أهمية العقيدة وأسبقيتها على الأفعال
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
عقيدة التوحيد هي جوهر الدين وأساسه، فالتأثير فيها سلباً أو إيجابًا هو أخطر التأثيرات على دين المسلم. ولما كان الإعلام من أقوى المؤثرات -إن لم يكن أقواها- في عصرنا هذا على حياة الناس الفكرية والسلوكية؛ كان البحث في تأثير الإعلام الغربي على عقيدة المسلم المتعرض له، من أهم ما ينبغي أن ينشغل به الباحثون؛ لذلك سرني أن يكون النظر فيه ضمن اهتمامات هذه الورقة المباركة.
وإن كنت أعلم أنني لن أستطيع أن أوفيه حقه.
ولما كان البحث في هذا التأثير لا يتم إلا ببيان المكانة العظيمة التي تحتلها العقيدة في الهدي الإسلامي، وبالتالي في حياة المسلم الملتزم به، فقد كان من التوفيق أيضًا أن يطلب من الناظر فيه البدء ببيان هذه المكانة العظيمة.
البعد القلبي في تقييم سلوك المسلم:
أقول إذن مستعينًا بالله ومبتدئًا حديثي هذا بسؤال: لماذا جُعلت العقيدة أساس الدين وركنه الأول؟ ربما تبادر إلى أذهان بعض الناس ـ ولا سيما أناس في عصرنا هذا الذي يرفع من قدر الظاهر المحسوس ـ أن الجدير بهذه المكانة هو الأعمال الصالحة الظاهرة، كالإنفاق، وحسن معاملة الناس، والجهاد لرفع راية الدين، فلماذا جعل الله هذه المكانة السامية غاية السمو لشيء باطني غير عملي؟ مع أننا إنما نقوِّم الناس بحركات جوارحهم، لا بحركات قلوبهم وما يكمن في ضمائرهم؟
الجواب الموجز: هو أن ما في الباطن مُقدَّم على ما في الظاهر؛ لأنه هو أساسه ومصدره.
فما من عمل ظاهري حسناً كان أم سيئاً إلا وله أساس باطني.
هذه حقيقة يعلمها كل إنسان من نفسه، ولو كان يعلم ما في نفوس الآخرين كما يعلم نفسه؛ لكان تقويمه لأعمالهم بأساسها الباطني هذا لا بشكلها الخارجي.
تصوّر لو أن إنساناً أهدى إليك هدية قيمة، لكنك شاهدته في قلبه يقول لك: "ما أحقرك! والله إنك لا تستحقها ولا تستحق أقل منها، ولولا أني أطمع منك في أكثر منها لما أعطيتك إياها".
هذا علم غيّبه الله عنا، فلم يبق لنا إلا الحكم بالظاهر، والاستدلال به أحياناً على ما في الباطن.
أما الخالق - سبحانه - فإنه عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ ولهذا كان تقويمه - سبحانه - للناس بهذا الباطن الذي هو أساس الظاهر.
إن أصل تكريم الباطن هو أن حكمة الله - تعالى -اقتضت أن يكون الإنسان من عنصرين من مخلوقاته: عنصر الطين وعنصر الروح.
فجعل اللهُ المكوّنَ من الطين هو صورته المرئية، وجعل العنصر الروحي حقيقته الخفية.
لكنه - سبحانه - جعل بين ظاهر الإنسان وباطنه صلةً ونسبًا.
فالروح إنما تسكن في الجسد، وإنما تبدو تصرفاتها وتأثيراتها عليه وبوساطته؛ وربما كان هذا هو السر في أن بعض أعمال الروح تُنسب إلى أعضاء جسدية لصلتها الخاصة بها.
إن القلب الجسدي ليس هو الذي يعقل كما يحدثنا شيخ الإسلام ابن تيمية .
وعليه فإن السلامة والمرض المنسوبتين إليه في الكتاب والسنة ليستا أحوالاً جسدية كما هو المشاهد، وإنما هي أحوال روحية نُسبت إلى ما يلائمها من الأعضاء الجسدية.
وقد اقتضت حكمة الله - تعالى -أن يجعل الإنسان إنسانًا بجوهره الروحي الداخلي الخفي لا بشكله الجسدي الخارجي.
فالروح هي محل الإدراك والإيمان والتصورات والإرادات والمشاعر.
والإنسان إنما يتحرك ويتصرف بما يعتقد، حقًا كان أو باطلاً، وبما يتصور واقعًا كان أم وهمًا.
وإذا كان الأمر كذلك كان ما يظهر لنا من صلاح الإنسان أو فساده السلوكي راجعًا بالضرورة إلى صلاح معتقداته وتصوراته أو فسادها؛ إذن فالجانب الذي نسميه عمليًا في حياة الإنسان والذي قد نخطئ فنظنه أهم جانبيه، إنما هو أثر وناتج عن جانبه الداخلي الذي قد نجنح إلى التقليل من أهميته؛ فنَصِفُه بالنظري أو المثالي.
كلا، إنه لهو الجانب الفعال الذي يحدد مصير الإنسان والذي ينبغي لذلك أن تكون العناية به أكبر.
وكما جعل الله - تعالى -غذاء الجسد وبقاءه في بعض المطاعم والمشارب، وجعل مرضه أو موته في غيرها، فقد جعل غذاء الروح وبقاءها في بعض العلوم، وجعل مرضها وموتها في حرمانها منها، وجعل حياته الروحية هي حياته الحقيقية، وموتها هو موته الحقيقي.
والحقائق التي يمكن للإنسان أن يعلمها كثيرة، والعلوم النافعة كثيرة، لكن أشرف العلوم وأجلها نفعًا هو العلم بالله ربًا لا رب سواه، وإلهًا لا معبود بحق إلا إياه.
هذا هو العلم الذي لا تحيا القلوب إلا به، ولا يكون الإنسان مخلوقًا كريمًا إلا بمعرفته، والاعتراف به.
نعم، الاعتراف؛ لأن هذا العلم لا يؤتي ثماره إلا إذا اختار من علمه أن يعترف بما علم ويؤمن به.
فالروح لا تحيا بالمعرفة وحدها، بل لا بد أن تنضم إليها الإرادة، إرادة الإيمان ، قال -تعالى-: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم).
فتأثير هذا العلم معتمد على قبوله أو رفضه لا على مجرد اكتسابه.
قال -تعالى-: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ).
وقال -تعالى-: (وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ).
فإذا ما عرف الإنسان ربه وآمن به تفجرت ينابيع الخير في قلبه، ثم فاضت على جوارحه بمقدار علمه وقوة إيمانه.
لماذا؟ لأن الله -سبحانه وتعالى- كما جعل الروح جوهر الإنسان، فقد جعل الإيمان به منبع كل خير فيه.
ولذلك كانت الدعوة إليه والتذكير به مفتاح كل دعوة إلى فكر قويم وسلوك مستقيم، وكانت الدواء الذي لا غناء عنه لكل أنواع الانحرافات السلوكية.
ولذلك كانت البداية به في جهود الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لإصلاح المجتمعات التي بُعثوا إليها.
يدعو أحدهم قومه إلى إفراد الله -تعالى- بالعبودية ثم يدعوهم بعد ذلك إلى تفاصيل الشريعة وإلى ترك ما هم عليه من أنواع الانحرافات السلوكية، خلقية كانت أم اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية.
فالإيمان هو الذي يهيئ النفوس لعبادة الله وينشط الجوارح لها، وكما يقول الشاعر:
وإذا حلت الهداية قلبًا *** نشطت للعبادة الأعضاء
وهو الذي يهيئها لقبول تفاصيل الشريعة.
قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "لقد نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام.
ولو نزل لا تشربوا الخمر، لقالوا لا ندع الخمر أبداً.
ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً.
لقد نزل بمكة على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإني لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر)، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده".
وهو السبب الأساس لحل المشكلات الاقتصادية والسياسية والخلقية.
أقول إنه الأساس ولا أقول إنه يغني عن التفاصيل التشريعية المبنية عليه، ولا عن الأسباب الطبيعية والاجتماعية التي جعلها الله أسبابا مؤثرة.
وهو السبب الأساس لبقاء النعم المادية وزيادتها.
والكفر والإخلال به هو السبب الأساس لنقصانها وزوالها.
والمتتبع لنهج القرآن يجد هذه السيرة.
فالله - تعالى -يقول: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ.
أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ).
ثم يقول: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا.
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا.
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا).
ويقول: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ).
ثم يقول: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ).
ويقول: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيب).
ويقول: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
ثم يقول:
ويقول: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُون * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذِّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ).
ويقول: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ).
ويقول: (ثُمَّ دَمَّرْنَا الآَخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
ويقول -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).
وأهم من هذا كله أن عقيدة التوحيد هي سبب السعادة النفسية، يقول -تعالى-: (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
بل هي سبب السعادة الأبدية لأنها هي السبب الأساس لدخول الجنة وللنجاة من النار ، حيث يقول - تعالى-: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ).
ويقول -تعالى-: (يوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ.
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
جعفر شيخ إدريس