قضاء على التمييز أم إلغاء للتميز
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
الخطبة الأولى:أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم أَيُّها النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عز وجل: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا} [ الطلاق :2].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: قَد يَنجَحُ العَدُوُّ في مَرحَلَةٍ مَا، في إِسقَاطِ السُّلطَةِ السَّيَاسِيَّةِ في بَلَدٍ أَو هَزِيمَةِ قُوَّاتِهِ، أَوِ الاستِيلاءِ عَلَى مُقَدَّرَاتِهِ وَنَهبِ ثَرَوَاتِهِ وَخَيرَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ لا يُمكِنُ أَن يَنجَحَ في السَّيطَرَةِ الكَامِلَةِ عَلَى مُجتَمَعٍ مُسلِمٍ، إِلاَّ إِذَا أَفقَدَهَ ثِقَتَهُ بِدِينِهِ، وَوَصَلَ إِلى زَعزَعَةِ عَقِيدَتِهِ، وَقَد حَذَّرَنَا اللهُ تعالى مِن ذَلِكَ، وَلا سِيَّمَا مِن أَهلِ الكِتَابِ، قَالَ سبحانه: {وَدَّت طَائِفَةٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يُضِلُّونَكُم وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشعُرُونَ} [آل عمران:69]، وَقَالَ تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُم مِن بَعدِ إِيمَانِكُم كُفَّارًا حَسَدًا مِن عِندِ أَنفُسِهِم مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ}[البقرة:109].
وَقَالَ سبحانه: {وَدُّوا لَو تَكفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [ النساء :89]، وَإِنَّ العَاقِلَ الفَطِنَ الَّذِي قَرَأَ التَّأرِيخَ وَاستَنطَقَهُ، وَمَا زَالَ يَسبُرُ الأُمُورَ وَلا سِيَّمَا في العُقُودِ المُتَأَخِّرَةِ، يَجِدُ أَنَّ أَهلَ الكِتَابِ وَبَعدَ إِخفَاقِهِم عَسكَرِيًّا في الاستِيلاءِ الكَامِلِ عَلَى المُسلِمِينَ، قَدِ اتَّجَهُوا إِلى تَنظِيمِ حَمَلاتٍ تَغرِيبِيَّةٍ مُنَظَّمَةٍ، بَلَوا بها الأُمَّةَ في مَيَادِينَ شَتًّى، وَقَصَدُوا بها دِينَهَا وَثَقَافَتَهَا ونَسِيجَهَا الاجتِمَاعِيَّ، وَخَاصَّةً فِيمَا يَتَّصِلُ بِالمَرأَةِ، وَالَّتي غَاظَهُم أَنْ رَأَوهَا دُرَّةً مَصُونَةً وَجَوهَرَةً غَالِيَةً، تَرعَاهَا قُلُوبُ المُسلِمِينَ قَبلَ أَن تَحفَظَهَا بُيُوتِهِم، وَيَدفَعُونَ عَنهَا بِصُدُورِهِم قَبلَ أَن يَصُونُوهَا بِأَموَالِهِم وَمَا مَلَكَت أَيمَانُهُم، مَعَ عِلمِ أُولَئِكَ الخُبَثَاءِ المُغرِضِينَ، أَنَّ الوُصُولَ إِلَيهَا وَإِنزَالَهَا مِن بُرجِ كَرَامَتِهَا، هُوَ أَوَّلُ الخُطُوَاتِ في إِفسَادِ المُجتَمَعَاتِ المُسلِمَةِ، وَرَدِّهَا إِلى جَاهِلِيَّتِهَا الأَولى أَو أَشَدَّ.
أَلا وَإِنَّ مِمَّا حَاوَلَ أُولَئِكَ المُجرِمُونَ الأَفَّاكُونَ أَن يُدَغدِغُوا بِهِ شُعُورَ النِّسَاءِ وَيَخدَعُوا بِهِ الهَمَجَ وَالغَوغَاءَ أَنِ ادَّعَوا أَنَّ المَرأَةَ مَظلُومَةٌ مَهضُومَةٌ، وَأَنَّهُم يَسعَونَ لِمُسَاوَاتِهَا بِالرَّجُلِ وَالقَضَاءِ عَلَى التَّميِيزِ العُنصُرِيِّ ضِدَّهَا، وَتَجَاهَلَ أُولَئِكَ المُغرِضُونَ الحَاقِدُونَ، أَنَّ دِينَ الإِسلامِ هُوَ دِينُ العَدلِ، وَأَنَّ مُقتَضَى العَدلِ في الفِطَرِ السَّوِيَّةِ، لَيسَ التَّسوِيَةَ التَّامَّةَ بَينَ المُختَلِفَينِ كَمَا تُسَوِّلُ لَهُم عُقُولُهُم الفَارِغَةُ، وَإِنَّمَا مُقتَضَى العَدلِ لَدَى مَن أَنَارَ اللهُ بَصِيرَتَهُ، هُوَ التَّسوِيَةُ بَينَ المُتَمَاثِلَينِ، وَالتَّفرِيقُ بَينَ المُختَلِفَينِ، وَمِن ثَمَّ فَلَم يَأتِ في كِتَابِ اللهِ أَمرٌ بِالمُسَاوَاةِ بِإِطلاقٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِيهِ الأَمرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ، قَالَ تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ} [النحل:90].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
إِنَّ حُقُوقَ المَرأَةِ عِندَ المُسلِمِينَ لم يُقَرِّرْهَا الرَّجُلُ بِقُوَّةِ سُلطَتِهِ، وَلا المَرأَةُ بِشِدَّةِ عَاطِفَتِهَا، وَإِنَّمَا قَرَّرَهَا الخَلاَّقُ العَلِيمُ القَائِلُ سبحانه: {أَلا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك:14]، وَأَمَّا مَا قَد يُوجَدُ في الوَاقِعِ مِن حَيفٍ أَو ظُلمٍ، أَو تَجَاهُلٍ لِلحُقُوقِ مِن طَرَفٍ تِجَاهَ آخَرَ؛ فَإِنَّمَا هُوَ نَاتِجٌ عنِ انحِرَافٍ عَنِ الدِّينِ أَو جَهلٍ بِأَحكَامِهِ أَو ضَعفِ إِيَمانٍ، أَو بِسَبَبِ تَحكِيمِ قَانُونٍ وَضعِيٍّ أَو عُرفٍ جَاهِلِيٍّ، وَالحَقُّ أَنَّ المُسلِمِينَ في قُرُونِهِمُ المُفَضَّلِةِ أَو عَلَى مَدَى أَزمِنَتِهِمُ المُزدَهِرَةِ، لم يَعرِفُوا مُشكِلَةً اسمُهَا قَضِيَّةُ المَرأَةِ، وَلم تَكُنْ نِسَاؤُهُم يَشتَكِينَ في يَومٍ مَا مِنَ الرِّقِّ حَتى يُنَادَى بِتَحرِيرِهِنَّ، وَلَكِنَّ المَرأَةَ في الإِسلامِ، كَانَت وَما زالت أَحَدَ شَطرَيِ النَّوعِ الإِنسَانيِّ وَشِقَّيِ النَّفسِ الوَاحِدَةِ، وَهِيَ شَقِيقَةُ الرَّجُلِ في الأَصلِ وَالمَنشَأِ وَالمَصِيرِ وَفي عِمَارَةِ الكَونِ، بِلا فَرقٍ بَينَهُمَا في عُمُومِ الدِّينِ في التَّوحِيدِ وَالاعتِقَادِ، وَلا في عُمُومِ التَّشرِيعِ في الحُقُوقِ وَالوَاجِبَاتِ، وَلا في الجَزَاءِ وَالحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالعِقَابِ، قَالَ تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنثى} [النجم:45].
وَقَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا} [النساء:1]، وَقَالَ عز وجل: {مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} [النحل:97]، وَقَالَ سبحانه: {فَاستَجَابَ لَهُم رَبُّهُم أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى بَعضُكُم مِن بَعضٍ} [آل عمران:195]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» (أَخرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ)، وَلَكِنَّ حِكمَةَ الخَالِقِ سبحانه اقتَضَت أَنْ لَيسَ الذَّكَرُ كَالأُنثى في الخِلقَةِ وَالهَيئَةِ وَالتَّكوِينِ، وَكَانَ مِن آثَارِ هَذَا الاختِلافِ في الخِلقَةِ، الاختِلافُ في القُوَى وَالقُدُرَاتِ الجَسَدِيَّةِ وَالعَاطِفَيَّةِ وَالإِرَادِيَّةِ، قَالَ سبحانه: {وَلَيسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران:36]، وَقَالَ عَنِ الأُنثى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ في الحِليَةِ وَهُوَ في الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18].
وَقَد أُنِيطَ بِهَذَا الاختِلافِ في الخَلقِ جُملَةٌ مِنَ الحِكَمِ وَالأَحكَامِ، وَحُدِّدَ مَجَالُ عَمَلِ الرَّجُلِ في هَذِهِ الحَيَاةَ وَنَوعُهُ، كَمَا حُدِّدَ مَجَالُ عَمَلِ المَرأَةِ وَنَوعُهُ، وَجَاءَ عَمَلُ كُلٍّ مِنهُمَا مُلائِمًا لما تَقتَضِيهِ خِلقَتُهُ وَفِطرَتُهُ، مُحَقِّقًا لِلتَّكَامُلِ وَالاتِّزَانِ وَالأَمنِ الاجتِمَاعِيِّ، دُونَ أَن يَتَحَمَّلَ أَحَدُّهُمَا أَكبَرَ مِمَّا يَحتَمِلُ طَبعًا وَعُرفًا، فَحُمِّلَ الرَّجُلُ أَعبَاءَ القِيَامِ عَلَى المَرأَةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيهَا مَعَ القُدرَةِ، وَرِعَايَةَ مَصَالِحِهَا وَحِفظَهَا وَسَترَهَا، وَكُلِّفَت هِيَ بِالبَيتِ وَرِعَايَةِ شُؤُونِ الأُسرَةِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَطَاعَةِ زَوجِهَا بِالمَعرُوفِ، فَالتَقَت إِرَادَةُ اللهِ الكَونِيَّةُ القَدَرِيَّةُ في الخَلقِ وَالتَّكوِينِ، بِإِرَادَتِهِ الدِّينِيَّةِ الشَّرعِيَّةِ في الأَمرِ وَالحُكمِ وَالتَّشرِيعِ، لِتَقُومَ بِذَلِكَ مَصَالِحُ الخَلقِ وَيُعمَرَ الكَونُ، وَلِتَنتَظِمَ حَيَاةُ الأَفرَادِ وَالمُجتَمَعَاتِ، قَالَ عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بما فَضَّلَ اللهُ بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ وَبما أَنفَقُوا مِن أَموَالِهِم} [النساء:34]، وَقَالَ تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيهِ رِزقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وَقَالَ تعالى: {وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ في المَعرُوفِ» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ).
نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
إِنَّ العِلاقَةَ بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ في المُجتَمَعِ الإِسلامِيِّ وَدَاخِلَ الأُسرَةِ، تَقُومُ عَلَى التَّكَامُلِ الوَظِيفِيِّ بَينَهُمَا، لا عَلَى النِّدِّيَّةِ أَوِ المُوَاجَهَةِ أَوِ الصِّرَاعِ، وَإِنَّ مِنَ مَقَاصِدِ ذَلِكَ التَّكَامُلِ حُصُولَ السَّكَنِ لِلرَّجُلِ وَالأَمنِ لِلمَرأَةِ، وَالمُوَدَّةِ وَالأُنسِ وَالرَّحمَةِ بَينَهُمَا، قَالَ سبحانه: {وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِتَسكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً} [الروم:21]، ثُمَّ إِنَّ الشَّرِيعَةَ الإِسلامِيَّةَ حَفِظَت لِلمَرأَةِ حُقُوقًا عَلَى مُجتَمَعِهَا، وَحَرَّمَتِ التَّميِيزَ الظَّالِمَ ضِدَّهَا، فَلم تُقِرَّ أَيَّ إِخلالٍ بِحُقُوقِهَا أَو خَدشٍ لِكَرَامَتِهَا، وَلم يُوجَدْ في مَنهَجِ الإِسلامِ أَو أَحكَامِهِ أَو لَدَى المُسلِمِينَ، تَميِيزٌ مُجَافٍ لِلعَدلِ أَو مُحَابٍ لِلرَّجُلِ ضِدَّ المَرأَةِ، إِلاَّ مَا كَانَ في أَذهَانِ المَرضَى بِالهَزِيمَةِ النَّفسِيَّةِ، أَو عِندَ الجَاهِلِينَ بِالشَّرعِ المُطَهَّرِ، الَّذِينَ لم يُدرِكُوا الحِكَمَ مِن وُجُودِ بَعضِ الفُرُوقِ الخَلقِيَّةِ وَالجِبِلِّيَّةِ، وَمَا يَلزَمُ مِنهَا مِن بَعضِ الاختِلافِ في الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ وَالوَظَائِفِ وَالحُقُوقِ، نَعَم أُمَّةَ الإِسلامِ لَقَد أَحَاطَ الِإسلامُ المَرأَةَ بِكَامِلِ الرِّعَايَةِ وَفَائِقِ العِنَايَةِ، وَحَضَّ الرَّجُلَ زَوجًا وَابنًا وَأَبًا عَلَى حُسنِ مُعَاشَرَتِهَا وَطِيبِ مُعَامَلَتِهَا، وَجَعَلَ لَهَا حُرِّيَّةَ التَّصُرُّفِ وَحَرَّمَ الاعتِدَاءَ عَلَيهَا في مَالِهَا أَو عِرضِهَا، قَالَ تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعرُوفِ} [النساء:19].
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «خَيرُكُم خَيرُكُم لأَهلِهِ» (رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ)، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «اِستَوصُوا بِالنِّسَاءِ خَيرًا» (رَوَاهُ مُسلِمٌ)، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «لا يَجلِدْ أَحَدُكُمُ امرَأَتَهُ جَلدَ العَبدِ، ثُم يُجَامِعَهَا في آخِرِ اليَومِ» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ)، وَقَالَ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفسِهِ: «الصَّلاةَ الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَت أَيمَانُكُم» (رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ)، وَعِندَمَا سَأَلَهُ رَجُلٌ: «مَن أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسنِ صَحَابَتي؟ قَالَ: أُمُّكَ» (رَوَاهُ مُسلِمٌ)، وَقَالَ تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأقرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأقرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنهُ أَو كَثُرَ نَصِيبًا مَفرُوضًا} [النساء:7]، وَقَالَ سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُم أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرهًا وَلا تَعضُلُوهُنَّ لِتَذهَبُوا بِبَعضِ مَا آتَيتُمُوهُنَّ إِلا أَن يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعرُوفِ فَإِنْ كَرِهتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَيَجعَلَ اللهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ إِني أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَينِ اليَتِيمِ وَالمَرأَةِ» (رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ).
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أُمَّةَ الإِسلامِ وَاعلَمُوا أَنَّ كُلَّ ادِّعَاءٍ يُنَافي مَا جَاءَ بِهِ الإِسلامُ، سَوَاءٌ جَاءَ بِهِ عَدُوٌّ مُغرِضٌ أَو تَقَبَلَّهُ صَدِيقٌ جَاهِلٌ، فَإِنَّمَا هُوَ ضَلالٌ وَبَاطِلٌ، لا يَجُوزُ تَصدِيقُهُ وَلا الرِّضَا بِهِ، وَازدِوَاجِيَّةٌ في التَّشرِيعِ يُقصَدُ بها الصَّدُّ عَن سَبِيلِ اللهِ، وَفَتنُ المُسلِمِينَ عَن دِينِهِم، وَإِحَالَةٌ لِهُوِيَّتِهِمُ الاجتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ، وَحِرمَانٌ لَهُم مِنَ نُورِ الوَحيِ وَطَهَارَتِهِ، وَزَجٌّ بهم في ظُلُمَاتِ الأَهوَاءِ وَخُبثِهَا، فَالحذَرَ الحَذَرَ مِنَ التَّحَلُّلِ الكُلِّيِّ أَوِ الجُزئِيِّ مِن شَرعِ اللهِ، أَوِ العَبَثِ بِأَخلاقِ المُجتَمَعِ المُسلِمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُؤذِنٌ بِعُقُوبَاتٍ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ {فَلْيَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، «وَإِنَّ اللهَ يَغَارُ، وَإِنَّ المُؤمِنَ يَغَارُ، وَغَيرَةُ اللهِ أَن يَأتِيَ المُؤمِنُ مَا حُرِّمَ عَلَيهِ» (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ).
الخطبة الثانية: أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَن رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولاً، يَعتَقِدُ اعتِقَادًا جَازِمًا لا شَكَّ فِيهِ، أَنَّهُ لا مَصدَرَ لِلخَيرِ وَالحَقِّ إِلاَّ شَرِيعَةُ الإِسلامِ الرَّبَّانِيَّةُ، وَيُوقِنُ يَقِينًا تَامًّا أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ صَالِحَةٌ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَأَنَّهَا شَامِلَةٌ لِكُلِّ ما يُصلِحُ شَأنَ النَّاسِ في حَيَاتِهِم وَبَعدَ مَمَاتِهِم، وَأَنَّ مَا سِوَاهَا مِن مَنَاهِجَ وَضعِيَّةٍ بَشَرِيَّةٍ وَإِنْ زُيِّنَت وَزُخرِفَت، فَإِنَّمَا هِيَ تَخَبُّطٌ وَضَلالٌ وَضَيَاعٌ، لا يَجني البَشَرُ مِنهُ إِلاَّ كُلَّ شَرٍّ وَانحِدَارٍ، قَالَ عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا} [النساء:65]، وَقَالَ تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرآنَ يِهدِي لِلَّتي هِيَ أَقوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُم أَجرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9]، وَقَالَ عز وجل: {أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكمًا لِقَومٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وَقَالَ تعالى: {وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وَقَالَ تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بما كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ} [الروم:41]، وَقَالَ عز وجل: {لَو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبحَانَ اللهِ رَبِّ العَرشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22]، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ إِصلاحَ أَيِّ خَلَلٍ يَجِبُ أَن يَكُونَ وِفقَ الشَّرِيعَةِ، وَلَيسَ وِفقَ مَوَازِينِ الآخَرِينَ وَخَاصَّةً مِن غَيرِ المُسلِمِينَ، قَالَ تعالى: {وَاحذَرْهُم أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيكَ} [المائدة:49].
يُقَالُ هَذَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ وَالإِعلامُ يَتَنَاقَلُ مَا يَحدُثُ فِيمَا يُسَمَّى لَجنَةَ مَركَزِ المَرأَةِ في الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ، حَيثُ يُعقَدُ مُؤتَمَرٌ لإِقرَارِ وَثِيقَةٍ يُدَّعَى فِيهَا القَضَاءُ عَلَى العُنفِ ضِدَّ المَرأَةِ، وَتَتَضَمَّنُ بُنُودًا تَتَصَادَمُ مَعَ مَبَادِئِ الإِسلامِ وَثَوَابِتِهِ، وَتَقضِي عَلَى الأَخلاقِ وَالقِيَمِ، وَتَسعَى لِهَدمِ كَيَانِ الأُسرَةِ الصَّالِحَةِ الَّتي هِيَ أَسَاسُ المُجتَمَعِ.
وَنَظرَةٌ فَاحِصَةٌ في بُنُودِ هَذِهِ الوَثِيقَةِ الخَبِيثَةِ، تَكفِي لِمَعرِفَةِ مَاذَا يُرَادُ مِنهَا، حَيثُ تَنُصُّ تِلكَ البُنُودُ النَّجِسَةُ القَذِرَةُ، عَلَى مَنحِ الفَتَاةِ كُلَّ الحُرِّيَّةِ الجِنسِيَّةِ، مَعَ رَفعِ سِنِّ الزَّوَاجِ، وَتَوفِيرِ وَسَائِلِ مَنعِ الحَملِ لِلمُرَاهِقَاتِ وَتَدريِبِهِنَّ عَلَى استِخدَامِهَا، وَإِبَاحَةِ الإِجهَاضِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الحَملِ غَيرِ المَرغُوبِ فِيهِ، وَمُسَاوَاةِ الزَّانِيَةِ بِالزَّوجَةِ، وَمُسَاوَاةِ أَبنَاءِ الزِّنَا بِالأَبنَاءِ الشَّرعِيِّينَ في كُلِّ الحُقُوقِ، وَإِعطَاءِ الشَّوَاذِّ الحُقُوقَ وَحِمَايَتِهِم وَاحتِرَامِهِم، وَحِمَايَةِ العَامِلاتِ في البِغَاءِ، وَإِعطَاءِ الزَّوجَةِ الحَقَّ في أَن تَشتَكِيَ زَوجَهَا بِتُهمَةِ الاغتِصَابِ أَوِ التَّحَرُّشِ، مُمَاثَلَةً لِمَن يَغتَصِبُ أَجنَبِيَّةً أَو يَتَحَرَّشُ بها، وَالتَّسَاوِي في المِيرَاثِ، وَالاقتِسَامِ التَّامِّ لِلأَدوَارِ دَاخِلَ الأُسرَةِ بَينَ الرَّجُلِ وَالمَرأَةِ، وَإِلغَاءِ التَّعَدُّدِ وَالعِدَّةِ وَالوِلايَةِ وَالمَهرِ وَإِنفَاقِ الرَّجُلِ عَلَى الأُسرَةِ، وَالسَّمَاحِ لِلمُسلِمَةِ بِالزَّوَاجِ بِغَيرِ المُسلمِ، وَسَحبِ سُلطَةِ التَّطلِيقِ مِنَ الزَّوجِ وَنَقلِهَا لِلقَضَاءِ، وَاقتِسَامِ المُمتَلَكَاتِ بَعدَ الطَّلاقِ، وَإِلغَاءِ الاستِئذَانِ لِلزَّوجِ في السَّفَرِ أَوِ العَمَلِ أَوِ الخُرُوجِ، وَغَيرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ظُلمٌ شَنِيعٌ وجَاهِلِيَّةٌ مَقِيتَةٌ، وَانتِقَاصٌ لِمَبدَأِ العِفَّةِ وَالسِّترِ، وَانتِهَاكٌ لِحُقُوقِ المَرأَةِ وَالرَّجُلِ وَالأُسرَةِ وَالمُجتَمَعِ، وَتَقرِيرٌ لإِشَاعَةِ الفَاحِشَةِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ وَتَيَقَّظُوا، وَقِفُوا بِكُلِّ مَا تَستَطِيعُونَ في وَجهِ كُلِّ مُحَاوَلةٍ أَو قَرَارٍ أَو دَعوًى لِدَمجِ الذُّكُورِ مَعَ الإِنَاثِ في تَعلِيمٍ أَو عَمَلٍ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ مِن أَقسَى الظُّلمِ وَالجَورِ وَالاعتِدَاءِ عَلَى كَرَامَةِ المَرأَةِ وَأُنُوثَتِهَا، أَن تُحَمَّلَ أَعبَاءَ الرَّجُلِ دُونَ حَاجَةٍ شَخصِيَّةٍ أَوِ اجتِمَاعِيَّةٍ، وَأَنَّ ادِّعَاءَ الغَربِ الكَافِرِ أَنَّهُم يَسعَونَ لِلقَضَاءِ عَلَى التَّميِيزِ العُنصُرِيِّ ضِدَّ المَرأَةِ، أو زَعمَهُم أَنَّهُم يُرِيدُونَ إِعطَاءَهَا حُرِّيَّتَهَا، إِنَّمَا هُوَ إلغَاءٌ لِتَمَيُّزِهَا الحَقِيقِيِّ بِعَفَافِهَا، وَلَهَثٌ لِحُرِّيَّةِ الوُصُولِ إِلَيهَا، وَجَعلِهَا أُلعُوبَةً تَتَبَادُلَهَا الأَيدِي النَّجِسَةِ في شَبَابِهَا، ثم تَرمِي بها في مَزبَلَةِ الحَيَاةِ عَجُوزًا شَوهَاءَ لا رَاعِيَ لها.
عبد اللّه بن محمد البصري