أرشيف المقالات

(5) استراحة القلب - جرعات دواء القلوب - خالد أبو شادي

مدة قراءة المادة : 29 دقائق .
وقبل البدء في الرحلة العلاجية مع هذه الجرعة الإلهية، سأل مريضنا عن فضل الذكر وسر قوته وبركة مفعوله حتى إذا ما فهم وأيقن بما أقبل بكل حواسه عليه، فوافيناه بالآتي:
1.
هدف كل العبادات وثمرتها:
ما شُرعت العبادات كل العبادات إلا لإقامة ذكر الله عز وجل، ففي الصلاة يقول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه من الآية:14]، وفي الصيام قال ربنا: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة من الآية:185]، وفي الزكاة قرن الله الزكاة بالصلاة وهي من الذكر في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [ التوبة :103]، وفي الحج قال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}  [البقرة من الآية:203]، بل جعل النبي  صلى الله عليه وسلم الذكر أفضل أعمال الحج، فقال عليه الصلاة والسلام: «أفضل الحج العَجُّ والثَّجُّ» (صحيح الجامع [1101])، والعجُّ: هو رفع الصوت بالتكبير، والثَّجُّ: هو إراقة الدم.

بل وجعل الله ذكره ثمرة العبادات وغايتها ومنتهاها، ففي الصلاة مثلا قال عز وجل: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}  [العنكبوت من الآية:45]، وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [ النساء من الآية:103]، وفي صلاة الجمعة جعل نهاية الصلاة ذكر فقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]، وفي الحج قال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة من الآية:198]، وقد خُتِم به الحج كما جاء في قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة من الآية:200]، بل وختم به الحياة، فإذا كان آخر كلام العبد ذِكْرWا دخل الجنة ، وهل أرسل الله رسوله إلا من أجل ذكر الله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا .
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}
 [الفتح:8-9]، بل وحتى الجهاد في سبيل الله غايته ذكر الله، وهل جاهد من جاهد إلا لإعلاء كلمة الله؟!
2.
أمارة القلب الحي:
حدّد ابن القيم ست مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحي السليم، وكان للذكر فيها نصيب الأسد وهو النصف أي ثلاث مشاهد من أصل ستة حيث جعل "من علامات صحة القلب: أن لا يفتر العبد عن ذكر ربه، وأنه إذا فاته وِرْده وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص على فوات ماله وفقده، وأنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا واشتد عليه خروجه منها".
وما كان ابن القيم بقوله السابق غير شارح لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت» (صحيح البخاري [6407]).
فمن أراد اليوم معرفة موقع قلبه من الحياة والموت، فلينظر كيف ذكره لله ومواظبته عليه، وليعلم أن القلب الحي إذا انقطع عن ذكر ربه فقد حرم نفسه أسباب حياته، وهو ميت لا محالة.
قال ابن القيِّم: "وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدَّس الله تعالى روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!".
وفي المقابل بشارة وبارقة أمل، فإن القلب الميِّت إذا عاد إلى ذكر ربه وداوم عليه عادت فيه الحياة ودبَّت فيه الروح وقام من قبره.
3.
نسيان الذكر هلاك :
عن أبان بن عثمان يقول سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات ؛ لم تُصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم تُصِبه فجأة بلاء حتى يمسي»، فأصاب أبان بن عثمان الفالج، فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه، فقال له: "ما لك تنظر إلي؟ فوالله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على النبي  صلى الله عليه وسلم، ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني غضبتُ فنسيتُ أن أقولها"، وفي رواية: ولكني لم أقله يومئذ ليُمضيَ اللهُ عليَّ قدرَه. 
وإذا كان هذا الصحابي نسي ذكرًا واحدًا فأصابه ما أصابه في دنياه، فكيف بمن نسي ذكر الله على الدوام؟! ترى ماذا سيصيبه في دنياه وأخراه؟! ألم تر هلاكه في الدنيا العاجلة إما بمصائب نازلة، أو بنعم متتالية تستدرجه نحو خاتمة سيئة، فضلًا عما ينتظره في آخرته من دموع وحسرات وعذاب وزفرات، حتى وإن دخل الجنة ناله بعضًا من هذا الألم، فقد قال النبي  صلى الله عليه وسلم: «ليس يتحسَّر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرَّت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها» (صحيح الجامع [5446]).
4.
أعنف معارك الشيطان :
إن الذكر هو الجرعة الوقائية والدفاع الحصين التي تُرهِب به عدو الله، وتُبقي الشيطان بعيدًا يخاف أن يقترب فيحترق أو يجتاز حدود قلبك فينتحر، فعن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وإنه كاد أن يبطىء بها.
قال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخسف بي أو أُعذَّب، فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ وقعدوا على الشُّرُف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن:
وأمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في إثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله»
(الترغيب والترهيب [1/253]).
لذا لابد أن تعلم أن الشيطان سيبذل قصارى جهده في سبيل أن يحول بينك وبين هذا الدواء الناجع والسد المنيع؛ حتى يحرمك من الخير، فعن أبي الجوزاء قال: "والذي نفسي بيده إن الشيطان ليلزم بالقلب حتى ما يستطيع صاحبه ذكر الله، ألا ترونهم في المجالس يأتي على أحدهم عامة يومه لا يذكر الله إلا حالفًا، والذي نفس أبي الجوزاء بيده: ماله في القلب طرد إلا قول لا إله إلا الله، ثم قرأ: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:46]". 
وقد بيَّن الله أن تسليط الشيطاه على العبد قد يكون عقوبة له على تركه الذكر، فقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36].
فعوقِب تارك الذكر والمُعرِض عنه بأن سُلسِل مع عدوه اللدود في قيد واحد، ليؤذيه ويغويه، ويضله ولا يهديه، ظلمة من بعد ظلمة، وعقوبة من بعدها عقوبة، فإن سألت: كيف يقيِّض الله لهم قرناء من الشياطين وقد نهاهم عن اتباع خطواتهم؟! قلت: معناه أنه خذلهم ومنع عنهم التوفيق لصدودهم عن الذكر، فلم يتبق لهم من قرناء سوى الشياطين.
5.
مذيب القسوة الفعال :
من أكثر الأمراض شيوعًا في هذا العصر: قسوة القلب، فهو مرض العصر بلا منازع، ولم يوصف لهذه القسوة الجاثمة على الصدور مثل الذكر، فهو أنجع دواء في إذابة قسوة القلب وحالة الجدب الروحي المنتشرة اليوم كالوباء، قسوة ولا ذكر لها؟! ولذا لما قال رجل للحسن: "يا أبا سعيد ..
أشكو إليك قسوة قلبي.
قال: أذِبْه بالذكر؛ وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة، فاذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار ".
الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه وداؤه، والقلوب مريضة وتتعطَّش إلى جرعة واحدة من ذكر.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم *** ونترك الذكر أحيانا فننتكس
وهو ما علَّمته أم الدرداء لعون بن عبدالله الذي قال: "كنا نأتي أم الدرداء، فنذكر الله عندها.
قال: فاتكأت ذات يوم، فقيل لها: لعلنا أن نكون قد أمللناك يا أم الدرداء، فجلست فقالت: أزعمتم أنكم قد أمللتموني!! قد طلبت العبادة بكل شيء، فما وجدت شيئا أشفى لصدري ولا أحرى أن أدرك ما أريد من مجالسة أهل الذكر". 

مضاعفات القوة
ومما يضاعف مفعول الذكر ويزيد من أثره في القلب :
1. التنويع:
لأن النفس تملُّ المداومة على نوع واحد من الذكر ولو كان طعمه كالعسل، ومن فضل الله علينا أن جعل الذكر ألوانا وأنواعا.
قال ابن القيِّم:
"وهو أنواع:
• ذكره بأسمائه وصفاته والثناء عليه بها.
• الثاني: تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله وتمجيده.
• الثالث: ذكره بأحكامه وأوامره ونواهيه، وهو ذكر العالِم ؛ بل الأنواع الثلاثة هي ذكرهم لربهم.
• ومن أفضل ذكره: ذكره بكلامه.
قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، فذكره هنا كلامه الذي أنزله على رسوله، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
• ومن ذكره سبحانه: دعاؤه واستغفاره والتضرع إليه.
فهذه خمسة أنواع من الذكر". 
إن هذا التنويع ما هو إلا قطف لأزهار من بساتين شتى، وتقلب بين موائد للرحمن عامرة وأغذية روحية عامرة، وحين ننظر إلى النبي  صلى الله عليه وسلم وذكره لله نرى: أنه كان أروع نموذج عملي على المحافظة على كل أنواع الذكر بل وأعظم الذاكرين على الإطلاق، فقد  كان النبي أكمل الخلق ذكرًا لله عز وجل، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرًا منه لله، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له، وثناؤه عليه بالآئه وتمجيده وحمده وتسبيحه ذكرًا منه له، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرًا منه، وسكوته وصمته ذكرًا منه له بقلبه، فكان ذاكرًا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله، وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه وفي مشيه وركوبه ومسيرة ونزوله وظعنه وإقامته. 
وكن ذاكرًا لله في كل حالةٍ  *** فليس لذكر الله وقتٌ مُقيَّدُ
فذكر إله العرش سرًا ومُعْلِنا ***  يُزيل العناء والهمَّ عنك ويطردُ
ويجلب للخيرات دنيا وآجلاً *** وإن يأتك الوسواس يوما يشرُدُ
فقد أخبر المختار يومًا لصحبه *** بأن كثير الذكر في السبق المُفرَّدُ
2.
الذكر الكثير:
لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال عدم استطاعتهم القيام بها إلا الذك، فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه.
قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء من الآية:103].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أي بالليل والنهار، في البر والبحر، والسفر والحضر، والغنى والفقر، والمرض والصحة، والسر والعلانية". 
لسان الحال: من صبر على كثرة ذكرنا؛ وصل إلى لذة قربنا.
فكيف لا تكثر ذكره؟! وهو كلما ذكرته أفادك، وكلما أطعته أعانك، وكلما خدمته أحيا فؤادك.
أخي، الذكر الكثير هو الذي يزين كل مكان ويعطِّر كل أرض بقعة يظهر فيها، وهي وصية أبي مسلم الخولاني حين أتاه رجل أتاه وقال له: "أوصني يا أبا مسلم".
قال: "اذكر الله تحت كل شجرة وحجر".
قال: "زدني"، فقال: "اذكر الله حتى يحسبك الناس من ذكر الله مجنون".
قال: فكان أبو مسلم يكثر ذكر الله، فرآه رجل يذكر الله، فقال: "أمجنون صاحبكم هذا؟!" فسمعه أبو مسلم فقال: "ليس هذا بالجنون يا ابن أخي، ولكن هذا دواء الجنون". 
الذكر الكثير هو الذي يملأ الوقت ويشغل اللسان حتى أثناء الأعمال الدنيوية والعادات اليومية والأوقات البينية.
قال إسحاق بن هانيء: "تعشَّيتُ مرة أنا وأبو عبد الله وقرابة لنا، فجعلنا نتكلم وهو يأكل، وجعل يمسح عند لقمة بيده بالمنديل، وجعل يقول عند كل لقمة: الحمد لله وبسم الله، ثم قال لي: أكل وحمد خيرٌ من أكل وصمت". 
الذكر الكثير هو الذي لا يُقعِد عنه أي ظرف ولو كان شديد الوطأة، وهل أشد من الجهاد؟! قال محمد بن كعب القرظي: "لو رُخِّص لأحد في ترك الذكر، لرُخِّص لزكريا عليه السلام.
قال تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران من الآية:41]، ولو رخِّص لأحد في ترك الذكر لرخِّص للذين يقاتلون في سبيل الله.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]". 
والذكر الكثير يؤدي إلى معايشة القلب الرب، ومراقبته في كل فعل، حتى لا يقطع العبد أمرًا دونه، ولا يخطو خطوة في غير رضاه، لأن الذكر كالغيث ينزل من السماء فتصبح الأرض مخضرة، وكذلك القلب ينزل عليه الذكر فيخضر بعد جدبه، ويبقى أثره حتى وإن سكت اللسان، مما يؤكِّد المعنى اللغوي لكلمة الذكر والذي قاله الفيروز آبادي في القاموس: " الذِكر بالكسر: الحفظ للشيء".
وبهذا تعلم أن حقيقة الذكر: الحفظ والتذكر والاستحضار، وعندها فقط تفهم ترجمة معاني كلمات ذي النون، وتتفهَّم مشاعره حين واجهك وصارحك قائلاً: "ويحك!! مَن ذَكَر الله على حقيقة ذكره نسي في جنب الله كل شيء، ومن نسي في جنب الله كل شيء حفظ الله عليه كل شيء، وكان له عِوضا من كل شيء".
3.
لا تطع غافلاً:
قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف من الآية:28].
وأصل الإغفال: إيجاد الغفلة وهي الذهول عن تذكر الشيء، وأريد بها هنا غفلة من نوع خاص، وهي الغفلة الدائمة الشاملة، وجعلت الآية الإغفال من الله تعالى كناية عن كونه في أصل خِلقة تلك القلوب وليس طارئا عليها، فهو طبع ملازم، والطبع لا يتخلف، وفي هذه الحال يكون مجرد النظر إلى هؤلاء الغافلين هذه الغفلة سببًا لحرمان الذاكر من حلاوة الذكر، لذا حذَّرنا الفضيل بن عياض بلهجة صارمة ولو من نظرة عابرة إلى مواكب الغافلين فقال: "لا تنظروا إلى مراكبهم، فإن النظر إليها يطفئ نور الإنكار عليهم".
هي خطة شيطانية خبيثة إذن يسلك بها الشيطان طريقه نحو قلوب الذاكرين وفق تخطيط محكم دقيق يمحو الذكر ليستبدله بالغفلة، وتبدأ خطته بالأمر رقم (1) وهو: زرع الغفلة في قلب عبد من العباد.
ومن بعده يأتي الأمر رقم (2)، والأمر رقم (3) في الخطة، ويتمثلان في قول الشيطان لجنده: "واقرنوا بين الغافليْن (2)، ثم استعينوا بهما على الذاكر (3)، ولا يغلب واحدٌ خمسة، فإن مع الغافلين شيطانين صاروا أربعة، وشيطان الذاكر معهم، وإذا رأيتم جماعة مجتمعين علي ما يضركم من ذكر الله ومذاكرة أمره ونهيه ودينه ولم تقدروا على تفريقهم؛ فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين، فقرِّبوهم منهم، وشوِّشوا عليهم بهم". 
فإن ابتُليت بمثل هؤلاء فلك أن تخرج من هذا الفخ بأن تقلِّد ابن الجوزي حين قال: "أعوذ بالله من صحبة البطالين، لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة ويطلبون الجلوس، ويُجرون فيه أحاديث الناس، وما لا يعني وما يتخلله: غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصا في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان، فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهاؤه بفعل الخير كرهت ذلك، وبقيت مهموما بين أمرين:
إن أنكرتُ عليهم وقعت وحشة، وإن تقبَّلتُه منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلب قصَّرت في الكلام لأتعجَّل الفراق، ثم أعددت أعمالا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد وبري القلام وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي". 
4.
بركة المضاعفات النبوية:
قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «ألا أدُلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار؟ تقول: الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله ملء ما خلق، الحمد لله عدد ما في السموات وما في الأرض، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه، والحمد لله على ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله ملء كل شيء، وتسبِّح الله مثلهن، تَعلَّمهن، وعلِّمهن عقِبك من بعدك» (صحيح الجامع [2615]).
ولاشك أن أمثال هذه الأذكار تجمع بين البركة النبوية إضافة إلى المضاعفة الربانية، لذا يتضاعف الأثر في صحيفة الأعمال ثوابًا، وفي شفاء القلوب نورًا واهتداءً.
5.
سباعية الذكر الرائعة:
المذكور واحد لكن الذكر مختلف، وما بين درجات الذاكرين تفاوت وتباين كما بين السماء والأرض، فكيف يصل الذاكر إلى أعلى الدرجات ويسبق غيره إلى أسماها؟!
قال ابن الجوزي في كلام عُجِن لفظه بمسك معانيه ففاح نسيمه وعبق عبيره حتى تعلق به الرواة وسارت به الركبان: "أول ما يحتاج إليه العازم على ذكر الله: التفرغ من الشواغل الظاهرة، ثم تسكين جوارح البدن عن الحركات الشاغلة، ثم قطع الفكر عن قلبه، ثم إشعار نفسه عظمة ما قد عزم عليه من ذكر ربه، ثم استفراغ الوسع في تجويد الذكر، ثم إطالة المجلس ما أمكنه إطالته، ثم التحفظ بالحالة التي استفادها قلبه من الرقة باجتناب الملهيات من حين يقوم عن الذكر إلى أن يعود إليه، فهذه الشرائط السبع من راعاها حق الرعاية بلغ من مراد الذاكرين أقصى الغاية".
وإليك تفصيل هذه الوصية النادرة واحدة واحدة:
‌أ- التفرغ عن الشواغل الظاهرة: فلا تذكر الله في مواضع الضوضاء والزحام التي تشوش على القلب فيتشتت في أودية كثيرة يسترق السمع إليها، ويا حبذا لو اخترت أوقات السكون الطبيعي في جوف الليل حين يصغي القلب إلى الخير دون أن يعترض طريقه أحد، ومن هنا تفهم لماذا أُمرنا بذكر الله في الثلث الأخير من الليل، ونفهم لماذا كان الإسراء ليلاً، ونفهم سِرَّ نهي النبي  صلى الله عليه وسلم أن يجهر أحدنا بصلاته على صلاة أخيه.
ومن الشواغل الظاهرة كذلك ما يشوِّش على البصر كذلك فيزيغ وراء ما يلفت الأعناق ويخلب العقول، وعلى المرء أن يجتنب الذكر في هذه الأماكن ما استطاع، يقتدي في ذلك برسول الله  صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان قِرام لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي  صلى الله عليه وسلم: «أميطي عنا قِرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي» (صحيح الجامع [1405]).
والقرام: ستر رقيق من صوف ذو ألوان ونقوش، وقد شغل النبي  صلى الله عليه وسلم عن صلاته فأمر بإزالته على الفور، بل ولما صلى في خميصة أهداها له أبو جهم، والخميصة: ثوب يلفت البصر بما فيه من زخارف وعلامات، ردَّها وقال: «اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة، وأتوني بأنْبجَانِيَّتِه فإنها ألهتني آنفا في صلاتي» (صحيح بن حبان [2337]).
أي لما شغله الثوب عن حضور قلبه في الذكر رده على صاحبه، وقوله: «وأتوني بأنْبجَانيَّتِه»: هي ثوب بلا أعلام، وإنما طلبها من أبي جهم وهو من أهدى إليه الخميصة أولاً لأن النبي  صلى الله عليه وسلم رقيق المشاعر؛ لم يُرِد أن يُؤَثِّر ردُّ هديته عليه في قلبه.
قال الطيبي: "فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرًا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية يعني فضلا عمن دونها". 
‌ب- تسكين جوارح البدن عن الحركات الشاغلة: فإن الجوارح سواقي إلى القلب، وأدنى حركة للجارحة تؤثر على القلب ولاشك سلبًا أو إيجابًا، فلتخشع وقت الذكر ولتكن ساكنًا سكون الطير، ولتقتد في ذلك بالصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا إذا سمعوا القرآن فكأن على رؤوسهم الطير، وكن كالليث إذا أراد الصيد، إذ ليس مع الجلبة قنص، ولا كالسكون معين على حضور القلب وتفريغ الباطن وتهيئته لتلقي بذور الخير وقطف ثمرات الذكر. 
‌ج- قطع الفكر عن قلبه: والمقصود به تهيؤ القلب -والقلب أولا وقبل كل شيء- قبل الدخول على من يطلع على السرائر والأفئدة، فتستحي أن تدخل عليه وقلبك مشغول مع غيره، أو تنطق بكلمات الثناء عليه وقلبك يثني على سواه، أو تتعوَّذ خوفًا من عذابه وقلبك خائف من عباده، أو تحمده وتشكره بلسانك والقلب جاحد ناكر لا يأمر الجوارح بشكر أو معروف.
ولقطع الفكر الدنيوي عن القلب طريقتان ذكرهما ابن القيم فاسمع كلماته دواء ناجعًا شافيًا معافيًا وكأنها قميص يوسف أُلقي على أجفان يعقوب، فأبصر كل قلب كان قد عمي.
يقول رحمه الله: "من الذاكرين من يبتدىء بذكر اللسان وإن كان على غفلة، ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطئا على الذكر، ومنهم من لا يرى ذلك ولا يبتدىء على غفلة، بل يسكن حتى يحضر قلبه فيشرع في الذكر بقلبه، فإذا قوى استتبع لسانه فتواطئا جميعًا، فالأول ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه، والثاني ينتقل من قلبه إلى لسانه من غير أن يخلو قلبه منه، بل يسكن أولاً حتى يحس بظهور الناطق فيه، فإذا أحس بذلك نطق قلبه، ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني، ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذاكرًا، وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده". 
ليس المطلوب أي ذكر إذن؛ بل ذكر خاص ينبع من القلب ليصل إلى الرب، ويكون معه جمع هَمٍّ، وتطليق دنيا، وخلوة ساعة، وسِحْر سَحَر، أخي، إذا غاب قلبك تاهت رسائلك في الطريق، وإذا حضر وصلت أسرع من البرق.
‌د- إشعار نفسه عظمة ما قد عزم عليه من ذكر ربه:
لقد أورد ابن القيِّم في كتابه القيِّم الوابل الصيِّب من الكلم الطيِّب أكثر من مائة فائدة للذكر، من تقلب فيها قذف الله في قلبه نور التعظيم لما بادر إليه من ذكره، لكني اخترت منها اثنتين فحسب:
الأولى: قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [البقرة من الآية:152]
ولو لم يكن من فضائل الذكر غير هذه لكفتنا فضلاً وشرفًا وفاضت علينا، إن ذكر الله لنا إن ذكرناه هو ذكره لنا برحمته وفضله، وذكره لنا بتأييده ونصره، وذكره لنا بمغفرته وستره، وذكره لنا بتوفيقه وبِرِّه، وذكره لنا واحدًا واحدًا بأسمائنا في الملأ الأعلى، وفي المقابل إذا نسي أحد ذكر الله نسيه الله، ونسيان الله له: إهماله له، وطرده من رحمته، وحرمانه من بركته، فلما ترك ذكر الله تركه الله في عذاب الدنيا بتعسير أمره، وفي الآخرة بتعذيب روحه وبدنه، فما أقبح نسيانك لذكر من لا يغفل لحظة واحدة عن بِرِّك.
والثانية: قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت من الآية:45]
ومعنى أكبر أي ذكره لكم أكبر من ذكركم إياه.
ومن معاني أكبر أي أكبر من كل عبادة أخرى شرفًا وقدرًا وقربًا إلى الله.
ومن معانيها أي أكبر مما تتصورون أو يخطر ببالكم أو تحلمون.
ومن معانيها أي أكبر من دنياكم التي عليها تنافسون بكل ما عليها من نعيم لأنه يورث النعيم في الآخرة ولا مقارنة.
ومن معانيها أي أكبر من أن تصمد أمام الذكر أي فاحشة أو منكر، فالذكر إذا وقع سحق ومحق كل خطيئة ومعصية، ولأنه أكبر فما حسن عمر أحد ولا تزيَّنت حياته بأفضل من ذكره لله وتسبيحه وتهليله، فعن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن نفرًا من بني عذرة ثلاثة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا.
قال: فقال النبي  صلى الله عليه وسلم: «من يكفيهم؟» قال طلحة: "أنا".
قال: فكانوا عند طلحة، فبعث النبي  صلى الله عليه وسلم بعثًا، فخرج فيه أحدهم فاستشهد، ثم بعث بعثاً فخرج فيه آخر فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه.
قال طلحة: فرأيتُ هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيتُ الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استشهد أخيرًا يليه، ورأيت أولهم آخرهم.
قال: فداخلني من ذلك فأتيت النبي  صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: «وما أنكرت من ذلك؛ ليس أحد أفضل عند الله عز وجل من مؤمن يُعمَّر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله».
‌هـ- استفراغ الوسع في تجويد الذكر:
إن تحسين الصوت بالذكر، وإعطاء كل حرف حقه، والتغني به، وقراءته بحزن، كل هذا يجعل للذكر طعمًا آخر وأثراً أوكد، ومن هنا تفهم لماذا أحب رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن يسمع القرآن من غيره، وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب الصوت الندي الشجي الذي أبكى رسول الله  صلى الله عليه وسلم جين قرأ عليه صدر سورة النساء ، لذا مدحه النبي  صلى الله عليه وسلم بقوله: «من أحب أن يقرأ القرآن غضَّا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أمِّ عبد» (مسند أحمد [6/128]).
‌و- إطالة المجلس ما أمكنه إطالته:
قلما تجتمع الجودة مع السرعة، وجرِّب أن تعطي اثنين كتابين، وتطلب إليهما أن ينسخا بيديهما عشر صفحات كل على حدة؛ أحدهما في خمس دقائق والآخر في ساعة من الزمن، وقارن بين النسختين، وستجد ولا شك أن صاحب الزمن الأطول كتابته أجود وخطه أجمل ولو كان سيئ الخط في الأصل، لأن الوقت في صالحه، والآخر متعجِّل ولذا خطه غير مقروء ولا يكاد يُفهم.
فافهم ما وراء المثل، واعلم أن مجالس البشر تختلف عن مجالس رب البشر؛ مجالس البشر إذا طال فيها المجلس كان للشيطان فيها نصيب، ومجالس رب البشر كلما طالت كلما ابتعد الشيطان عنها ولم يعد له فيها أدنى نصيب.
‌ز- التحفظ بالحالة التي استفادها قلبه:
وذلك بصيانة النفس بعد مجالس الذِّكر عن الوقوع في الحرام، والإغراق في اللهو، والإسراف في المباح، وحتى في حالات عدم الذكر عليك استحضار نية التقوي بالمباح على ذكرالله وطاعته، حتى يحين موعد الذكر القادم، فيكون حال روحك إما أن تتصل أو تتهيأ كي تتصل.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١