التدين الصحيح وترشيد الحياة
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
التدين الصحيح وترشيد الحياةليس يوجهنا للحديث عن هذا الموضوع اندفاعٌ لعاطفة جيَّاشة، أو سِجال آنٍ، ولكن ثمة حالة من الفراغ المنهجي والتأصيلي يطبع العلاقة بين المفاهيم ذات الحمولة الدينية؛ حيث يتوهم البعض وجود انفصام وانفصال بين تلك المفاهيم بِناءً على تصور معين يرسمه لكل مفهوم على حِدَةٍ.
ومن هنا نتساءل: ما حقيقة الحياة في منظور النص الديني الإسلامي؟ وما حقيقة التدين الصحيح الذي يتوافق مع منظور الإسلام للحياة؟
إن نظرة خاطفة في سياق القرآن لتُوقِفُكَ على عشرات المواضع التي ورد فيها مفهومُ الحياة بأساليب متنوعة، فتارة يتحدث عنها في سياق كونها مظهرًا من مظاهر الخلق الإلهي المقصود للابتلاء والاختبار؛ حيث يقول الله: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، فالحياة إذًا فعل مربوب، ومظهر من مظاهر العطاء الإلهي الذي لا يملكه إلا هو، وتارة يتحدث القرآن عن الحياة في سياق كونها مجالًا لاستخلاف الإنسان، وعمارة الأرض بالعمل الإيجابي الصالح بالتساوي بين جنس الإنسان ذكرًا وأنثى؛ فيقول: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]؛ فهذا وعد إلهي للإنسان المسلم - ذكرًا كان أو أنثى - أنه متى حرص على العمل الصالح المبنيِّ على الإيمان الصادق، فإنه سيعيش حياة طيبة خالية من الضَّنْكِ، ووعده لا يُخلَف؛ حيث بيَّن ذلك فقال: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، كما نجد الحياة في السياق القرآني من المسؤوليات الجسيمة التي حملها الإنسانُ على عاتقه؛ حيث يجب الحفاظ عليها سواء تعلَّقت به شخصيًّا، أو بالأفراد والمجتمع، وجعل الإسلام ذلك من آكد المقاصد الضرورية في تشريعه، والنصوص في ذلك أكثر من أن تحصى؛ ومنها: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، وقال: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151]، وقال عز من قائل: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، فهذه النصوص وغيرها كثيرٌ تؤكد أهمية الحياة باعتبارها مسؤولية وحقًّا طبيعيًّا للإنسان يجب مراعاته وحفظه.
وإذا كان القرآن تناول مفهوم الحياة في سياقات متنوعة تدل على أصالته الدينية، فما علاقة مفهوم الحياة بالتدين؟ لقد جاء مفهوم الحياة متصلًا بالتدين في آيات عدة جديرٌ بمن يروم الموضوعيةَ أن يُولِيَها اهتمامه، فثمة آيات تبين أن الاستجابة لأمر الله الخالق هو عين الحياة؛ وهو ما أكده القرآن إذ قال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]؛ ويعلق القرطبي على الآية فيقول: "المعنى: استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهٍ، ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية"[1].
ويُجلِّي الطاهر بن عاشور حقيقة الحياة في الآية وتجلياتها؛ فقال: "وهو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان، فيعم كل ما به ذلك الكمال من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخلق الكريم، والدلالة على الأعمال الصالحة وإصلاح الفرد والمجتمع، وما يتقوَّم به ذلك من الخلال الشريفة العظيمة، فالشجاعة حياة للنفس، والاستقلال حياة، والحرية حياة، واستقامة أحوال العيش حياة"[2].
فالاستجابة لنداء الخالق الذي أبدع الكونَ، واستخلف فيه الإنسان ليعمره بالعمل الإيجابي والصالح في شتى المجالات الحياتية - هو الحياةُ الحقة الكاملة، وفي موضع آخرَ يبين أن المرجعية الإيمانية المبنية على وحدانية الخالق ومربوبية الكون هي الحياةُ حقًّا؛ فقال: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122]، فسمَّى الإيمان به حياةً، وسمى الاستجابة له ولرُسُلِهِ حياة، ذلك أن المرجعية الإيمانية تعطي الوجودَ معنًى، فهو وجود غائي انتفت عنه الصدفةُ والعبثية؛ كما صرح بذلك القرآن إذ قال: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، وأصرح منه قوله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، بيد أن ما تتأكد الحاجةُ للانتباه له أن التدين لا يكون سليمًا ما لم ينطلق من مقومات هامة تضبطه، وتجعل الحياة وفقه حياةً لها معنى؛ ومن أهمها ما يلي:
بناء التدين على العلم المنافي للجهل، وهذه قضية جوهرية في التدين الصحيح، ومن هنا تبهرك الكثرةُ الوفيرة التي وردت بها النصوصُ القرآنية المؤكدة على العلم، فيكفي أن تستحضر أن أول كلمة تمثل الخطاب القرآني للإنسان تربطه بالعلم والقراءة والمعرفة في قول الله: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]، بل ونهى القرآن عن اتباع غير العلم فقال: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36]، كما أمر بلزوم السؤال العلمي؛ فقال: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، ولم يضع القرآن نهاية لطلب العلم، بل أمر بالاستزادة منه؛ فقال مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، ولا يَذهبنَّ بك الظنُّ الواهمُ أن العلم المراد دينًا مقصورٌ على مجال محدد دون غيره، بل يشمل كل علم ينفع الإنسانية بغض النظر عن مجاله التخصصي؛ إذ مهما يكن مجال علم ما لا يخرج عن العلم بالله، أو العلم بأمره، أو العلم بخَلقه، وكلها مطلوبة دينًا مرغوب تحصيلُها بشكل نسقي غير منفصل، وإن وقع هناك خلل في التداول التاريخي للعلوم.
ارتباط العلم بالعمل دون الوقوع في ازدواجية متناقضة، وهي قضية مركزية في التدين الصحيح وفق المنظور القرآني، وهو ما يؤكده اقتران الإيمان بالعمل في النص القرآني فيما يزيد على مائة موضع؛ كقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 7]، وقوله: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97]، وهذا المقوم يدل على صدق التدين، وأنه ليس مُداراةً اجتماعية تتحكم فيه المصالحُ الذاتية، بل يصدر عن مرجعية ثابتة تقتضي استقامة السلوك وانضباط المواقف.
التدين لا يعني ترك الاستمتاع بطيبات الحياة وجماليتها والأنس بها:
فهذا القرآن يؤكد ذلك بأسلوب حجاجي؛ فيقول: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32]، ويقول عن شريعة الرسالة النبوية الخاتمة: ﴿ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157]، فكل ما لا يضر الإنسان فردًا ومجتمعًا، واستقر في الفِطَرِ السليمة، والعقول الراجحة، فهو متاع طيب مرغوب فيه تديُّنًا، فأي متعة وحياة خارجة إذًا؟
التدين الصحيح مبني على روح المبادرة للنفع العام.
ومن هنا تجد عدة نصوص شرعية تدعو للمبادرة للخير؛ كقوله تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48]، ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) وقال: ((تبسُّمُك في وجه أخيك صدقة))، بل وأخبر أن سعيك لقضاء حوائج الناس مدعاة للحماية والرعاية الربانية؛ فقال: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))، فالتدين الصحيح لُحمةٌ صلبة تُرسي أواصرَ العلاقة الاجتماعية في صورة الجسد الواحد، فتنكسر على صخرته كلُّ نوازع الطائفية والفئوية والعنصرية.
التدين الصحيح ليس خمولًا ينفصل عن جمال الحياة:
بل هو مبنيٌّ على معايشة الإنعام الإلهي السابغ ظاهرًا وباطنًا، من خلال مبدأ الشكر المستبقي للإنعام، بحيث إن المتدين وهو يعايش نعم الخالق المتعددة لا يعيش في الغفلة، بل هو دائم اليقظة، يقدر كل نعمة على حدة، فيحمله ذلك على رعايتها وحمايتها والقيام بحقها، وذلك عين الشكر فيرى الحياةَ كلها نعمة وعطاء ربانيًّا؛ فيُقدِّرها ويرعاها، فيوظفها توظيفًا غائيًّا إيجابيًّا، دون جعلها وسيلة لتكريس الفساد الأخلاقي، ومرتعًا لتعبيد الإنسان وقهره بألوان من التسلط.
التدين الصحيح ليس مثاليًّا، بل واقعيًّا يأخذ بالاعتبار الطبيعةَ البشرية للإنسان:
ولذا فليس من شرط التدين الصحيح ألَّا يصدرَ أيُّ خطأ من المتدين؛ لأن التركيب الرباني لطبيعة الإنسان جعلته مخلوقًا مركبًا ومهيَّأً لأن يصدر منه الخطأ، وإنما وظيفة المتدين هي أن يُغلب جانبَ الخير فيه على جانب الشر ما استطاع إلى ذلك جهدًا وحرصًا، ومن هنا ترى القرآن يخبر عن وضع الميزان؛ فقال: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8]، وقال: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10]، فالمطلوب من الإنسان هو الحرص على التزكية والتطهير للنفس، وتغليب كِفَّةِ الصلاح والخير فيه على ما يناقضها، فإن غلبتْهُ نفسُه، سارع للاستدراك عن طريق التوبة والإنابة، وهذا ما لا يستوعبه البعضُ ممن يشمتون ويلمزون وقوعَ المتدينِ في بعض الأخطاء، مما لا يسلم منه أحد، وتَسَعُهُ رحمةُ ربه الذي خلقه.
التدين الصحيح ليس تفضيلًا للنفس على الغير:
ذلك أن حقيقة القبول للأعمال غير معلومة للخلق، بل هي مما استأثر بها علمُ الخالق المعبود، ولذلك يؤكد القرآن ذلك في قول الله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]؛ أي: لا تفضل نفسَك مهما رأيت أنك متدين مخلص، فرُبَّ من تستصغره يكون أفضل درجة عند الخالق منك، وهذه مسألة ذات أهمية كبرى قد يغفل عنها البعض ممن لم يستوعبوا التدين بمقوماته الأساسية وفق النسقية التشريعية القرآنية.
وثمة أمر تمسُّ الحاجة للتنبيه إليه؛ وهو أن التدين ليس هو الدين نفسه؛ إذ الأخير هو عين الوحي المتمثل في نصوص القرآن والمقبول من السنة الثابتة، وأما التدين فهو ممارسة لشعائر الدين، ومن هنا قد تعتريه النواقص والشوائب، متى انعدمت فيه الضوابط والمقومات التي ألمعنا لبعضٍ منها.
[1] الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، القاهرة: دار الشعب، ط2، 1372هـ، (7/ 348).
[2] التحرير والتنوير: لمحمد بن عاشور التونسي، ط: مؤسسة التاريخ، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1420هـ،(10/312).