أرشيف المقالات

شهيد من شهداء أحد

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 أنس بن النضر للأستاذ خليل هنداوي كتب الله النصر للمسلمين في غزوة (بدر الكبرى)؛ وكان نصراً رائعاً للدعوة الإسلامية، فأنصرف المشركون وفي كل عضو من أعضائهم جراحة من أثر بدر، وفي كل بيت من بيوتهم مناحة لفقد عزيز من أعزائهم يوم بدر؛ وقد تبرأ هذه الكلوم، وتهدأ هذه المناحات، ولكن المضض كامن في صدور كأنها الدروع المنطوية في النار. - ألا يعود يوم كيوم بدر نثأر فيه لشرفائنا، ونلوك أكباد أعدائنا! إنه إن يعد - وهبل - نشف منهم النفوس أو تضمنا الرموس.

.

.

. والمسلمون خلال ذلك تخفق ألوية النصر عليهم، وأصحاب بدر يخطرون طربين بما أوتوا، يجلسون حلقات، هذا يتحدث عن بلائه، وذلك عن بطشه بأحد رؤوس قريش، وقد يسمع النبي لحديث من أحاديثهم فيغلب الإشفاق على قلبه ويود لو أن دماء قومه لم تهدر، ولكن الدعوة تفتقر إلى ضحايا! وقد يغادر المتحدثون هذه الأصناف من الحديث، لا لأن بدراً يفرغ حديثها.

وإنما يعودون إلى التحدث بينهم: كيف ألقى الله الرعب في قلوب أعدائهم، وثبت منهم الأقدام، وزلزل أقدامهم، ويشكرون الله على صدق وعده لهم، فما أخف نفوس هؤلاء البدريين الذين قاتلت جنود الله معهم! ويكفي أحدهم إذا أراد أن يفتخر أن يقول: (أنا بدري)! وما أشد أسى الذين لم يكتب لهم أن يكونوا من جنود هذه الغزوة المباركة! كيف يمشي هؤلاء الذين لم يحضروا غزوة بدر، وكيف تطمئن لهم جنوب أو تسكن قلوب، وقد رأوا أن رفاقهم سبقوا بالأجر: أجر بدر؟ وكيف يخالطون أصحابهم الغزاة، وكيف يكلمون الرسول، وهم يرون في أنفسهم منقصة تؤخرهم عن مجالس هؤلاء الغزاة، إنهم ليسوا ببدريين! حاور أنس بن النضر نفسه فلم يقنعه منها عذر؛ فآثر أن يتوارى عن قومه، وأن يعتزل مجالسهم، مقسما أنه لن يغفر هذه الحوبة لنفسه حتى يلاقي غزوة كغزوة بدر، يحملها ما لم تحمل، ويحمل منها فوق ما حمل أصحابه، فإذا سمع (ببدر) رأيت وجهه اكتأب وأسارير انقبضت، لأن حديث بدر - عنده - حديث ذو شجون، فيسأل نفسه إذا أشتد به الأمر: - أعهد بدر الثانية عنك بعيد؟ رب أقرب بدراً وقد عجب أصحابه لوجومه وانصرافه عن مجالسهم، ولم يروا منه إلا كل خلة حميدة، وعقيدة صلبة؛ يرونه يمشي كمن يلوذ بجدار، ويرتاح إلى الليل الأسود كمن يتخذه لباساً، ويجنح إلى العزلة كمن هو على موعد من ربه.

وتحدث القوم بينهم: ما بال أنس لا يطأ مجالسنا؟ أأذىً به أم عارض؟ وكان الرسول لا يلمحه إلا معتزلاً في زاوية وحده، لا يسمعه سامع إلا هاجساً ببدر، مستفسراً عن بدر؛ وقد أقلق الرسول حاله، فسأله: - ما خطبك يا أنس؟ فقال أنس: - (يا رسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع!) ففهم الرسول أمره، وبارك عزيمته وقال: - أما وقد نويت: ولم يقف الرسول على شيء من أمره بعد مقابلته.
وهاهي المقادير جاءت تنتقم (لأنس)، وتكتب أسمه في سجل الغزاة الثابتين، وهاهي الأيام كرت تجدد (بدراً) ثانية، ليس موعدها بدراً، لكن أُحُدا! فهب البدريون إلى شحذ سيوفهم البدرية ولا تزال أغرتها مكتسية دماً، ورماحهم ولا تزال ثعالبها حُمرا، ونشط من لم يحضروا بدراً لينالوا من الأجر ما لم ينالوه، فكان الأولون يمشون ثابتي الأقدام، مستخفين بأعدائهم عند الروع؛ وكان الآخرون يمشون خفافاً كمن أُزيح عن صدره ثقل الجبال، وقد ارتاحت من أنس نفسه، ودنا يحدث صحبه كأن لم يكن له عهد بتلك الوحشة. بزغ الفجر من وراء أُحد، وأفاقت قعقعة الرجال: وتيقظ كل ثأر قديم وكل خصومة قديمة، فلم يمهل بعضهم بعضاً بالبراز وإنهم لا يملكون أنفسهم في مثل هذا اليوم، وقد ود (أنس) قبل زحفه إلى الشهادة أن يكلم الرسول فيكتسب منه دعوة صالحة أو يراه فيذكر الرسول وجومه فيقول له: - إيه يا أنس! اليوم بدر! ولكن الزحام شديد والقتام ساطع والعدو راصد، والنبي قد وزع عقله هنا وقلبه هناك، يهدي ويوصي ويرشد وقد ذهب أمامه أقرباؤه قروم الحرب وأبطال الشدائد، فأقلع أنس عن رغبته وأدرك أنه لم يكتب له الحظ أن يمس جلده جلد رسول الله قبل آخر العهد، فأنطلق زاحفاً إلى صفوف المشركين يضرب بيديه وبسيفه ورمحه وفرسه، وكأن المقادير أرادت أن تنتقم له انتقاماً حسناً فلم تظهر ثباته وصدقه في جمع ظفر، لكن في جمع تفرق وأنكسر، ولم يثبت فيه إلا كل أروع صنديد؛ فكرام من الصحابة يذودون عن النبي بأرواحهم وأجسادهم! وكرام من الصحابة شدوا على العدو المحيط بهم وقد أبت لهم عقيدتهم أن ينهزموا ويستسلموا! وهذا أنس لا يزال يجول وما زادته جراحه الكثيرة إلا زيادة في الثبات.
وهل أكرم من الثابتين عند الله؟ وما زادته سراويله الحمر إلا استقتالاً وطمعاً في ذلك الأجر الذي تلوِّح له به بدر؛ لكن يوم بدر كان يوم ظفر، ويوم أُحد أسود الجلباب! فحيثما يطأ يجد صحابياً جريحاً يئن، وأيان توجه ير قتيلاً تزفه الحور العين. - بادر يا أنس! فهذا هو يوم الأجر الأكبر، وهذا هو يوم الرضوان، ما ينفع تأجيل الموت وفي الشهادة حياة؟ وإنه ليحدث نفسه بهذا الحديث فيستقبله سعد بن معاذ فيقول له: - (يا سعد! الجنة ورب النضر، إني لأجد ريحها من دون أُحد.
)
فيتركه سعد ويود لو يصنع ما يصنع، ولكن رجال الله رجال، فليلتفت أنس إلى قومه فيقول: - اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء! ويلتفت إلى المشركين فيقول: - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء! ثم يحمل مقتحماً صفاً من المشركين المضرجة سيوفهم ونصالهم بدماء أصحابه فلا يزال مقتحماً في حملته وقد أعجز المشركين رده وأحزن قومه فقده.
وإن المِعركة لتنتهي وقد بذل فيها الفريقان من فلذات الأكباد والأولاد لها طعاماً، وهيهات أن تشبع! فيقوم أبو سفيان يقول: - أفي القوم محمد؟ فلا يجيبه أحد.
أفي القوم أبن أبي قحافة؟ فلا يجيبه أحد.
أفي القوم أبن الخطاب؟ فلا يجيبه أحد فيقول: - أما هؤلاء فقد قتلوا فلا يملك عمر نفسه فقال: - كذبتَ والله يا عدو الله - إن الذين عددت لأحياء كلهم! إنهم لأحياء، وإن الحياة هي التي أنطقت عمر بالرغم من نهى الرسول، وهل يخنق للحياة صوت؟ إن هؤلاء أحياء، والذين استشهدوا منهم أحياء! فيجيب أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال! إنكم ستجدون في القوم مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني: أُعلُ هبل، أعلُ هبل! فيجيبه أصحاب الرسول: - الله أعلى وأَجل! فيقول: إن لنا العزى ولا عزى لكم فيجيبونه: الله مولانا ولا مولى لكم تنتهي هذه المحاورة ويؤوب أبو سفيان إلى قومه وقد شفوا قلوبهم وغسلوا عار يوم بدر، وهب المسلمون إلى تلمس قتلاهم واستنقاذ جرحاهم وقد راعهم أن يمثل المشركون بالشهداء منهم وهم لو أرادوا تمثيلاً بهم لمثلوا.
ولبث النبي في مكانه يعالج أصحابُه نزيفاً منه كاد يودي به، وهو يرتقب جثة عمه حمزة وقد أشجاه ما أشجاه، فجاءت الجثة بغير كبد والوجه معبوث بملامحه.
فناب الصمت عن البيان، وحجبت هذه الداهية غيرها من دواهي أحد؛ فجمع المسلمون جثث قتلاهم يدفنونها متراكمة في موضع المعركة وقد أساهم في مصابهم ما أصاب الرسول في عمه.
فكان ينظر إلى الذين يغيبهم التراب إلى الأبد نظرة صامتة، وعينه لا تتمثل إلا مصرع حمزة. لم يعد أنس جريحاً ولم يبن قتيلاً في المعركة، وقد ذهبت أخته تتحرى عنه بين القتلى فيمن تحرى، حتى وقعت على قتيل خفيت تقاسيم وجهه، وذهب جلده قدداً، في بدنه بضع وثمانون من ضربة بسيف وطعنه برمح ورمية بسهم.
أهذا هو أنس صريعاً؟ لكن وجهه لايفصح، وبدنه لا يبين عنه.
لكن هذه بنانُه قد أبقى عليها المشركون ولم يمسوها بسوء.
مثلوا بجسده ما شاءوا أن يمثلوا بعد أن ملأهم ضربه غيظاً وقتاله حقداً، وذهلوا عن بنانه. - رحمك الله يا أنس لقد بررت بعهدك الذي عاهدت، وأدركت الأجر الذي طلبت.
أليس فضل الثابتين في أحد كفضل أصحاب بدر؟ قضى أنس ولم يذكر مصرعه القوم، لأن مصارع أذهلت عن مصارع.
والرسول لم تندمل كلومه، ولم يبرح مصرع حمزة قلبه. لم يقتل حمزة وحده ولم يقتل أنس وحده، بل قتل معهما (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) وهؤلاء هم الذين قتلوا في سبيل ما عاهدوا الله عليه. خمدت وقعة أحد، وكان الرسول كلما مر بأحد أستشعر خشية، والتفت إلى أصحابه كأنما يلتمس في هذا الجبل شيئاً قدسياً يهبط على نفسه.
التفت يقول لهم: - (إن أحداً يحبنا ونحبه!) وكيف لا يحبونه وقد أطافت به أرواح الأعزاء وثوت فيه أجساد الشهداء وكيف لا يهتز الرسول لأحد وفيه قد أدّوا ثمن العقيدة والصدق والإخلاص من دمائهم وقلوبهم. أما إن لكل أمة (أحداً) تذكره وتعتز بذكره لأنه رمز ضحاياها الغالية التي عملت لها.
وهذه الأمة المشتتة تحت كل كوكب، المعتزة بأيمانها وعقيدتها تقيم في كل زاوية (أحداً جديداً) تقدم له كل يوم ضحايا عزيزة من دمائها وقلوبها! حتى غدت مواطنها: (كل موطن أحد) وشهداؤها: (كل شهيد أنس). خليل هنداوي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣