فراق الولد! - عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
ما أقسى موت الولد!إنه الجرح الذي لا يندمل، والعذاب الذي لا يُحتمل.
تغيب معه في ظلمة اللحود بهجة الوجود ولذة الموجود.
وليس للوالد المنكود بعد فراق حبيبه المفقود إلا الصبر واحتساب الأجر، والأمل في اللقاء في دار الخلود!
وهذا أبو الحسن عليُّ بن محمد التِّهاميُّ يرثي بها ابنه أبا الفضل ويهتف في مسمعك بألمه، ويناجيك بحزنه، فأصغ له السمع، وأرهف له الحس، وافتح له مغاليق القلب ..
حُكمُ المنيّة في البريّة جارِ *** ما هذه الدُّنيا بدارِ قَرارِ
بينا يُرى الإنسانُ فيها مُخبِرًا *** حتى يُرى خَبرًا من الأخبار
طُبعَت على كدرٍ وأنت تريدُها *** صَفوًا من الأقذاء والأكدار
ومكلِّفُ الأيامِ ضِدَّ طِباعها *** مُتطلِّبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ
وإذا رجوتَ المستحيل فإنَّما *** تَبني الرجاءَ على شَفيرٍ هارِ
فالعيشُ نومُ والمنيّةُ يقظةٌ *** والمرءُ بينَهما خَيالٌ ساري
والنفسُ إنْ رَضِيَت بذلكَ أو أبتْ *** مُنقادةٌ بأزِمَّةِ الأقدارِ
فاقضوا مآرِبكم عِجالًا إنّما *** أعمارُكم سَفَرٌ من الأسفار
وتراكَضُوا خيلَ الشباب وبادِروا *** أن تُستردَّ فإنّهنَّ عَواري
فالدهرُ يخدعُ بالمُنى ويَغضُّ إن *** هنّى ويهدمُ ما بَنى بِبَوار
ليسَ الزمانُ ولو حَرِصتَ مُسالمًا *** خُلقُ الزمانِ عداوةُ الأحرار
إني وُتِرتُ بصارمٍ ذي رَونَقٍ *** أعددته لِطلابهِ الأوتار
أثني عليه بأثرِهِ ولو انَّه *** لم يعتبط أثنيتُ بالآثار
يا كوكبًا ما كانَ أقصرَ عمرَه! *** وكذاكَ عمرُ كَواكبِ الأسحار
وهلالَ أيامٍ مَضى لم يستدِر *** بَدرًا ولم يُمهل لوقتِ سِرار
عَجِلَ الخُسوف عليهِ قبلَ أواِنه *** فَغَطاهُ قبلَ مَظَّنة الإبدار
واستُل مِن أترابِه ولِداتِه *** كالمُقلَةِ استُلّتْ من الأشفار
فكأنَّ قَلبي قَبرُهُ وكأنَّهُ *** في طَيِّه سِرٌّ منَ الأسرار
إن تحتقِر صِفرًا فربَّ مفخَّمٍ *** يبدو ضئيل الشخصِ للنُظّار
إنَّ الكواكبَ في علوِّ مَحَلها *** لتُرى صِغارًا وهي غيرُ صِغار
وَلدُ المُعزَّى بعضُه فإذا انقضى *** بعضُ الفتى فالكلُّ في الآثار
أبكيهِ ثم أقولُ معتَذِرًا لهُ *** وُفّقتَ حينَ تركتَ ألأم دار
جاورتُ أعدائي وجاورَ ربَّه *** شَتّانَ بَينَ جِواره وجواري
أشكو بِعادَكَ لي وأنتَ بمَوضِعٍ *** لولا الرَّدى لَسَمعتَ فيه سِراري
والشَّرقُ نحوَ الغَربِ أقربُ شُقَّةً *** مِن بُعدِ تِلكَ الخَمسةِ الأشبار
هَيهاتَ قد عَلقَتكَ أشراكُ الرَّدى *** وعتاقَ عمرَكَ قاطِعُ الأعمار
ولقد جَريتَ كما جَريتُ لِغايَةٍ *** فبلغتَها وأبوكَ في المِضمار
وإذا نَطقتُ فأنتَ أوّلُ مَنطقي *** وإذا سَكتُّ فأنتَ في إضماري
أخفي من الرُّقباءِ نارًا مِثلَما *** يُخفي مِنَ النار ِ الزِّنادُ الواري
وأخفِّضُ الزفَراتِ وهيَ صَواعِدٌ *** وأكَفكِفُ العَبَراتِ وهيَ جَوارِ
وشِهابُ زنَدِ الحُزنِ إن طاوعتَه *** وارٍ وإن عاصَيتَه مُتوارِي
وأكفُّ نِيرانَ الأسى ولربَّما *** غُلِبَ التَّصبُّرُ فارتَمَتْ بِشَرار
ثَوبُ الرِّياءِ يَشِفُّ عمّا تَحتَهُ *** وإذا التحفتَ بهِ فإنَّكَ عارِي
قَصُرت جُفوني أم تَباعَدَ بينَها *** أم مُقلتي خُلِقت بِلا أشفار
جَفَت الكَرى حتّى كأنَّ غِرارَهُ *** عِندَ إغمضاضِ العَينِ حَدُّ غِرار
أُحيي ليالي التِّمِّ وهيَ تُميتُني *** ويُميتُهُنَّ تَبَلُّجُ الأنوار
حتَّى رأيتُ الفَجرَ يَرفَعُ كَفُّهُ *** بالضوءِ رَفرفَ خيمةٍ كالقار
والصُّبحُ قد غَمرَ النجومَ كأنهُ *** سَيلٌ طَغى وطَفا على النُّوَّار
لو كنتَ تُمنَعُ خاضَ دونَك فِتيةٌ *** مِنّا بِحارَ عَواملٍ وشِفار
ودَحَوا فُوَيقَ الأرضِ أرضًا من دَمٍ *** ثم انثَنَوا فبنَوا سَماءَ غُبار
قومٌ إذا لبِسوا الدروعَ حسبتَها *** سُحُبًا مُزرَّرَةً على أقمار
وترى سيوفَ الدّارعينَ كأنها *** خلُجٌ تُمَدُّ بِها أكفُّ بحار
لو أشرعوا أَيمانَهم من طولِها *** طَعنوا بها عِوضَ القَنا الخَطّار
شُوس إذا عَدِموا الوَغى انتَجَعوا لها *** في كلِّ أوبٍ نُجعةَ الأمطار
جَنَبوا الجبادَ على المطيِّ وزاوَجوا *** بينَ السُّروجِ هُناكَ والأكوارِ
وكأنَّما مَلأوا عِيابَ دُروعِهم *** وغُمودَ أنصلِهم سَرابَ قِفار
وكأنّ من صنعَ السوابغَ عزّهُ *** ماءُ الحديدِ فصاغَ ماءَ قَرار
زَردًا وأحكمَ كلَّ موصِلِ حَلقةٍ *** بجَبابةٍ في مَوضِعِ المِسمار
فتدَرَّعوا بمتونِ ماءٍ راكدٍ *** وتَقَنَّعوا بحُبابِ ماءٍ جار
أُسُدٌ ولكن يؤثِرونَ بزادِهم *** والأسدُ ليس تَدينُ بالإيثارِ
يَتعطَّفونَ على المُجاوِرِ فيهِمُ *** بالمُنفِساتِ تعطُّفَ الأظآرِ
يتزَّينُ النادي بحُسنِ وُجوههِم *** كتَزيُّنِ الهالاتِ بالأقمار
من كلِّ مَن جعلَ الظُّبَى أنصارَهُ *** وكَرمنَ فاستغنى عنِ الأنصار
واللَّيثُ إن بارزتَه لم يعتمِد *** إلاّ على الأنيابِ والأظفار
وإذا هو اعتقلَ القناةَ حَسبتَها *** صِلًا تأبَّطَهُ هِزَبرٌ ضار
زَردُ الدِّلاصِ منَ الطِّعان بِرُمحهِ *** مِثلُ الأساوِرِ في يدِ الإسوار
ويَجُرُّ ثمَّ يجرُّ صَعدةَ رُمحه *** في الجَحفلِ المُتَضايِقِ الجَرّار
ما بينَ تُربٍ بالدِّماءِ مُلبَّدِ *** لَزِقٍ ونَقعٍ بالطِّرادِ مُثار
والهونُ في ظلِّ الهوينى كامِنٌ *** وجَلالَةُ الأخطارِ في الإخطار
تَندى أسِرّةُ وَجهه ويَمينهِ *** في حالةِ الإعسارِ والإيسارِ
ويَمدُّ نحوَ المكرُماتِ أنامِلًا *** لِلرِّزقِ في أثنائِهنَّ مَجار
يَحوي المَعالي غاليًا أو خاليًا *** أبدًا يُداري دونَها ويُماري
قد لاحَ في ليلِ الشبابِ كواكبٌ *** إن أمهِلَتْ آلت إلى الإسفار
وتلهُّبُ الأحشاءِ شيَّبَ مَفرِقي *** هذا الضياءُ شُعاعُ تلكَ النّارِ
شابَ القَذالُ وكلُّ غُصنٍ صائرٌ *** فَينانُهُ الأحوى إلى الإزهار
والشِّبهُ منجذبٌ فِلم بيضُ الدُّمى *** عن بيضِ مَفرِقه ذَواتُ نِفار
وتودُّ لو جَعلتْ سوادَ قُلوبها *** وسوادَ أعيُنِها خِضابَ عِذاري
لا تَنِفرُ الظَّبياتُ منهُ فقد رأت *** كيفَ اختلافُ النَّبتِ في الأطوار
شَيئانِ يَنقَشعانِ أولَ وهَلةٍ؛ *** ظِلُّ الشَّبابِ وخُلَّةُ الأشرار
لا حبَّذا الشَّيبُ الوفيُّ وحَبذا *** شَرخُ الشَّبابِ الخائِنِ الغَدّار
وَطَري منَ الدنيا الشّبابُ ورَوقُهُ *** فإذا انقضى فقد انقَضَتْ أو طاري
قَصُرتْ مَسافَتُهُ وما حَسَناتُهُ *** عِندي ولا آلاؤُه بِقِصار
نَزدادُ هَمًّا كُلَّما ازدَدنا غِنىً *** فالفَقرُ كُلُّ الفَقرِ في الإكثار
ما زادَ فوقَ الزّادِ خُلفًا ضائِعًا *** في حادثٍ أو وارِثٍ أو عارِ
إنِّي لأرحَمُ حاسِديَّ لِحَرِّ ما *** ضَمِنت صُدورهُمُ من الأوغار
نَظروا صَنيعَ اللهِ بي فَعيونُهم *** في جَنّةٍ وقلوبُهم في نار
وسَترتُها بتواضعي فتطلَّعت *** أعناقُها تعلو على الأستار
ومنَ الرجالِ مَجاملٌ ومَعالم *** ومنَ النُّجومِ غوامِضٌ ودَرارِ
والناسُ مُشتبهونَ في إيرادِهم *** وتَفاضُلُ الأقوام في الإصدار
عمري لقد أوطأتُهُم طرق العُلا *** فعَمُوا ولم يَطَأوا على آثاري
لو أبصَروا بعُيونهم لاستَبصَروا *** وعمى البَصائِرِ من عَمى الأبصار
هلاَّ سَعَوا سَعيَ الكرامِ فأدركوا *** أو سَلَّموا لمواقِعِ الأقدار
ذهبَ التكرُّمُ والوفاءُ منَ الورى *** وتَصرَّما إلا منَ الأشعار
وفشت خياناتُ الثِّقاتِ وغيرهم *** حتى اتَّهمنا رؤيةَ الأبصار
ولربِّما اعتضَدَ الحَليمُ بجاهِلٍ *** لا خَيرَ في يُمنى بغيرِ يَسار