لماذا يتأخر نصر الله للمسلمين؟
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
لماذا يتأخر نصر الله للمسلمين؟خلق اللهُ الخلقَ ليُجري عليهم أسماءَه وصفاته، فمِن كماله ظهورُ آثار كماله في خلقه وأمره وقضائه وقدره، ووعده ووعيده ومنعه وإعطائه، وإكرامه وإهانته، وعدله وفضله وعفوه وإنعامه، وسَعة حِلمه وشدة بَطْشه.
وخلق اللهُ الإنسانَ من العدم، وتفضَّل عليه بالإيجاد، ثم سخَّر له ملائكةً تَحرُسه بالليل والنهار، في منامه وفي كلِّ أحواله.
فلا بد أن يدفَع هذا الإنسان ثمنَ إيجاده وخلقه، وثمن كلِّ عضو في جسده، بالتذلل لله والخضوع والعبادة المستمرة في كلِّ وقتٍ؛ لأن الله خلقه لعبادته، فيجب أن يكون الأصل هو العبادة في سائر وقته.
لذلك، فإن العبد المسكين يَظلِمُ نفسه في كلِّ وقت لا يَقضيه في عبادة الله عز وجل، فيجمع على نفسه السيئات بقدر انقطاعه عن العبادة، ويَجمع على نفسه السيئات بقدر تقصيره عما أمره الله به، فهو ظالمٌ لنفسه في هذا، ففي الحديث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: ((قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يَغفِر الذنوبَ إلا أنت، فاغفِر لي مغفرةً من عندك وارحَمني، إنك أنت الغفور الرحيم)، فمن هذا السائل؟! إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أفضل البشر بعد الأنبياء!
ترك العبادة لحظةً يوجبُ الاستغفار! فما ظنُّك بارتكاب الإنسان للمعاصي، ولِما يُوجِبُ غضبَ الله عليه؟!
لهذا فإنَّ الإنسان لو كان في طاعة مستمرة لا يتوقف منذ أن خلَقه الله، فهو لن يسدِّدَ الدَّيْن الذي عليه تُجاه صِحَّته، ولا دَيْنَ إيجاده من العدم، ولا تُجاه أي عضو من أعضائه؛ ففي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يُصبح على كلِّ سُلامى من أحدكم صدقة، فكلُّ تسبيحة صدقة، وكلُّ تحميدة صدقة، وكلُّ تهليلة صدقة، وكلُّ تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، ويُجزئ أحدَكم مِن ذلك كلِّه ركعتان يَركَعُهما من الضحى)).
وفي الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قَارِبوا وسدِّدوا، واعلَمُوا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله))، قالوا: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ)).
وكذلك في حديث جبريل الذي رواه الحاكم في المستدرك، قصة الرجل العابد الذي عبدَ اللهَ تعالى خمسمائة سنة؛ يقول جبريل: ((نحن نَمرُّ عليه إذا هبَطنا، وإذا عرَجنا، فنجد له في العلم أنه يُبعث يوم القيامة، فيُوقف بين يدي الله عز وجل، فيقول له الربُّ: ((أدْخِلوا عبدي الجنة برحمتي))، فيقول: يا رب، بل بعملي، فيقول الربُّ: ((أدخلوا عبدي الجنة برحمتي))، فيقول: يا رب، بل بعملي، فيقول الربُّ: ((أدخلوا عبدي الجنة برحمتي))، فيقول: يا رب، بل بعملي، فيقول الله عز وجل للملائكة: ((قايِسُوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فتُوجد نعمةُ البصر قد أحاطتْ بعبادة خمسمائة سنة، وبقِيتْ نعمةُ الجسد فضلًا عليه))، فيقول: ((أدخلوا عبدي النار))، قال: فيُجَرُّ إلى النار، فيُنادي ربَّه: برحمتك أدخلني الجنة، فيقول: ((رُدُّوه))، فيُوقَف بين يديه، فيقول: ((يا عبدي، مَن خلَقك ولَم تَكُ شيئًا؟))، فيقول: أنت يا رب، فيقول: ((كان ذلك من قِبَلِكَ أو برحمتي))، فيقول: بل برحمتِك..."؛ هذا حديث صحيح الإسناد.
فأعمال الإنسان لن تُدخله الجنة بذاتها، وإنما هي قاصرة عن تسديد ديونه، فإذا تراكمتْ عليه السيئاتُ حرَمتْه الجنةَ.
فمن رحمة الله بعبده أن جعل الله له أسبابًا تكفِّر ذنوبه، وهي كما ذكر ابن تيمية عشرة أسباب:
مكفرات الذنوب العشرة عند ابن تيمية
في الدنيا
1
التوبة
2
الاستغفار
3
فعل الحسنات
4
المصائب التي يُكفِّر الله بها الخطايا
في القبر
5
دعاء المؤمنين للمؤمن في موته
6
ما يُعمَل للميت من أعمال البر
7
أهوال القبر
يوم القيامة
8
شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
9
أهوال يوم القيامة
10
رحمة الله وعفوه ومغفرته
وفي الأخير إن لم يَشْمَلْه عفو الله ومغفرتُه، فإنه إن بقِي على الإنسان ذنوبٌ لم تُكَفَّر، فإنه يُدْخَل في النار، ويُغمَس بقدر ذنوبه، حتى يتمَّ تطهيره تمامًا؛ حتى يكون طيبًا مؤهلًا لدخول الجنة!
إن الله سبحانه وتعالى عدلٌ، ومِن تمام عدله أنه لن يدخل الجنة إنسانٌ عليه ذنبٌ واحد، فلا بد من تطهيره وتنقيته من الذنوب؛ قال تعالى: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((...
حتَّى إذا فرغَ اللهُ من القضاءِ بين عباده، وأراد أن يُخرِجَ من النَّار مَن أراد أن يَخرجَ ممن كان يَشهَد أنْ لا إله إلا الله - أمَر الملائكة أن يُخرجوهم، فيَعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرَّم الله على النار أن تأكُلَ مِن ابن آدم أثرَ السجودِ، فيُخرجونهم قد امتُحِشوا، فيُصَبُّ عليهم مِن ماءٍ يقال له: ماءُ الحياةِ، فيَنبُتون نباتَ الحبَّة في حَميل السَّيل)).
فالجنةُ درجات بقدر أعمال العباد، فمن الناسِ مَن يُكثِر عَمَلَ الصالحات، ويَعمَل معها السيئات، فيُسدِّد دَينَ سيئاته بحسناته، وقد تكون حسناته لا تكفي لسداد دَين ذنوبه، ففي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما المفلس؟))، قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهمَ له ولا متاع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المفلس مِن أُمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، ويأتي قد شتَم هذا، وقذَف هذا، وأكل مال هذا، وسفَك دم هذا، وضرَب هذا، فيَقعُد فيَقتَصُّ هذا مِن حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبلَ أن يُقتَصَّ ما عليه من الخطايا، أُخِذ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار))، فالجنَّةُ درجات بحسب الأعمال، وكذلك النار دركات بحسب المعاصي والذنوب.
إنَّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يَنَل الجنة وأعلى الدرجات، إلا بعد أن كان مؤهلًا لذلك، فكان يستغفر الله في اليوم والليلة كثيرًا، وكان يتوب في اليوم والليلة كثيرًا، وكان أكثرَ الناس عبادةً، وأكثر الناس ذكرًا لله، ومع هذا فهو يُوعَك كما يوعك الرجلان، وأُصيب في الدنيا بأنواع الابتلاءات في طريق دعوته، فلذلك استحقَّ المنازل العالية في الجنة، صلى الله عليه وسلم.
إنَّ من رحمة الله وعدله أن يسَّر الله للإنسان في مجالات متنوعة الكثيرَ مِن مُكفِّرات الذنوب، عن أبي هريرة قال: ذكرتُ الحُمَّى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبَّها رجلٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تَسُبَّها، فإنها تَنفي الذنوبَ كما تنفي النارُ خَبَثَ الحديد)).
ومِنْ ثَمَّ فإنَّ المسلم إن قصَّر في التوبة والاستغفار، فإنه يأتيه في حياته من الابتلاءات والأمراض والمصائب، مما هي في طاقة الإنسان ووُسعِه، فالإنسان بطَبْعه يستطيع أن يتأقلمَ مع الألم، ويتعايش مع الفِقدان وينسى؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]؛ أي: طاقتها.
فكلُّ أمر في الحياة الدنيا فهو في طاقة الإنسان وفي حدود تحمُّله، ولكنَّه لا يحتمل أبدًا حرَّ النار، فغمسةٌ واحدة تُنسيه الدنيا ولذَّتَها، وقد يسأل سائل: ما حال الكفَّار الذين تتفاوت أعمالهم في الدنيا؟! فمِن الكفار مَن يعمل أعمالًا طيبة في الحياة الدنيا مع كفره، فلأن الله عدل سبحانه وتعالى فيُكافئه في الدنيا، فيُعجِّل له جزاءَه في الدنيا من الصحة والقوة والمال والنعم، وغيرها، ففي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لعلى حصيرٍ ما بينه وبينه شيءٌ، وتحت رأسه وسادةٌ مِن أَدَمٍ حَشوُها لِيفٌ، وإن عند رِجليه قَرَظًا مصبوبًا، وعند رأسه أُهُب معلَّقةٌ، فرأى أثر الحصير في جنبه فبكى، فقال: ((ما يُبكيك؟)) فقال له: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أما تَرضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟))؛ متفق عليه.
وفي رواية أخرى: "...
ثم رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئًا يَرُدُّ البصر غير أَهَبةٍ ثلاثة، فقلت: ادعُ الله فليوسِّعْ على أُمتِك، فإن فارس والروم وُسِّع عليهم وأُعْطُوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئًا فقال: ((أَوَفِي شكٍّ أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قومٌ عُجِّلت لهم طيِّباتُهم في الحياة الدنيا))؛ متفق عليه.
ومن الكفَّار مَن يكون محرومًا في الدنيا ومريضًا، فهؤلاء إن لم يعجِّل الله بثوابهم في الدنيا، فإنه يُخفف عنهم في النار، فإن النار على دركات كما ذكرنا سابقًا، وليستْ على مستوى واحد، وهذا ما حصل مع أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ناصَره في دعوته، ولكنه مات على كفرِه، فإن ذلك يُخفف عنه من عذاب النار.
وأما الأطفال فإنهم غيرُ مكلفين، ولكن لعدل الله فإن أعمالهم يُكافئهم الله بها في الدنيا، فقد تجد طفلًا مؤذيًا لغيره، فإنه يَحصل له ما يَمحو عنه ذلك برحمة الله وعدله، فإن الله لا يَظلِم أحدًا، ومَن مات منهم وهو طفلٌ، فإن كان من أبوين مؤمنين، فإنه يدخل الجنة، وقد رجَّح ابن تيمية رحمه الله في أطفال المشركين، وكذلك المجنون والمعتوه غير المكلف، بأن الله يَمتحنُهم ويَختبرُهم يوم القيامة.
وأما الحيوانات فمِن عدلِ الله أنه يأخُذ بحقِّ الحيوانات من بعض؛ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يَقْتَصُّ الخلقُ بعضُهم مِن بعضٍ، حتى الجَمَّاءُ مِن القَرْناءِ، وحتى الذَّرَّةُ مِن الذَّرَّةِ)).
ويأخذ بحق الحيوان من الإنسان، فقد ورَد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عذِّبت امرأةٌ في هِرَّةٍ سجنتها حتى ماتت، فدخَلَتْ فيها النارَ، لا هي أطعمتْها وسَقتْها إذ حبَستها، ولا هي ترَكتْها تأكلُ مِن خَشاش الأرض)).
يقول الله عز وجل: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
فالعدل من صفات الله المطلقة، فالله عدلٌ لا يحب الظلم؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 57]، وقال سبحانه في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرمًا فلا تظَّالَموا.
يا عبادي، إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أُوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليَحمَد الله، ومَن وجَد غيرَ ذلك، فلا يَلومَنَّ إلا نفسه))؛ رواه مسلم.
فإن آمَنتَ بهذا يَلزمك أن تَملأ قلبك حبًّا لله الذي أوجدك، وهيَّأَ لك أسباب سعادتك، وجعَلك من المؤمنين به، فأعظم نعمةٍ مَنَّ الله بها عليك أن دلَّك على التوحيد والإيمان به، والدين القويم، وأكرَمك بأعمال يسيرةٍ تُوجِب لك حسناتٍ عظيمةً، وفي هذا أحاديثُ كثيرة في الأذكار وفي الصيام والحج، وغيرها من سائر الأعمال، بل من رحمة الله أن جعل نيَّتك الحسنة إن لم تَعملْها فإنك تُؤجَر عليها، والأعجب من هذا أنه جعل نيَّتك السيئة إن لم تُنفذ السوءَ الذي نويتَه، فإنه يُكتَبُ لك حسنةٌ على عدم تنفيذها، ومِن رحمة الله أن جعل لك مكفراتٍ لذنبك؛ حتى لا تُحْرَقَ في النار؛ لأن الله وحدَه يعلم عِظَمَ النار وشِدَّة حرارتها، ويَعلم حقارة الدنيا، وأنها كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تَعدِل عند الله جَناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شَربةَ ماءٍ))؛ حديث حسن صحيح.
فإن آمَنتَ بهذا يَلزمك أن تملأ قلبك حرصًا على الآخرة، وزهدًا في الدنيا؛ لأن الله حقَّر شأنَها فأعطاها للكفار، فهي لا تساوي عند الله شيئًا.
وإن آمَنتَ بهذا يَلزمك أن تملأ قلبك ثقةً بالله ورضًا بأنه يدبِّر لك الأصلح في دينك ودنياك، فإن لم تَتُبْ وتستغفر من ذنوبك، فمَن رحمة الله بك أن يُحيطك بما يمحو عنك ذلك من الابتلاءات والعقوبات المكفرات؛ لذلك كان الاستغفار سببًا للرزق؛ لأن الذنب مانعٌ للرزق، والحرمان من الرزق تكفيرٌ للذنب، ومن عجيب أحوال أحد السلف أنه كان يَخشى مِن توالي الصحة والنِّعم عليه، أن يكون ممن عُجِّلَت له حسناته في الدنيا بالصحة والمال والأولاد.
فانظر إلى حال الأم مع ولدها الذي لم يستمع إلى نصائحِها، فأُصيب بالمرض، فإنها تَسقيه الدواء المرَّ مع رفضه هذا الدواء وامتناعه، مع حرصها على ذلك، لعِلمها أن في هذا الدواء صلاحَ جسدِه، وخروجَ المرض، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فالمريض هو العبد المذنب، والتعليمات هي العبادة، والدواء هي العقوبات المكفِّرات والابتلاءات.
وإن آمَنتَ بهذا يَلزمك أن تملأ قلبك توكلًا وتفويضًا لله واستسلامًا؛ لأن أيَّ عمل تتمناه وتسعى إليه، فهو بيد الله عز وجل، وهو أعلم منك بما يُصلح حالك ومآلك، فلا تتحسَّر على ما فاتك، فقد يكون سبب خسارتك في الآخرة، وقد يكون سبب عقوبات لك في الدنيا، لذلك كان الصحابة والسلف أكثرَ الناس توكلًا على الله تعالى، فالتوكل هو سببُ قوَّتِهم ونجاح حياتهم.
فإن آمنتَ بهذا يلزمك أن تملأ قلبك خوفًا من الله عز وجل أن يُعاقبك بذنوبك، فإن الذنوب شؤمٌ يُحيط بالإنسان، فيَدفَع عنه الخير ويَجذب له الشرَّ إن لم يتدارك نفسه بما يكفِّر عنه ذنوبه؛ فيَلزمك المبادرة بالطاعات والاستغفار المتواصل، والتخلص السريع من الذنوب؛ لأن من رحمة الله أنه "سريع العقاب"، فإن لم تُسرع بالتوبة والاستغفار، فإنه يُسرع بعقوبة لكَ تَمحو ذنبَك؛ حتى لا يَحرقك ذنبُك في نار جهنم التي لن تُطيق حرَّها.
قد يتأخَّر نصرُ الله للمؤمنين في الدنيا، لانتشار الذنوب والمعاصي، مع قلة التوبة والاستغفار، ومن رحمة الله بعباده المسلمين أنهم إن كثُرت ذنوبُهم سلَّط الله عليهم الابتلاءات والكوارث والمصائب والعقوبات في الدنيا، وسلَّط عليهم أعداءَهم من الكفار تخفيفًا لذنوبهم؛ لأنهم لم يُبادروا بالتوبة والاستغفار، فبادَرهم الله بالعقوبات؛ لأن العقوبات مكفرات لذنوبهم؛ حتى لا تَحرقهم النار.
ففي الحديث عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبَل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتُليتم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تُدركوهنَّ: لم تَظهَر الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشِدة المؤونة وجَور السلطان عليهم، ولم يَمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا، ولم يَنقضوا عهد الله وعهدَ رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تَحكُم أئمَّتُهم بكتاب الله ويتخيَّروا ممَّا أنزَل الله، إلا جعل الله بأسَهم بينهم)).
قوله: ((سلَّط الله عليهم عدوَّهم))، إن تسليط العدوِّ من الكفار ليس نصرًا للكفار، بقدر ما هو تعجيل لجزائهم وثوابهم في الدنيا، فمِن تمام العقوبة على الكافر أن يُعجِّلَ الله له في الدنيا، ولا يُخفِّف عنه النار يوم القيامة.
فالبدارَ البدارَ بالتوبةِ والاستغفارِ.