أرشيف المقالات

قلق الموت

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
قلق الموت


لا تنحصِرُ صورةُ الموت في مفارقة الروح عن جسدها فحَسْب، بل هناك صورٌ أخرى للموت: فهناك مفارقةُ المشاعر وموتُها، وهناك موتُ ضميرِ المرء فلا يشعر بالمعاني الإنسانية، وهناك موتُ الشفقة فتُنْتَزع الرحمة من الجسد، فلا يعطف ولا يُشفق على غيره، فصوَرُ الموت كثيرةٌ متعددة، ولكننا لا نُدرك إلا موتَ الجسد، وكأن الإنسان لا معاني له أخرى يُصيبها البِلى والموت.
 
ولو رأينا الوجودَ مِن حولنا، لرأينا الموت في الأحياء لا حصرَ له، فلا يكاد جسدٌ يَسير إلا وفيه هياكل موتى قد تصلَّبت في جسده، فمِعْول الموت يضرب في كل جسد ضربًا قويًّا أو لطيفًا يموت فيه المرءُ بعضًا دون أن يشعر بموتِ بعضِه، حتى يسير في هذه الحياة وهو ميتٌ قد هلَكت فيه معاني الحياة من سنين، فيبقى في هذه الحياة ليس له فيها إلا الحركة والنمو والعبث.
 
الحقيقةُ التي لا يُجادِلُك فيها ملحدٌ، ولا يرتاب فيها مجنون، هو أننا ميِّتون، كلنا ميتون، وتبقى هذه الحقيقة سرًّا لا يمكن لنا معرفة كيفيتِه، ولكننا نرى أثره، فنراه حين نرى أجسادًا هامدة لا حَراك لها، وقلوبًا صامتة لا نبض لها، نرى الموت هكذا ولا نرى ما خلفه، لا نرى الوجود خلف الموت، تأسرنا عقولُنا فلا نتجاوز الحسَّ، تقف عقولنا حائرةً قلقةً ليس من الموت ذاته؛ وإنما من المجهول الذي لم تدركه حواسُّنا.
 
• ولنفترض جدلًا أننا فَرَرْنا من الموت، فهل هذا يعد فضيلة أم سقوطًا في المتاهة والضياع؟
حين نهرُبُ من الموت، ماذا نريد من الحياة؟ هل فرارنا من الموت نجاة لنا؟ وهل بعد فرارنا من الموت سنعود للموت ونبحث عنه ونتمناه، أم أننا نظل في رغبة دائمة في الفرار من الموت؟
 
كلنا يخشى من الموت، نهرب منه بكل ما أوتينا من قوة، نراه يسلب سعادتَنا، يُبعدنا عن أحبابنا، ونعلم أيضًا أنْ لو تحرَّر الإنسان من الموت وبقي جسده ينبض بالحياة، فستأتي لحظة يرجو الموت ويبحث عنه، فالجسد يتعب ويمل الحياة ويسأم منها، كما قال زهير في معلقته - بعد تجرِبة طويلة في الحياة -:
سَئِمْتُ تكاليفَ الحياةِ ومَن يَعِشْ ♦♦♦ ثَمانينَ حَوْلًا لا أبا لَكَ يَسْأَمِ
 
فالفرارُ من الموت هو ذَهابٌ لعالم آخر من الشقاء والبؤس والألم، فالقلق ليس ساكنًا في الموت، فليس سر قلقنا في الحياة هو الموت، بل سر قلقنا أننا لا نرى في الوجود إلا هذه الحياة، سرُّ قلقنا هو ضعفُ إدراكنا وعجزنا عن تجاوز الحس، ولو تجاوزنا الحسَّ لرأينا الموت ملاذًا وراحة للمؤمن؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في دعائه: ((واجعَلِ الموت راحةً لي من كل شر))، فخلفَ الموتِ تكمنُ الراحةُ للأنفس المؤمنة المطمئنَّة، بل هو أيضًا راحة من الكافر، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يموت ويستريح مِن أوصاب الدنيا وبلائها ومصيباتها، والكافر يموت فيستريح منه العباد والبلاد والشجر والدوابُّ))؛ فالميِّت في المفهوم الشرعي إما أن يستريح أو يُستراح منه، وهذا المفهوم للموت بجعلِه راحةً مفهومٌ يُذهب القلق الذي ارتبط مع ذكر الموت.
 
نعجزُ عن فهم معنى الموت؛ لأن شهوة حب البقاء تُكدِّر علينا فهمَنا للموت، فحب البقاء هو أيضًا سرُّ مُعاناتنا، هو سر جَزَعِنا، ومما زاد هذه الشهوةَ فينا تضرمًا وتوغلًا أننا لا نُذكِّر أنفسنا الموت.
 
نخطئ حين يجولُ في خاطرِنا الموتُ فنهرب بفكرِنا يَمنةً ويَسرةً كيلا نجزع، ولكننا بهروبنا الذهني نَزيد قلقَنا وتعلقنا بأمر لا بد من مفارقته، والحقيقةُ ليست مشكلتنا في الموت بقدر ما هي في موقفنا وتصوُّرِنا من مفهوم الموت ومفهوم البقاء، فنحن بحاجة أن نواجهَ الحقيقة، وأن نقفَ نتأملها بكثرة دون اضطراب؛ كي يذهب عنا رَوْعها وخوفها، فالحقائق لا بد من مواجهتها، فليس الهرب منها يُلغيها من الوجود.
الموت لا يعني أن يتحوَّل الإنسان إلى كتلة جماد، بل ينتقل لحياة أخرى، لها خصائصها المفارقة لخصائصها حال وجودها في الدنيا.
 
وتأمل في هذا الحديث النبوي الذي يُكلِّم فيه النبي عليه الصلاة والسلام كفارًا قد وارى الثرى أجسادَهم، فروى البخاري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمَر يوم بدرٍ بأربعةٍ وعشرين رجلًا من صناديدِ قريش، فقُذفوا في طَوِيٍّ من أطواء بدر خبيث مُخْبِث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصَة ثلاثَ ليالٍ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشُدَّ عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الرَّكِيِّ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: ((يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسرُّكم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدْنا ما وعدنا ربُّنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعد ربُّكم حقًّا؟))، فقال عمر: يا رسول الله، ما تُكلِّم من أجسادٍ لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسُ محمدٍ بيده، ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم)).
 
فسؤال عمر رضي الله عنه لرسول الله عليه الصلاة والسلام هو نتيجةُ استغرابه كيف يُكلم الموتى وقد هلَكوا وتلاشت حياتهم؟ كيف يسمعون كلامَه وهم عظام رُفات لا حياة لهم؟!
ولكن رسول الله كُشِف له من أمرِ الغيب أمرٌ لا تعرفه البشرية، وهي أن للميت حياةً أخرى، فالموت هو انتقال من حياة لحياة.
 
الموت ليس شرًّا، بل هو حركة للأحياء وخلود للإنسان، فالموت يمنح الآخرين فرصة أن يتمددوا بحُرِّية، فمع موت الأنفس تزداد البشرية في عددها وتنمو حضارتها، فلم يقضِ الموت على الناس كلِّهم، ولكنه قضى على فرد وأبقى أفرادًا، الموت يأتي للوجود لينظم الحياة، حين ننظر للموت رؤية اجتماعية وليس رؤية فردية، نجد له معنى غيرَ معنى المصيبة، نجد له معنى التوازن، فنحن بحاجة أن نذكُرَ الموت ونراه بصورٍ متنوعة؛ كي تنكشف لنا معاني الحياة، فالأشياء بأضدادها، فلا نفقه معنى الحياة ما لم نفقه معنى الموت.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن