شقاء الإنسان
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
شقاء الإنسانلكم يعتقد هذا الإنسان الضعيف أنه يمتلك من الذكاء ما يكفيه ليتحكَّم في العالم ويُسيِّره كيفما شاء، فقد رأى في التقنية الحديثة قُدْرتَه على فعل ما يريد؛ لأنه غدا الأقوى في عالمه، فنسي أن هناك قوةً أعظم ليس كمثلها شيء، نسي عظمة الخالق الذي لا يُعجِزُه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، خالق أمره الذي يقول للشيء: "كُنْ فيكون"، نسيته العقولُ التي ظنَّتْ أنها بما اهتدت إليه من تقنيات خارقة تستطيع أن تتجاوز حدود قواها الواهية، وينسى هذا الضعيف قول الله: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ﴾ [ق: 36]، فما أشقاك أيها الإنسان!
وكم يعتقد هذا الإنسان المخلوق في أحسن تقويم، أنه يمتلك الصحة وينطق جسمه بالعافية دهرًا، فيطغى على الضعيف مستعرضًا عضلاته، ويُظهِر قوَّتَه الجسدية أمام غيره من الخلق مفتتنًا بها، كالطاووس مختالًا، وينسى أنه لن يخرقَ الأرضَ ولن يبلُغَ الجبالَ طولًا، فيكون الكِبْرُ جِبِلَّتَه، والزهوُ طبيعتَه، فبئسَ الخُلُقُ التعجرفُ يتحلَّى به مثلُ هذا الشقي، ولا بارك الله له في عيشه! ولو أنه استخدم قوَّتَه في نفع الناس وخيرهم؛ لكان ذلك من محامد الأخلاق، وكان من أحاسن الناس شيَمًا؛ لكن المسكين غرَّتْه البنيةُ، وفتنَتْه القوةُ، وقد سَلا أن الذي وهبَه ذلك قادرٌ على أن يجعله كهشيم المحتضر، أو أن يبلوه بالأسقام والأوجاع التي لا ينفع معها الدواء فليتَّقِ الله، وليتذكَّر قوله تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، فما أشقاك أيها الإنسان! وكم يعتقد هذا الإنسان أنه بارتكاب المعاصي ليس يهلك، يجد لها لذةً لا تفوقها لذَّةٌ، فهو في لهوه مُتمادٍ، وفي شهواته منغمس، ومع ذلك تجده مترجيًا عفْوَ الله وغفرانه، وهو من الطاعة بعيدٌ ناءٍ، فيتملى ويرجو وهو لا يكاد يرفع أنْفَه الراغم في أتربة المعصية، فهذا غافل تائه ليس يرُدُّه إلى جادة الصواب إلا صفاءُ خاطرٍ يُخالجه متى صدقَ النيَّةَ مع الله، ويسمع بقلبٍ خاشعٍ وأُذُنٍ واعية قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16]، لعلها تململ في باطنه كوامِنَ الفطرة، وتُحرِّك فيه النزوع إلى الإيمان، فما أشقاك أيها الإنسان!
وكم يعتقد هذا الإنسان أنه بإتيان الطاعات قد بلغ منزلةَ الصالحين والأتقياء، فيُحِس نفسه من أهل الجنان، فيرى غيره منه أقلَّ مرتبةً وأوْضَعَ منزلًا، فيأخذه الكِبْرُ من حيث لا يشعر، فيأمن مكْرَ الله، وينسى المسكين على الرغم من اجتهاده في الطاعة وإخلاصه وصدق نواياه أن السلف كان لا يأمن مكر الله، ويسلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُخبِر الصحابة رضوان الله عليهم أن دخوله الجنةَ لا يكون إلا إذا تغمَّدَه اللهُ برحمته، فما أشقاك أيها الإنسان!
وكم يعتقد هذا الإنسان الكفور أن النِّعَم التي يَرْفُلُ فيها والرَّغَد الذي يهنأ به إنما هو من صُنْعِه، ومن إبداعه وعبقريَّتِه! فيجزم أن ما وصل إليه من منازل وبلَغَه من مكانة إنما هو بفعل تفانيه وعبقريَّتِه ناسيًا أن الفضل كُلَّه والتوفيق والسداد لا يكون إلا من الله، فيرُد كل شيء إلى نفسه، ويسلو أن الدهرَ يقلِبُ ظَهْرَ المِجَنِّ فينقلب الحال من غِنًى إلى فقر، ومن معافاة إلى سقم، ومن قوة إلى ضعف، فما أشقاك أيها الإنسان!
وكم يعتقد هذا الإنسان الهلوع الجزوع المنوع أن اليأس إذا أصابه فلن يناله الخير، وتجده عجولًا إلى الملذَّات، راغبًا فيها، حريصًا عليها، فيجزع لما يُصيبه من الأذى والمكاره، ويمنع العطاء إذا أُوتي من فضل الله، إلا إذا كان من أهل الإيمان مُهذَّبًا به، مصقولًا بأنواره، فما أشقاك أيها الإنسان!
وكم يعتقد هذا الإنسان اليؤوس الفخور أن ما يصيبه من شَرٍّ وضُرٍّ في الحياة مردُّه إلى حاسد يحسده، أو مُعِينٍ يُصيبُه بعَيْن سوء، فييأس من رُوح الله، ويستولي عليه القنوطُ والحزن، وأن ما يؤتاه من نِعَم تجعله في سعة عيش مرَدُّه إلى نفسه، فتأخذه العِزَّةُ، ويحمله الكِبْرُ كُلَّ محمل، وقد نسي أن كل شيء إنما هو من عند الله، فما أتعسَكَ أيها الإنسان! وما أشقاك!
وكم يعتقد هذا الإنسان الخصيم أنه بفكره الضيق وعقله المحدود يستطيع أن يُفسِّر الظواهر ويُحلِّل الأشياء التي ينأى عنها فكره، ويعجز عنها عقلُه، فيخوض بهما في بحور عميقة لا تلبث أمواجُها أن تلطمه فترُدُّه إلى الشَّطِّ عَلَّه يهتدي؛ لكن إصراره على المجادلة في الله بغير علم وتعليلاته الواهية للخلق والنشأة، تجعله معتقدًا أنه مصيبٌ بحججه فينكر الإله، ويعلن إلحاده وقد نسي المسكين أنه كان نُطْفةً من مَنِيٍّ يُمْنَى، حقيرًا صغيرًا لا يقوى على شيء، نسي المعتوه أنَّ مَن يُجادل فيه هو مَنْ شَقَّ سمعَه وبصَرَه، وجعل له عينينِ ولسانًا وشفتينِ وهداه النَّجْدَينِ، أما تذكَّر هذا قولَه تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 77]، فهذا أشقى أنواع الإنسان.