أرشيف المقالات

أندلسيات:

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 ابن بسام صاحب الذخيرة والشاعر أبو مروان الطُّبني للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي ومادمنا قد ترجمنا للفتح بن خاقان صاحب مطمح الأنفس وقلائد العقيان، وقد بان لك من هذه الترجمة أن ابن بسام كان معاصراً للفتح، وأنهما يتشابهان من وجوه شتى أن لم يكن منها إلا أنهما كليهما تصديا للكلام على أدباء عصرهما وشعرائه لكفى؛ نقول مادام الأمر كذلك كان جميلاً بنا أن نردف ترجمة الفتح بترجمة ضريبه ابن بسام.

. وسيمر بك قربا ما نتعرف به سبب ذكرنا الشاعر أبا مروان الطُّبْني مع ابن بسام في ترجمة واحدة.
(ثم وإما بعد) فإنا إلى هذه اللحظة التي تترجم فيها لابن بسام لم نعثر على ترجمة قد عقدها له وأفردها للقول عليه، وإن كان مؤرخو الأندلس وغير الأندلس كثيراً ما ينقلون عن هذا الأديب كعمدة لهم، وثبت فيما يعالجون من تاريخ أدباء الأندلس، حتى أن المقري ذكره في نحو من أربعين موضعاً من نفح الطيب ولم يفرد له على ذلك ترجمة، وكذلك كثيراً ما ينقل عنه ابن خلكان وغير ابن خلكان.

. ومن غريب الأمر في هذا الباب، ومن سوء حظ هذا الأديب، بل من تخبط الناس في أمره، أنك ترى النسخ المخطوطة للذخيرة في دار الكتب سواء أكانت المكتوبة بخط مغربي أم المنقولة عنها بخط مصري قد غُمَّ على نساخها وشبه لهم، واختلط الليل بالنهار، فظنوا أن صاحب الذخيرة هو ابن بسام المعروف بالبَسَّامي الشاعر الهجاء البغدادي المتوفى سنة ثلاث وثلثمائة، ونقلوا ترجمة هذا الشاعر من ابن خلكان كما هي وألصقوها بصاحب الذخيرة، وصدق فيهم بهذا التخبط الغريب قول عمر ابن أبي ربيعة: أيها المنكح الثريا سهيلاً ...
عْمرَكَ الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ...
وسهيل إذا استقال يمان واقْعَدُ من هذا في باب التخبط والتخليط أن خطبة الذخيرة الحقيقية كما سيمر بك.
.
وقد مر على واضعي فهرس دار الكتب هذا التخليط فلم يتفطنوا إليه، وظنوه صحيحاً، وقالوا إن الذخيرة هي لابن بسام المعروف بالبسامي الشاعر الخ الخ ونقلوا نتفاً من هذه الخطبة المفتلة، وإن كان لهم في هذا الصنيع كل المعذرة.

(وبعد) فأنا على هذا كله سنقدم إليك صورة وان مُصغَّرة لهذا الأديب الأندلسي العظيم لقد التقطنا أجزاءها من ههنا وههنا أزلفنا في ترجمة الفتح أن أبا الحسن علي ابن بسام صاحب الذخيرة كان في زمن الملثمين - يوسف بن تاشفين وأولاده - ونزيد هنا أن حياته امتدت إلى أيام أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي رأس دولة الموحدين الذين أدبل لهم من الملثمين وآضوا بذلك ملوك المغرب والأندلس، إذ جاء في نفخ الطيب ما نصه: (وتأخرت وفاته - أي وفاة ابن بسام - إلى سنة 524) ويبدو من هذا أن ابن بسام عاش بعد الفتح بن خاقان نحواً من سبعة عشر عاماً.
ولد ابن بسام في شنترين وهي بلدة من الُكوَر الغربية البحرية من أعمال بطليوس، ومن ثم يقال له الشَنْتريني، ومن مؤرخي الأندلس من يقول الشَّنْتمَري نسبة إلى بلدة بالأندلس في الشمال الشرقي لقرطبة يقال لها شنْت مَريّه (أي مريم المقدسة)، وفي هذه البلدة يقول الأديب النحوي أبو محمد بن السيد البطليوسي: تنكرت الدنيا لنا من بُعدكم ...
وحفَّت بنا من معضل الخطب ألوان أناخت بنا في أرض َشنْتَ مرِيَّة ...
هواجس ظن خان والظٌّن خَوّان رحلنا سَوامَ الحمد عنها لغيرها ...
فلا ماءها صدَّا ولا النبتُ سعدان ولم يحدثنا المؤرخون عن مولده ونشأته، ولا عن مشيخته وكيف تعلم، فلا علينا إذا نحن تخطينا هذا واكتفينا بالكلام عليه من ناحية منزلته الأدبية وإيراد شيء من منظومه ومنثوره والقول على أثره الخالد كتاب الذخيرة.
كان أبو الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة أديباً كاتباً شاعراً، وكان المنثور أغلب عليه من المنظوم، مثله في ذلك مثل الفتح، فكان منثوره فائقاً بارعاً جميلاً وأن كان يغلب عليه السجع كسائر معاصريه، أما شعره فقد كان دون نثره.
ومما عثرنا عليه من شعره أبيات أوردها العالم الأديب أبو الوليد إسماعيل بن محمد الشقندي الأندلسي المتوفي سنة 629 في رسالته البديعة التي يفضل فيها الأندلس وأهل الأندلس على بر العُدوه - مراكش - وأهل بر العدوه، قال الشقندي: وهل منكم من يقول منادياً لنديمه، وقد باكر روضا بمحبوب وكأس، فألفاه قد غطى محاسنه ضباب فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك وهو أبو الحسن بن بسام: ألا بادر فلا ثان سوى ما ...
عهدت الكأس والبدر والتمام ولا تكسل برؤيته ضبابا ...
تغص به الحديقة والمدام فان الروض ملتثم إلى أن ...
توافيه فينحط اللثام وجاء في نفح الطيب ما نصه: (وقال أبو الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة، وشهرته تُغني عن ذكره، ونظمه دون نثره يخاطب أبا بكر بن عبد العزيز أبا بكر المجتَبىَ للأدب ...
رفيع العماد قريع الحسب أيلحن فيك الزمان الخؤون ...
وُيعرب عنك لسان العرب وان لم يكن أفقنا واحدا ...
فينظمنا شمل الأدب أَصَدَّقْتَ أن منظومه دون منثوره! أذن لا تتوقع من ابن بسام الأديب الكاتب شعراً من النسق الأعلى، وهكذا شأن أكثر الكتاب كما نبهنا في كلامنا عن الفتح بن خاقان؛ وكذلك ترى أكثر الشعراء الفحول لا يجيدون المنثور وأظنك لا تجهل ما أورده العلامة ابن خلدون في مقدمته شرحاً لهذه الظاهرة: ويبدو لنا أن لابن بسام شعراً كثيراً في أكثر أبواب الشعر لم يتيسر لنا الوقوف عليه، يدل على ذلك تلك الأبيات التي يقولها الشاعر الوشاح الأندلسي أبو بكر بن عبادة القزَّاز في ابن بسام وهي: يا منيفا على السماكين سامى ...
حزت خصل السباق عن بسام أن تحك مدحة فأنت زهير ...
أو تشيب فعروة بن حزان أو تباكر صيد المها فابن حجر ...
أو تبكي الديار فابن خذام أو نذم الزمان وهو حقيق ...
فأبو الطيب البعيد المرامي وعلى هذا فلنضرب عن ابن بسام الشاعر، ولنعرض لابن بسام الكاتب ولأثره الفذ الخالد كتاب الذخيرة.
نقول أن ابن بسام يمتاز من الفتح بأشياء: أهمها أنك لا ترى في أسلوبه ذلك التقعّر وتلك الطنطنة التي تراها في أسلوب الفتح، وإنما ترى أسلوبا هادئ متزنا رصينا جميلا،:.
وانك ترى ابن بسام ناقداً بارعاً كثيراً ما يُعقب على ما يختار تعقيباً يدل على تمكنه ورسوخه في الأدب، ومن ثم كان أكثر من الفتح تقييداً، وعلماً مفيدا،.
.
وانك تراه أعفَّ لساناً، وأنزه بياناً من الفتح، فلا ترى منه ذلك الإقذاع الذي تراه من الفتح.
واليك نموذجاً من تراجمه هو مصداق لما نقول، وهو ترجمته للشاعر الأندلسي أبى مروان بن زيادة الله الطُّبْني (يتبع) عبد الرحمن البرقوقي

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير