الدعوة إلى الله اليوم والأمس {وجعلنا له نورا يمشي به في الناس}
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الدعوة إلى الله اليوم والأمس﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ [الأنعام: 122]
تُعاني الدعوة الإسلامية الآنَ ضعفًا شديدًا في مقابل دعوة شياطين الإنس والجن، فالدعوة الشيطانية تمتلك كل وسائل الإغواء والتكنولوجيا الحديثة التي تدخل كُلَّ منزل وكُلَّ حجرة وكُلَّ عقل، فتجد الشباب يسيرون في كل مكان ومعهم شياطين الدعوة للفجور والفحشاء بالتليفونات المحمولة، ثم يتناقل هؤلاء بعضهم مع بعض بالتواصُل المباشر كُلَّ هذه الدعوة الشيطانية، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم بقول الشيطان: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17].
أما دُعاةُ الإسلام في هذا العصر فيجلسون في استوديوهات الفضائيات أو في سياراتهم الخاصة، ويقوم المصوِّرون والمخرجون بالإخراج في أحسن مظهر للبَثِّ والنَّشْر على الفضائيات أو وسائل التواصل الاجتماعي؛ بل ويقوم أتباعهم بعد ذلك بالدعاية لهؤلاء الدُّعاة والإشادة بهم في وسائل النشر المختلفة، ويتعصبون في الدِّعاية لهم دون رويَّة، يا لها من مأساة وسوء الخاتمة!
فمن حديث أبي هريرة الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عنه رضي الله تعالى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أوَّل خلق الله تُسَعَّر بهم النار يومَ القيامة ثلاثة: عالم، ومجاهد، وغني، قال عليه السلام: يُؤتى بالعالم يوم القيامة فيُقال له: ماذا عملت فيما علمت؟ فيقول: يا ربي، نشرتُه فى سبيلك، فيُقال له: كذبْتَ، إنما علمت ليقول الناس: فلان عالم وقد قيل، خذوه إلى النار))، والعياذ بالله.
أما دعاة المساجد لا يظهرون للناس إلا يوم الجمعة في أحسن مظهر ولمدة دقائق على المنبر، يلقون كلمات الوعظ والإرشاد من على المنبر، وفي الغالب لا تكون هذه الكلمات تمسُّ واقعَ مشكلات حياة الناس، إلا قليلًا، ثم ينصرف الناس بعد ذلك، وقد تقاضى الدُّعاة مرتباتهم على كلماتهم! ثم يعيشون واقع الحياة مثل باقي الناس!
والواقع كما هو دون تغيير إيجابي؛ بل تسيطر عليه وسائل الشياطين في كل وقت، وفي كل مكان، داخل الحجرات وخارجها، وداخل العقول والحواس الملتهبة والمتشوقة لما يُعرَض عليها من الشاطين، فهل هذه هي الدعوة التي كان يزاولها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟!
فلتتأمل معي وصف الله تعالى للدعوة الحق في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ [الأنعام: 122].
أولًا: إن هذه الآية عامة لأي مسلم حق عليه أن يقوم بالدعوة طبقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً))؛ صحيح البخاري؛ أي: إن كل مسلم داعية لدين الله، وليس هناك من كانت وظيفته داعية يتقاضى أجْرًا عليها من غيره من البشر، أما الآن عندما استحدثت وظيفة الداعية، بقصد أو بغير قصد، ظن الآخرون أن الدعوة خاصة فقط بالموظفين الدُّعاة، فتركوا الدعوة إلى الله، ولم يعد هناك مَن يمشي في الناس بالدعوة إلى الله، وأصبح الموظف الداعية يتبع مؤسسة التوظيف، فلا يراه الناس إلا سويعات قليلة، ولا يمثل من له نور يمشي به في الناس، فعَمَّ الظلام بين الناس، وأصبح الموجود فقط ﴿ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122].
ثانيًا: إن الداعية له نور ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ [الأنعام: 122]، وكأن الله يقول لنا: إن هؤلاء الدعاة قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز، وأرواحهم يشرق فيها النور فتضيء، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضَّالَّ، وتلتقط الشارد، وتُطمئن الخائف، وتُحرِّر المستعبد، وتكشف معالم الطريق للبشر، وتُعلِن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد، الإنسان المتحرِّر المستنير الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد!
ثالثًا: تأمَّل أيها المسلم الحق ﴿ يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾، فهذا النور الذي يمشي به الداعية في الناس، تأمَّل مرة أخرى تعبير ﴿ يَمْشِي بِهِ ﴾، فهذا التعبير يُوحي بحركة الداعية وسعيه، فهو متحرِّك حركةً دائمةً، فالفعل "يمشي"، فعل مضارع، بما يُوحي باستمرارية الحركة والفعل للدعوة.
رابعًا: والتعبير الآخر ﴿ فِي النَّاسِ ﴾، لم يقل الله: "بين الناس"؛ بل قال: ﴿ فِي النَّاسِ ﴾، إنه في داخلهم، داخل عقولهم، داخل مشاعرهم، داخل نفوسهم، داخل مشاكلهم، داخل همومهم..
داخل بيوتهم..
داخل كل حياتهم.
هكذا كانت الدعوة في الصدر الأول للإسلام كما وصفه الله بهذا الوصف الرائع، ﴿ فِي النَّاسِ ﴾، إن أعظم أساليب الدعوة أثرًا في حياة الناس القدوةُ الحية، حتى لو كانت هذه القدوة صامتةً لا تنطق بحرف!
خامسًا: بهذه المواصفات الربَّانية تكون ثمرة هذه الدعوة في الناس، فيجد الإنسان المتلقي للدعوة في قلبه هذا النور الذي ينتقل من الداعية إليه، فيجد الوضوح في كل شأن، وفي كل أمر، وفي كل حدث في حياته..
يجد الوضوح في نفسه، وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته، ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سُنَّة الله النافذة، أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله، وفي الواقع من حوله، كأنه يقرأ من كتاب!
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله! ويجد الرفق واليُسْر في إيراد الأمور وإصدارها، وفي استقبال الأحداث واستدبارها! ويجد الطُّمَأْنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين!
لقد عبَّر الشيخ محمد الغزالي عن مسؤولية الدعوة تعبيرًا جميلًا في قوله: معرفتي بالإسلام تجعل ولائي للناس كلهم جزءًا من ولائي للدين الذي أحببته، فنحن قد استجبنا لنداء الله، فنحن أمة الإجابة، أمَّا غيرُنا فهو مدعوٌّ مثلنا، ولم يجب بعد، لعَلَّ النداء لم يصل إليه، أو لعلَّه وصل إليه، مشوَّهًا لا يُحرِّك دواعي القَبول، وأيًّا ما كان الأمرُ فهو مدعوٌّ، وعليَّ أن أُبلِّغه ما جهل، وأن أثير فيه دواعي التصديق، لقد عرفت الحق قبله فآمنت، ولستُ أوْلَى منه بذلك الخير، وقد يكون خيرًا مني لو عرَف ما أعرف، والواجب يفرض عليَّ أن أكونَ صورةً مُرغبةً لا صورة مُنفِّرة، وإلا كنت مسئولًا عن إضلاله أو حاملًا معه بعض أوزاره.
هذا هو شعور الداعية الحق في داخل نفسه، فصار يمشي بين الناس في النور، متبصِّرًا في أموره، مهتديًا لسبيله، عارفًا للخير مؤثرًا له، مجتهدًا في تنفيذه في نفسه وغيره، عارفًا بالشَّرِّ مبغضًا له، مجتهدًا في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره، فهل نجد هذا الآن في نفس الدُّعاة بهذا العمق أم إنها الوظيفة وفقط.
إن الإسلام انتشَر في الأرض في فترة مِن الزمان عن طريق الشخصية الإسلامية المتينة فعلًا وقدوةً وعملًا، وقد صنعتْ هذه الشخصيةُ بمجرد النظر إليها ضروبًا من التأثير في حياة غير المسلمين تلك الفترة.
واليوم مع كل ما تملك الأمَّةُ مِن تأثيرٍ لا تزال الدعوة محصورةً في فئات الداعين لم تتجاوزهم إلى غيرهم؛ لأنهم لم يكونوا تلك الصورة التي تمثِّل الإسلام الذي نزل من السماء أول وهلة.
إن الدِّين جاء ليكون واقعًا على الأرض، حيًّا في نفوس الناس، ماثلًا في حياتهم، ولم يُرِدِ الله تعالى له أن يكون معزولًا في وجدان إنسان؛ لأنه بذلك ينعزل مِن حياة الناس كلهم، ولا يكون له كبيرُ تأثيرٍ.
وإذا أردنا أن يكون الدِّينُ منتشرًا في نفوس الناس، فليكُن روحًا تسري في قلوب أصحابه، ثم لينزل إلى الواقع يَكتب نوره وضياءه على الأرض كلها، لا يقف منها في زاوية، وحينئذٍ سيُصافح قلوبَهم مباشرةً، ثم يعرج بها إلى السماء تشرب من المَعين الصافي عن قرب.