المساجد وتربية المجتمع (2/5)
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
المساجد وتربية المجتمع (2/5)(هـ) سمات مسجد اليوم:
إنَّ مساجد اليوم لا يُمكن أن تكون كمساجد الأمسِ؛ نظرًا للتطوُّر الثقافي وللخبرات التراكمية للإنسان؛ بل إنَّ السابقين الأوَّلين لا يُرضيهم أن يظلَّ المسلمون لا يُواكبون تطوُّر الحياة في مساجدِهم ودعوتهم، فقد يخشى أن ينصرف بعضُ الشباب عنْها إذا لم تُلبِّ لَهم حوائجَهم الطبيعيَّة، وتعالج همومهم العارضة.
إذا كان الأمرُ كذلك، فما هي الصورة المأمولة لمسجِد اليوم، وما هي فعالياته التي ينتظِرُها منه شبابُ الأمَّة؛ ليعينَهم على أن يكونوا رجالًا بحقٍّ كما يُريد لهم الله - سبحانه وتعالى؟
المبدأ الثابت في ذلك: هو أن يكونَ المسجد مثابةً للنَّاس وأمنًا، وقبلةً لهم يؤمُّونَها ليس فقط لأداء الصَّلوات؛ بل لالتِماس أفضل طرائق الحياة وأمتَعِها في الآن ذاته.
1- فالمسجد رفيقٌ بزوَّاره، وإن كانت الحياة قاسيةً عليهم:
عن أبي هُريرةَ قال: بال أعرابي في المسجِد، فقام النَّاس إليه لِيَقَعُوا فيه – أي: ليدفعوه بالعنف - فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دَعُوه، وأريقوا على بَوْله سَجْلًا من ماء - السَّجل: الدلو - فإنَّما بُعِثْتم ميسِّرين، ولم تبعثوا معسِّرين))؛ رواهُ البُخاريُّ والتّرمذيُّ والنسائيُّ.
2- والمسجِد مستمع جيد، كما أنَّه متحدِّث لبق:
فلا يصح أن يكون زائِر المسجد مستقبلًا دائمًا، وإنَّما يجِب أن يربَّى على التَّفاعل والإيجابيَّة والمشاركة، سواءٌ أكان ذلك بالمحاورة أم بإبْداء الآراء أم بتقْديم البحوث والمشاركات وغير ذلك.
والقرآن العظيم يقرِّر أمر المؤمنين فيقول: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38]، والرَّسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - يطلب من أصحابه المشورة، فيقول: ((أشيروا عليَّ أيُّها النَّاس)).
3- والمسجد مستشارٌ مؤتَمن، ومفتٍ خبيرٌ، ميسِّرٌ ومبشِّر:
فإذا توفَّر من مثل هؤلاء العُلماء الذين يُجيبون للنَّاس سؤالاتِهم بما يتوافق مع الأدلة الشرعية، ومقاصد الشريعة، وروح الإسلام - فإنَّ خيرًا عميمًا سيتدفَّق إلى المجتمع مِن طريقه، وسيمنع كذلك سيولًا من الشُّرور والفِتن والآثام، وسيتعافى المجتمعُ رويدًا رويدًا ممَّا أصابه مِن أوْجاع وأمراض، لتعُود الأمَّة إلى سيرتِها الأولى.
4- والمسجد حفيظٌ عليمٌ:
والحفظ هنا بمعنى الأمانة، فهو أمين على ثقافة الأمَّة وتراثها، وأمين على مقدَّراتها وأموالها، وأمين على أعْراضِها وكرامتِها، وهو مِن أجْل ذلك عليم – أي: خبير - بطرائق إدارة هذه الشؤون، لا يتحرَّك خبْطَ عشواء، ولا كيْفما اتُّفق؛ بل على بصيرةٍ ودراية وخبرة.
5- والمسجد منطلق التَّرفيه والرياضة تمامًا كما أنَّه بيت للعبادة:
فلا يعقل أن يربِّي هذا الصَّرحُ الإيماني فتيانَ وشبابَ الأمَّة على الخمول والضعف، والاستكانة أمام مجريات الحياة؛ بل يَجب على القائمين عليه أن يستوعِبوا طاقاتِ هؤلاء الشباب، ويوظِّفوها خير توظيف.
يَروي البخاريُّ عن عائشة - رضي الله عنْها - أنَّها قالت: "رأيتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستُرُني برِدائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجِد، حتى أكون أنا التي أسأمُ، فاقدُروا قدْر الجاريةِ الحديثة السِّنّ، الحريصة على اللَّهو".
ومن "فتح الباري بشرْح صحيح البخاري" أنْقل هذه الكلماتِ، يقول ابن حجر: "فيه جواز ذلك في المسجد، وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللَّخمي: أنَّ اللعِب بالحراب في المسجِد منسوخ بالقُرآن والسنَّة، أمَّا القرآن، فقوله تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ﴾ [النور: 36]، وأمَّا السنة، فحديث: ((جنِّبوا مساجدَكم صبيانكم ومجانينَكم))، وتعقِّب بأنَّ الحديث ضعيف، وليس فيه ولا في الآية تصريحٌ بما ادَّعاه، ولا عُرِف التَّاريخ فيثبت النَّسخ، وحكى بعض المالكيَّة عن مالك: أنَّ لعِبَهم كان خارج المسجد وكانت عائشة في المسجِد، وهذا لا يثبُت عن مالك؛ فإنَّه خلاف ما صرَّح به في طرُق هذا الحديث، وفي بعضِها: أنَّ عمر أنكر عليْهِم لعبَهم في المسجد، فقال له النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((دَعْهُم))، واللَّعِب بالحراب ليس لعبًا مجرَّدًا؛ بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدوِّ، وقال المهلّب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله، جاز فيه" انتهى.
6- والمسجد موئل العلوم ومنبع الفنون الصافية:
فإذا غاض هذا النبع وشحَّتْ مواردُه، فإنَّ الواردين حتْمًا سيصدرون عنه بَحثًا عن سواه، وهل شقِيَتِ المجتمعات إلا بانْحراف أهلِها عن المنابع الصافية؟!
7- والمسجد موضع نزول الرحمة والسَّكينة واحتفاء الملائكة بالمؤمنين:
ويجب أن يكون هذا الموضع لائقًا باستِقْبال هذه الكرائم، ومَن يستحقُّونها مِن المكرمين، فتسرُّ أركانُه الناظرين، وتشفي نفحاتُه صدورَ المؤمنين.
يَروي مسلمٌ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن نفَّس عن مؤمن كربة مِن كرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كُربةً مِن كُرب يوم القِيامة، ومَن يسَّر على مُعْسر، يسَّر الله عليْه في الدُّنيا والآخِرة، ومَن ستر مُسلمًا، ستَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عوْن العبد ما كان العبد في عوْن أخيه، ومَن سلك طريقًا يلتمِس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنَّة، وما اجتَمَع قوْمٌ في بيْتٍ من بُيوت الله يتْلون كتابَ الله ويتدارسونَه بيْنَهم؛ إلا نزلتْ عليْهِم السكينة، وغشِيتْهم الرَّحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمَن عنده، ومَن بطَّأ به عمله، لم يُسْرِعْ به نسبُه)).
8- والمسجد مبْعث النور في دُنيا الظلمات، ومصدر الهداية في بيْداء الحياة الموحشة:
ويجب أن يحسن الإعلانَ عن ذاتِه وكل ما فيه، من أجْل الحيارى والبائِسين، فيحسن جذْبَهم إليه أوَّلًا، ومن ثَمَّ يُحسن إعادة تأهيلهم للحياة الكريمة، وهذه مهمَّة الأنبياء - عليهم السلام - ثم ورَثَتِهم مِن العلماء الدُّعاة.
9- والمسجد مستودع التقوى وموطن المُطَّهِّرين:
قال تعالى: ﴿ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108].
10- والمسجد هو البقعة التي يبشَّر المشَّاؤون إليها بالنُّور التَّام يوم القيامة:
يقول الرَّسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بَشِّرِ المَشَّائِين في الظُّلَمِ إلى المَساجِد بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيامَةِ))؛ رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه.