سباب المسلم والرد بالمثل - أبو حاتم عبد الرحمن الطوخي
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
استشكل بعض الناس اليوم في الخطبة ، وأورد علي عند ذكري لحديث النبي صلى اله عليه وسلم: «فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم» (صحيح البخاري :1904)، لما قلت بأن الأصل في ذلك الرد على الساب بالمثل والمقاتلة، ولكن لحرمة شهر رمضان يمتنع ويقول: "إني صائم"، فقال -يُرد علي-: "ديننا لا يأمر بالشتم ولا بالسب، وديننا جميل وهو دين التسامح"، فأحببت أن أفصل المسألة ليستفيد الجميع.والسباب هو الشتم أو المشاتمة، وقيل: "السباب أشد من السب"، فالسباب هو: أن يقول الرجل في الرجل ما فيه وما ليس فيه يريد بذلك عيبه، وأما السب فلا يكون إلا بما هو فيه وفي الحديث المتفق عليه: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
بداية: لا يجوز أن يقال للإنسان حيوان أو حمار، أو أي كلمة أخرى يقصد منها الذم مثل غبي أو حقير، إلا أن يكون قال ذلك له على سبيل الرد بالمثل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (34/ 163): "وكذلك له أن يسبه كما يسبه، مثل أن يلعنه كما يلعنه، أو يقول: قبحك الله، فيقول: قبحك الله، أو أخزاك الله، فيقول له: أخزاك الله، أو يقول: يا كلب يا خنزير، فيقول: يا كلب يا خنزير، فأما إذا كان محرم الجنس مثل تكفيره أو الكذب عليه لم يكن له أن يكفره ولا يكذب عليه، وإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه، لأن أباه لم يظلمه" (أ.هـ)
وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40]، لكن يشترط في القصاص واسترجاع الحق أن يكون مماثلاً وألا يعتدي.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "الظالمون هم المبتدئون بالمعصية أو المجاوزون الحد في الانتقام، كمن زاد في السب، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتدِ المظلوم» أي أن إثم ما قالاه جميعًا على البادئ، لأنه هو الذي بدأ إلا إذا اعتدى المظلوم، وزاد في السب، فعند ذلك يكون إثمه عليه، وقال ربنا سبحانه: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى من الآية:42].
والمعنى: أي إنما الحرج والعنت على الذين يبدؤون الناس بالظلم.
كما جاء في الحديث الصحيح: «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم» {أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى من الآية:42]، أي: شديد موجع" (انظر تفسير ابن كثير ).
قال شيخنا ومجيزنا أبو خالد وليد المنيسي حفظه الله: "وقد ذكر أهل العلم أن مجازاة السيئة بأسوأ حرام وظلم، مثل أن يقتل من ضربه أو يضرب من سبه، أو يضرب مرتين من ضربه مرة، وأن مجازاة السيئة بمثلها مباح مثل أن يسب من سبه أو يضرب مرة من ضربه مرة، وأن العفو عن المسيء أفضل وأكمل وله أجره عند الله..
وقد سمعت شيخنا ابن باز رحمه الله سئل عن المباح في رد السباب بمثله فقال: "مثل أن يقول له يا حمار فيقول بل أنت ونحوه..
وكذلك ذكر شيخنا ابن عثيمين رحمه الله ما ملخصه: أنه ليس العفو دائمًا يكون أفضل من مجازاة السيئة بمثلها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أحيانًا يعاقب المسيء، فمن كان يرجى أنه إذا عفونا عنه ندم ولم يكرر الإساءة فالعفو أفضل، ومن كان سبق العفو عنه مرارًا وكلما عفونا عنه تمادى في الإساءة، فتكون معاقبته وعدم العفو عنه أفضل إصلاحًا له، وكفًّا لأذاه عن الناس".
وأما مقام العفو فهو أفضل بلا شك.
قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43]، أي: من صبر على الأذى وستر السيئة، فإنه يكون قد فعل أمراً مشكوراً، وفعلاً حميداً، له عليه ثوابٌ جزيل، وثناءٌ جميل من الله تعالى.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلًا، فقل: يا أخي! اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ، ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزَّ وجل فقل له: إن كنتَ تُحسِن أن تنتَصِر، وإلا فارجع إلى باب العفو؛ فإنه باب واسع، فإنَّه مَن عفَا وأصلحَ فأجره على الله، فانتصر؛ وإلا فارجع إلى باب العفو".
وصاحب الانتصار يُقلب الأمور، ويكون قلقًا، ويقول في نفسه: هل يا تُرى تجاوزت؟! هل يا تُرى اعتديت؟! ونحو ذلك..
وهذه المرتبة مرتبة العفو هي التي تليق بالأكابر، وهي التي ينبغي أن تكون مرتبة الدعاة إلى الله، والعلماء والقدوات بين الناس كحال أبي بكر رضي الله عنه.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه أبو بكر بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه كان معك ملكٌ يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان »" (حديث صحيح بجموع طرقه).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى، وهو مناسبٌ للصديق رضي الله عنه، لأنه في المقام العالي، فهو الذي لو وزن إيمان الأمة بإيمانه لرجح إيمانه؛ فاللائق به أن يعفو، وألا يرد، وهكذا شأن الكبار".