّ الخيرُ "علينا" جميعًا، فنفوز بسلسلة التغيير الذهبيَّة: ((الدِّين النَّصيحة)).

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير