الإيثار يا زمان الأثرة! - عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
مدة
قراءة المادة :
3 دقائق
.
إن من أعظم الكرامة؛ أن تُؤثر بخيرك غيرك! وهو ما شح ماؤه، وعزَّ دواؤه، وقل أثره، وغاب خبره إلا عند القلائل الأماثل، ليتني وإياك منهم، فنفوز فوزًا عظيمًا، فوالله! لا تجود على غيرك بخيرك، إلا وقد جاد عليك من خلق الخير بالخير الكثير في العاجل والآجل، ولكنها نفوسنا التي ركنت للبخل فعجزت عن البذل، وقعدت عن الفضل!
فعن أبي جهل بن حذيفة، قال: "انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي ومعي شنة من ماء وإناء، فقلت: إن كان به رمق من حياة سقيته من الماء ومسحت به وجهه، فإذا به ينشغ، فقلت: أسقيك؟ فأشار: أن نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي انطلق به إليه، فإذا به هشام بن العاص أخو عمرو، فأتيته، فقلت: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام انطلق به إليه، فجئته، فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، ثم أتيت ابن عمي فإذا هو قد مات".
قال الحسن البصري: "والله لقد رأيتُ أقوامًا كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيتُ أقوامًا يُمسي أحدُهم ولا يجدُ عنده إلاَّ قوتًا، فيقول: لا أجعل هذا كلَّه في بطني، فيتصدَّق ببعضه، ولعلّه أجوع إليه ممن يتصدق عليه"!
فتبارك الله! كيف صعدت هذه الهِمم بهم إلى القمم!
ويدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بيته جائعًا، وقد كان يتعاهد إبل الصدقة في الهاجرة، فيأكل تمرة ويشرب عليها شيئًا من الماء، ثم يمسح على بطنه، ويقول: ويحٌ لمن أدخلَهُ بطنُه النار َ.
واعجبًا! يأكل تمرة، وتحت يده أموال الدنيا تجبى إليه من المشارق والمغارب! ثمَّ يخشى على بطنه من النار!!
ويخطب يوم الجمعة فيقرقر بطنه من الجوع في عام الرمادة، فيخاطب بطنه الجائع ويقول: "قرقر أو لا تقرقر، والذي نفس عمر بيده لا تشبع من طعام حتى يشبع منه صبية المسلمين".
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يصنعُ للناس طعامَ الأمراء، ويدخلُ بيتَهُ فيأكل الخلَّ والزيت.
إن المعركة الحقيقية تدور رحاها داخل النفوس، فمن انتصر على نفسه، فهو على سواها أقدر، وبالفضائل أجدر، ومن قيَّدته حظوظ نفسه وكبَّلته أغلال أنانيَّته، فكيف يغدو قادرًا على المسير والهزائم تتوالى داخل جوفه!