منزلة الكلمة في الإسلام
مدة
قراءة المادة :
17 دقائق
.
الخطبة الأولى:الحمدُ لله العليّ الأعلى، الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهَدى، له ملكُ السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الملكُ الحقُّ المبين الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وقد وسعَ كلَّ شيءٍ رحمة وعلمًاً.
أحمده سبحانه وبحمده يَلْهجُ أُولو الأحلام والنهى.
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له عالم السر والنجوى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى كلمة التقوى ، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أئمة العلم والهدى.
وسلم تسليمًاً كثيرًاً أما بعد:
عباد الله: هل يمكن أن يصبح الحق باطلاً والباطل حقًاً؟ وهل يمكن أن تقلب الحقائق وتزيف الوقائع والأحداث؟ وهل يمكن أن تؤخذ الحقوق من أصحابها، وتعطى لمن لا يستحق ويقتنع الآخرين؟ وهل يمكن أن يتهم الإنسان بما ليس فيه ويصدق الناس من حوله؟ وهل يمكن أن تقوم حروب وصراعات ومشاكل بين الأفراد والأسر والمجتمعات والدول دون أن يكون هناك سببٌ حقيقي يلمسه الجميع؟ وهل يمكن أن يقتنع كثير من الناس يومًا بأن المظلوم هو الجاني وأن الظالم هو الضحية؟
أقول: نعم قد يحدث ذلك عندما يضعف الإيمان ومراقبة الواحد الدّيّان وعندما تفسد القيم والأخلاق، أقول: نعم قد يحدث ذلك في عصر الحضارة المادية وثورة الاتصالات والفضائيات وشبكة المعلومات عندما لم يحسن استخدامها، أقول: نعم قد يحدث ذلك، وعندما نبحث عن الأسباب نجد أن اللسان ومنطق الإنسان وكلامه سبب رئيسي في ذلك، فكم من معاصٍ وذنوب كان سببها اللسان، وكم من حقائق زورت وأحداث تم تزييفها وإخراجها على غير حقيقتها وكان السبب في ذلك اللسان، وكم من دماء سفكت وأموال تم الاعتداء عليها وحقوق سلبت وكان السبب في ذلك اللسان، وكم قطعت من أرحام وشردت من أسر وحدثت من خصومات بسبب كلمة خرجت من لسان صاحبها دون أن يلقي لها بالاً.
لقد ميّز الله بني آدم عن سائرِ المخلوقات بنعمةُ اللسان، وبه تفضّل عليهم قال الله جل وعلا: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8-9] وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ.
عَلَّمَ الْقُرْآنَ.
خَلَقَ الْأِنْسَانَ.
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4] أي يبين عن ما في نفسه بلسانه فبهذا اللسان ينطق الإنسان بكلمةُ التوحيد : "لا إله إلا الله" خيرُ قولٍ وأفضله، يقول صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بِضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله» ( البخاري :9) .
وباللسان يتعارف الناس على بعضهم البعض، وعن طريق اللسان يتعلم الناس العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية، وعن طريق اللسان يعرف الحق من الباطل، والصحيح من الخطأ والصدق من الكذب والأمانة من الخيانة، وباللسان يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقال الحق ويعبد الله بتلاوة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وباللسان يُعرف الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، والمسلم من الكافر، والبر من الفاجر، والتقي من الشقي، باللسان يبلغ الفرد المنازل العالية في قلوب الخلق، وبه أيضًاً يكتب عليه السخط في قلوبهم إلى يوم القيامة ، وباللسان يبلغ العبد الدرجات العلى عند الله، وبه يسقط في دركات النار وسخط الجبار، قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يهوي بها في النارِ أبعدَ مما بين المشرِق والمغرب، وإنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من رضوانِ الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يَلقاه» (البخاري في الرقاق 6477).
إن اللسان ترجمان القلوب والأفكار، وآلة البيان وطريق الخطاب، له في الخير مجال كبير وله في الشر باع طويل، فمن استعمله للحكمة والقول النافع، وقضاء الحوائج، وقيده بلجام الشرع، فقد أقر بالنعمة ووضع الشيء في موضعه، وهو بالنجاة جدير، ومن أطلق لسانه وأهمله، سلك به الشيطان كل طريق، وإذا كان اللسان بهذه الأهمية في حياة الإنسان فإنه ينبغي عليه أن يستعمله في الخير وفي ما يقربه من الله سبحانه وتعالى القائل: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَاء مَرْضَٰتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [ النساء :114].
إن اللسان في الإسلام له أهمية عظيمة في سعادة الفرد وصلاح المجتمع ولذلك فقد تحدث القرآن الكريم والسنة النبوية عنه وكيفية حفظه واستعماله وحذر من آفاته ومزالقه؛ ذلك أن الكلمة التي تنبع منه لها منزلة عظيمة عند الله ولها تأثير في حياة الفرد في الدنيا والآخرة فقد يكون الكفر بكلمة قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [المائدة: 17]، ويكون الإسلام كذلك بكلمة فقد وصف الله عباده بقولهم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53]، ويكون الزواج بكلمة، ويكون الطلاق بكلمة، وتقوم الحروب بكلمة، وتقطع الأرحام بكلمة، وتحقن الدماء بكلمة ،وتطيّب الخوآطر بكلمة وتمتلئ القلوب غيظًاً وحنقًاً بكلمة، ويصبح الحق باطلاً والباطل حقًاً بكلمة زورًا وبهتانًا، ويسقط العبد من نظر الله بكلمة، ويرتفع مقامه عند الله بكلمة.
لذلك فقد دعا الإسلام إلى حفظ اللسان واستعماله في الخير، وحذر من الغفلة عن هذا العضو الصغير في جسد الإنسان والذي قد يكون سببًاً في سعادته أو سببًاً في تعاسته في الدنيا والآخرة عن معاذ رضي الله عنه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول اللّه، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: «لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره اللّه عليه: تعبد اللّه ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل»، قال: ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة: 16] حتى بلغ {يعملون} ثم قال: «ألا أخبركم برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟» قلت: بلى يا رسول اللّه قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد ».
ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟» قلت بلى يا رسول اللّه، قال: فأخذ بلسانه، قال: «كف عليك هذا».
فقلت: يا نبي اللّه وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم» (أخرجه أحمد والترمذي).
عباد الله: ما أكثر المشاكل اليوم بين الأفراد وبين الأسر والجيران وبين الأصحاب والأصدقاء والتي سببها اللسان! وما أكثر الذنوب والمعاصي التي ترتكب في حياة الناس وسببها اللسان! غيبة ونميمة وسخرية واستهزاء وشهادة زور وكذب وقولٌ على الله بغير علم والحلف بغير الله والأيمان الفاجرة وقذف المحصنات والسب والشتم والتلاعن والتنابز بالألقاب، وهذا والله هو الإفلاس يوم يخرج المرء من دنياه بعمل صالح يصبح هباءًاً منثورًا بسبب زلة لسانه..
روى مسلم والترمذي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ ولا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْه، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».
لقد أصبح السب والشتم واللعن عادة وموضة في المدرسة والملعب والبيت والحارة وفي الحديقة والأسواق، فأين نحن من قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء» (رواه الترمذي وحسنه/ السلسلة الصحيحة 320)، وقال صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (متفق عليه) وعن أبي الدَّرْدَاءَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَة» (أخرجه مسلم).
يقول الشافعي عليه رحمة الله :
إذا سبني نذلُ تزايدتُ رفعة *** وما العيب إلا أن أكون مساببُه
ولو لم تكن نفسي علي عزيزة *** لمكنتُها من كل نذل تُحاربه
ولو أنني أسعى لنفعي وجدتني *** كثير التواني للذي أنا طالبه
ولكنني أسعى لأنفع صاحبي *** وعار على الشبعان إن جاع صاحبُه
وأصبحت الغيبة والنميمة فكاهة وتسلية للمجالس والتجمعات، والكذب فطنة وذكاء، وشهادة الزور سلف وقضاء، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثًاً)» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين» وجلس وكان متكئًا فقال: «ألا وقول الزور» قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
(رواه البخاري ومسلم)، وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "شكا أهل الكوفة سعدًا، يعني ابن أبي قاص رضي الله عنه، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعزله واستعمل عليهم عمارًا، فشكوا (أي سعدًا رضي الله عنه) حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فلم يدع مسجدًا إلا سأل عنه ويثنون معروفًا، حتى دخل مسجدًا، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة، فقال: أما إذا نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياءً وسمعة، فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن، قال عبد الملك بن عمير الراوي ن جابر بن سمرة: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن، وكان بعد ذلك إذا سُئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد" (رواه البخاري ومسلم).
عباد الله: لقد عُني الإسلام بأمر اللسان أيما عناية، وبين منزلة الكلمة وأثرها فحث ربنا جل وعلا في محكم التنزيل وعلى لسان سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه على حفظ اللسان وصيانة المنطق، ومجانبة الفحش والبذاء، فقال جل وعلا: {وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلإِنْسَٰنِ عَدُوّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53]، ووصف الله عز وجل ذوي الإيمان وأرباب التقى بالإعراض عن اللغو، ومجانبة الباطل من القول، فقال عز شأنه: {قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ .
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَٰاشِعُونَ .
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون:1-3]، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ٱلْجَٰهِلِينَ} [القصص:55].
إن حفظ اللسان عن المآثم والحرام عنوانٌ على استقامة الدين وكمال الإيمان، كما في الحديث عند الإمام أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» (صححه الألباني في صحيح الترغيب:2554، 2865)، بل إن جوارح الإنسان كلها مرتبطة باللسان في الاستقامة والاعوجاج، فقد روى الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا» (حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1962))، قال الإمام النووي رحمه الله: "معنى «تكفر اللسان» أي: تذل له وتخضع" ( رياض الصالحين ، حديث رقم (1529)).
إنه لمن العجب أن الإنسان يسهل عليه البعد عن أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه حفظ لسانه، حتى ترى ذلك الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول.
دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وإن كنت صادقًاً فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا.
اللهم قنا شر ألسنتنا.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه
الخطبة الثانية:
عباد الله: في اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من أحدهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كل منهما أعظم إثمًاً من الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاصٍ لله، مراءٍ مداهن إذا لم يخف على نفسه.
والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاصٍ لله، والسعيد من عمل بالحق وسعى لإرضاء ربه فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقال كلمة الحق وسكت عن قول الباطل، وحفظ لسانه عن سوء القول وصانه عن فحش الكلام.
فاتقوا الله عباد الله، ولتحفظوا ألسنتكم، وسائر جوارحكم عما حرم الله تعالى عليكم، ولتتذكروا على الدوام قول الحق جل وعلا: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70- 71].
إنه لينبغي على الخطيب والعالم والصحفي والسياسي والإعلامي أن يضبطوا ألسنتهم وفق الشرع وأن يتحروا في كلامهم الصدق والصواب حتى لا تقلب الحقائق وتضيع الثوابت، وإنه لينبغي على المربي والمعلم والرجل في بيته والمرأة في دارها وبين أولادها أن يتحروا جميعًاً القول الحسن والكلمة الطيبة واللفظ الجميل والمفيد وأن يربوا على ذلك أبناءهم وطلابهم ولنعلم جميعًا أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وإن المسلم الواعي ليحمله عقله ويدفعه إيمانه إلى الاعتناء بحسن اللفظ وجميل المنطق حين يرى المقام يدعو إلى الكلام، وإلا آثر الصمت ولزم الكف طلبًا للسلامة من الإثم، عملاً بتوجيه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في قوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» (البخاري ومسلم).
اللهم إنا نسألك خير القول وخير العمل وخير الذكر وخير الدعاء برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
حسان أحمد العماري