الكلام على قول ابن مسعود: ( ليس عام إلا والذي بعده شر منه )
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
الكلام على قول ابن مسعود: ليس عام إلا والذي بعده شر منهقال المصَنِّفُ: وقال[1]: أنبأنا سفيان بن عيينة [2]، عن مجالد [3]، عن الشعبي [4]، عن مسروق [5] قال: قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه[6]: ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول: عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم، فيهدم الإسلام ويثلم.
معنى قوله رضي الله عنه: (ليس عام إلا والَّذي بعده شر منه):
قلت: الناظر في حياتنا يرى ذلك بأم عينيه، ومما يؤيد ذلك: ما روى البخاري برقم (6657) عن الزبير بن عدي، قال: أتينا أنسًا رضي الله عنه، فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج، فقال اصبروا؛ (فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربَّكم)، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(13/ 20): قوله: (فإنه لا يأتي عليكم زمان): في رواية عبدالرحمن بن مهدي: (لا يأتيكم عام).
وبهذا اللفظ أخرج الطبراني بسند جيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه نحو هذا الحديث موقوفًا عليه، قال: ليس عام إلا والذي بعده شر منه.
وله عنه بسند صحيح قال: أمس خير من اليوم، واليوم خير من غد، وكذلك حتى تقوم الساعة.
قوله: (إلا والذي بعده): كذا لأبي ذر، وسقطت الواو للباقين، وثبتت لابن مهدي.
قوله: (أشر منه): كذا لأبي ذر والنسفي، وللباقين بحذف الألف، وعلى الأول شرح ابن التين، فقال: كذا وقع أشر بوزن أفعل، وقد قال في "الصحاح": فلان شرٌّ من فلان، ولا يقال: أشر إلا في لغة رديئة.
ووقع في رواية محمد بن القاسم الأسدي، عن الثوري ومالك بن مغول، ومسعر وأبي سنان الشيباني أربعتهم، عن الزبير بن عدي بلفظ: (لا يأتي على الناس زمان إلا شر من الزمان الذي كان قبله)، سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخرجه الإسماعيلي.
وكذا أخرجه ابن منده، من طريق مالك بن مغول بلفظ: (إلا وهو شر من الذي قبله).
وأخرجه الطبراني في "المعجم الصغير"، من رواية مسلم بن إبراهيم، عن شعبة عن الزبير بن عدي وقال: تفرد به مسلم عن شعبة.
قوله: (حتى تلقوا ربَّكم)؛ أي: حتى تموتوا، وقد ثبت في "صحيح مسلم" في حديث آخر: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا).
قوله: سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم في رواية أبي نعيم: سمعت ذلك.
قال ابن بطال: هذا الخبر من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بفساد الأحوال، وذلك من الغيب الذي لا يعلم بالرأي، وإنما يعلم بالوحي انتهى؛ اهـ.
قلت: وله تتمة تجدها في حل الإشكالات الآتية:
إشكال وجوابه: لو قيل: إنه قد وجد في قرنٍ ما من الخير ما لم يسبق له مثيل، سواء كان ذلك في بلدٍ، أو زمان، أو مكان، والجواب: قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(13/ 21): وقد استُشْكِلَ هذا الإطلاق، مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبدالعزيز، وهو بعد زمن الحجاج بيسير.
وقد اشتَهر الخبر الذي كان في زمن عمر بن عبدالعزيز، بل لو قيل: إن الشر اضمحلَّ في زمانه لما كان بعيدًا، فضلًا عن أن يكون شرًّا من الزمن الذي قبله.
وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسُئل عن وجود عمر بن عبدالعزيز بعد الحجاج، فقال: لا بد للناس من تنفيس.
وأجاب بعضهم: إن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء.
وفي عصر عمر بن عبدالعزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني)، وهو في "الصحيحين".
وقوله: (أصحابي أمنةٌ لأُمتي، فإذا ذهب أصحابي؛ أَتى أمتي ما يوعدون)؛ أخرجه مسلم.
ثم وجدت عن عبدالله بن مسعود التصريح بالمراد، وهو أَولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة، عن زيد بن وهب، قال: سمعت عبدالله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاءً من العيش يصيبه ولا مالًا يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقلُّ علمًا من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يَهلكون.
ومن طريق أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود إلى قوله: شر منه، قال: فأصابتنا سنة خصب، فقال: ليس ذلك أعني، إنما أعني ذهاب العلماء.
ومن طريق الشعبي، عن مسروق، عنه قال: لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميرًا خيرًا من أمير، ولا عامًا خيرًا من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفًا، ويجيء قوم يفتون برأيهم.
وفي لفظ عنه من هذا الوجه: وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم، فيَثلِمُون الإسلام ويهدمونه.
وأخرج الدارمي الأول من طريق الشعبي بلفظ: لست أعني عامًا أخصبَ من عام، والباقي مثله، وزاد: وخياركم قبل قوله: وفقهاؤكم.
ثم قال الحافظ: واستشكلوا أيضًا زمان عيسى ابن مريم بعد زمان الدجال:
وأجاب الكرماني: إن المراد الزمان الذي يكون بعد عيسى، أو المراد جنس الزمان الذي فيه الأمراء، وإلا فمعلوم من الدين بالضرورة أن زمان النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم لا شر فيه.
قلت: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام، كالدجال وما بعده، ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى، فله حكم مستأنف، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة، بناءً على أنهم هم المخاطبون بذلك، فيختص بهم، فأما من بعدهم، فلم يقصد في الخبر المذكور، لكن الصحابي فهم التعميم، فلذلك أجاب من شكا إليه الحجاج بذلك،وأمرهم بالصبر، وهم أو جلُّهم من التابعين.
واستدل ابن حبان في "صحيحه" بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي، وأنه يملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جَوْرًا.
ثم وجدتُ عن ابن مسعود ما يَصلُح أن يفسَّر به الحديث، وهو ما أخرجه الدارمي بسند حسن، عن عبدالله قال: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما أني لست أعني عامًا؛ اهـ.
قوله: (أخصب): قال ابن الأثير في "النهاية"(ص266): الخصب: ضد الجدب؛ اهـ.
قوله: (لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم): هذا تفسير من عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لقوله: ليس عام إلا والذي بعده شر منه.
قوله: (يقيسون بآرائهم): أي: من غير دليلٍ، ومن هنا افتتح باب شرٍّ على المسلمين، فيحرِّمون بالقياس، ويحلِّلون بالقياس، لا أقول بالقياس الصحيح، ولكن قياس مع جهل، وقياس مع تقديم هوى النفس، وقياس مع إضاعة الدين واستثقاله، وقياس مع المخالفة للأدلة، والله أعلم، وهو المستعان.
قوله: (يهدم الإسلام ويثلم): قال ابن الأثير في "النهاية"(ص1002): الهدم: هو الانهيار والسقوط؛ اهـ.
والثلم: قال ابن الأثير في "النهاية"(ص126): الثلم: هو التكسير؛ اهـ.
بعض ما في قول ابن مسعود رضي الله عنه: (ليس عام إلا والذي بعده شر منه...
إلخ)، من الفوائد:
الأولى: أهمية وجود العلماء النَّصَحة في أوساط الناس، فهم نورٌ يستضاء به في الظلمات.
الثانية: أهمية وجود أهل الفضل وخيار الناس في أوساط الناس، عسى أن يرفع الله بهم البلاءَ.
الثالثة: كلما بعُد الناس عن العصر النبوي، قلَّ الدين وضعُفت الاستقامة، وقلَّ الخير وكثُر الشر.
الرابعة: أغلى ما يَملِكه المؤمن في هذه الحياة دينُه، فهو رأس ماله في الدنيا والآخرة.
الخامسة: الاستفادة من تجارب العلماء، وبذل ما تلخَّص من التجربة عند الحاجة لها، والله أعلم.
[1] أي: ابن وضاح في "البدع" (ص33)، ورواه الدارمي في "مقدمة سننه" برقم (194)، من طريق مجالد بن سعيد به، ومجالد ضعيف، وقد أعلَّه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 180)، بسب مجالد بن سعيد، وجاء أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه عند البيهقي في "الكبرى" (3/ 363).
وله شواهد ذكر بعضها الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/ 27)، وصحَّحه بها، فيكون صحيحًا بشواهده، والله أعلم.
[2] هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغيَّر حفظه بأخرة، وكان ربما دلَّس، لكن عن الثقات من رؤوس الطبقة الثامنة، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار، مات في رجب سنة ثمان وتسعين، وله إحدى وتسعون سنة؛ ع؛ اهـ من "التقريب" (ص245).
[3] هو مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، أبو عمرو الكوفي ليس بالقوي، وقد تغيَّر في آخر عمره، من صغار السادسة، مات سنة أربع وأربعين؛ م 4؛ اهـ من "التقريب" (ص520).
[4]هو عامر بن شراحيل الشعبي أبو عمرو ثقة مشهور فقيه فاضل، من الثالثة.
قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين؛ ع؛ اهـ من "التقريب" (287).
[5] هو مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي، أبو عائشة الكوفي ثقة فقيه عابد مخضرم من الثانية، مات سنة اثنتين ويقال: سنة ثلاث وستين؛ ع اهـ من التقريب" (ص528).
[6] هو عبدالله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبدالرحمن من السابقين الأولين ومن كبار علماء الصحابة مناقبه جمة.
أمَّره عمر على الكوفة ومات سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة؛ ع؛ اهـ من "التقريب" (ص323).