أرشيف المقالات

في الجنة

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
في الجنة
 
الجنة بالنسبة لنا ليست مجرد حقيقة قادمة فقط.

إنها المواعيد التي تم تأجيلها رغمًا عنا، والأماكن التي لا تستطيع الأرض منحنا إياها.
 
إنها الحب الذي بخلت به الدنيا، والفرح الذي لا تتسع له الأرض؛ قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ في الجنة، ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ بطرًا باتباعه لهواه، ﴿ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ﴾ أي: يرجع إلى ربه، ﴿ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ [الانشقاق: 7 - 15].
 
إنها الوجوه التي نشتاقها، والوجوه التي حرمنا منها؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ﴾ في الإيمان، ﴿ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ يكونون في درجتهم وإن لم يعملوا بعملهم تكرمة للآباء باجتماع الأولاد إليهم، ﴿ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ﴾ أي: نقصناهم، ﴿ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ يُزاد في عمل الأولاد، ﴿ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ [الطور: 21]؛ أي: مرهون يؤاخَذ بالشر ويجازى بالخير.
 
إنها نهايات الحدود، وبدايات إشراقات الوعود؛ روى البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا)).
 
إنها استقبال الفرح، ووداع المعاناة والحرمان؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 25 - 28].
 
الجنة موت المحرَّمات، وموت الممنوعات؛ قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾ أي: متغير، ﴿ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [محمد: 15]، وقال تعالى: ﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ﴾ [الطور: 20]، ﴿ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ﴾ [الرحمن: 72].
 
الجنة موت الملل، موت التعب، موت اليأس؛ روى الطبراني بسند جيد عن معاذ رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المرد إلى الله، إلى جنة أو نار، خلود بلا موت، وإقامة بلا ظعن)).
 
الجنة موت الموت؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جِيءَ بالموت حتى يُجعَل بين الجنة والنار، ثم يُذبَح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنًا على حزنهم)).
 
في الجنة لن نفترق، ولن نخاف البعد ولا الموت، ولا الظروف ولا السفر؛ قال تعالى: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].
 
في الجنة لن نغـار، ولن ننام، ولن نتعب؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [الحجر: 48].
 
في الجنة لا بكاء، ولا جروح، ولا دموع، ولا ألم؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [فاطر: 35].
 
في الجنة ستموت خصيلات الشيب، وهالات العين، وإجهاد السهر، ودموع الحنين؛ روى الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنةِ الجنةَ جُرْدًا - هو الذي لا شعر على جسده - مُرْدًا - غلام لا شعر على ذقنه وقد يُراد به الحسن – مكحلين، أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنةً))؛ [حديث حسن]، وفي رواية: ((على صورة آدم وكان طوله ستون ذراعًا)).
 
في الجنة سنكون أجمل بكثير؛ روى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُعطيتُ سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، وقلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل، فزادني مع كل واحد سبعين ألفًا)).
 
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول زمرة تلِجُ الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يَمْتَخِطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومَجامِرُهم الأُلُوَّة - عود الطيب - ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يُرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرةً وعشيًّا)).
 
وفي رواية للبخاري: ((أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على إثرهم كأشد كوكب إضاءةً، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، لكل امرئ منهم زوجتان، كل واحدة منهما يُرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن، يسبحون الله بكرةً وعشيًّا، لا يسقمون، ولا يمتخطون، ولا يبصقون، آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الأَلُوَّة؛ قال أبو اليمان: يعني العود، ورشحهم المسك)).
 
في الجنة سنرى الله جل وعلا؛ قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ﴾ أي: سواد، ﴿ وَلَا ذِلَّةٌ ﴾ أي: كآبة، ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 26].
 
في الجنة سنرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
أسأل الله عز وجل أن يجمعنا وإياكم ووالدينا ووالديكم، وموتانا، والمؤمنين والمؤمنات في الفردوس الأعلى من الجنة، مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
 
كيف تريدها جنتك؟
ذات غراس: سبحان الله وبحمده؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من قال: سبحان الله وبحمده، غُرِست له بها نخلة في الجنة))؛ [الترمذي].
 
ذات قصور: سورة الإخلاص؛ روى الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] حتى يختمها عشر مرات، بنى الله له قصرًا في الجنة، فقال عمر بن الخطاب: إذًا أستكثر يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكثر وأطيب))؛ [حسنه بعض أهل العلم].
 
ذات كنوز: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: ((يا عبدالله بن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة))، أو قال: ((ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله)).
 
ذات رياض: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أُسرِيَ بي، فقال: يا محمد، أقْرِئ أمَّتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)).
 
لكل شيء ثمنه!
أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يُدرَك بالنعيم، ومن آثر الراحة فاتته الراحة؛ [إبراهيم الحربي].
 
المكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعبَر إليها إلا على جسر المشقة، ولا تُقطَع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد؛ [ابن القيم].
 
ورحت من سفر مضنٍ إلى سفر أضنى؛ لأن طريق الراحة التعبَ؛ [البردوني].
 
ولا بد دون الشهد من إبر النحل.
 
فمن أراد الراحة ترك الراحة، ومن رام السيادة هجر الوسادة، وكلما جاءتك أشياء عظيمة لا تُنال إلا بمشقة وتعب، دون أن تبذل شيئًا فيها؛ فثِقْ أنك لا تستحقها، وأنها امتحان صعب حلَّ عليك، وأن الزمان زمن الضيعة والتسلق، فإذا أخذت شيئًا، فخذه بقوة وحزمٍ العلمِ والقدرة؛ وإلا فاتركه، فلكل أمر أهله ورجاله.
 
كان محارب بن دثار قاضي الكوفة يدعو في الليل فيقول:
أنا الصغير الذي ربيتَه فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الغريب الذي وصيته فلك الحمد، وأنا الصعلوك الذي موَّلته فلك الحمد، وأنا الساغب الذي أشبعته فلك الحمد، وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، وأنا المسافر الذي صاحبتَه فلك الحمد، وأنا الغائب الذي أديته فلك الحمد، وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد، وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، وأنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد ربنا، ولك الحمد ربنا حمدًا لك على كل نعمة.
 
قال الفضيل بن عياض رحمه الله:
يا مسكين، أنت مسيء وترى أنك محسن، وأنت جاهل وترى أنك عالم، وتبخل وترى أنك كريم، وأحمق وترى أنك عاقل، أجلك قصير، وأملك طويل.
 
قال الذهبي رحمه الله: "إي والله، صدق، وأنت ظالم وترى أنك مظلوم، وآكل للحرام وترى أنك متورع، وفاسق وتعتقد أنك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه...".
 
وأخيرًا قـــال ابن الجوزي رحمه الله:
اعلم أن الزمان لا يثبت على حال فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يُفْرِح الموالي، وتارة يُشْمِت الأعادي.
 
فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا على كل حال، وهو تقوى الله عز وجل، فإنه إن استغنى زانته، وإن افتقر فُتحت له أبواب الصبر، وإن عُوفِيَ تمت النعمة عليه، وإن ابتُلي حملته...
 
ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد، أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه؛ لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير، والتقوى أصل السلامة...
اللهم ارزقنا التقوى وثبتنا، وعافِنا واعفُ عنا.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣