أرشيف المقالات

المفَرِّطون المفْرِطون

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
المفَرِّطون المفْرِطون
 
الحمد لله الذي امْتَنَّ علينا باليُسْر والتخفيف، وتَفَضَّل علينا برَفْع الحَرَج، وأنعَم علينا بانتفاء العُسْر والمَشَقَّة، وجعَلَنا أَوْسَط الأُمَم وأَعْدَلَها، وبَعَث إلينا رسولَه صلى الله عليه وسلم بالحنيفيَّة السَّمْحة، أَحَبِّ الأديان إليه سبحانه وتعالى، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لم يُخَيَّر بين أمْرين إلا اختار أَيْسَرَهما ما لم يكن إثمًا، ودعا على المُتَنَطِّعين بالهَلَكة، ووصَفَهم بالراغبين عن سُنَّته، المُعْرِضين عن طريقته، وأمَر أُمَّتَه بالتسديد والمُقارَبَة، وأرشدَهم إلى الاقتصاد في الهَدْي، وحَثَّهم على التبشير، وحَذَّرهم مِن التنفير، ونَعَتَ الرِّفْق بالزَّيْن، ووَسَم نقيضه بالشَّيْن، ونهانا عن اتِّباع سَُنَن مَنْ قَبْلَنا في التشديد والغُلُوِّ، ورَخَّص في إتيان أنواعٍ مِن اللهو المباح بين يديه؛ ليُعْلِم أهل الكتاب بما في دِينِنا مِن فُسْحة.
 
وبعد:
فقد تعاضدَت نصوصُ الشريعة الغَرَّاء على الحَضِّ على الوقوف عند حدود الشرْع دون إفراط أو تفريط، والحَثِّ على التمسُّك بها مِن غير غُلوٍّ أو جَفاء، والأمْر بلزوم غَرْزها بلا وَكْس ولا شَطَط.
قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 170].
وقال سبحانه: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43].
وقال جل وعلا: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 18].
وقال عز وجل: ﴿ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 106].
وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ [الكهف: 27].
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: والأمر في قوله تعالى: ﴿ وَاتْلُ ﴾ شاملٌ للتلاوة بمعنى القراءة، والتّلو: بمعنى الاتباع.

وروى البخاري ومسلم في صحيحهما - واللفظ للبخاري - مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوني ما تركتكم، إنما أَهلَك مَن كان قبلكم سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بأمْر، فأتوا منه ما استطعتُم)).[1]

وروى الدارقطني في سُننه، عن أبي ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله عز وجل فَرَض فرائض، فلا تُضَيِّعوها، وحَرَّم حُرُمات، فلا تنتهكوها، وحَدَّ حُدودًا، فلا تعتدوها، وسكتَ عن أشياء مِن غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)).[2]

فكما تعدَّدَت النصوص الشرعية في النهي عن الزيادة عن الحَدِّ المشروع - وقد قَدَّمْنا مَضْمون كثير منها في دِيباجة المقال - فقد تكاثرَت في مقابل ذلك النصوص الشرعية المُحَذِّرة مِن التهاون في الأوامر والنواهي، والتقصير في الشعائر والشرائع، فالأخْذ بالنصوص جميعًا هو طوق النجاة مِن تَعَمُّق المُتَنَطِّعة، ورَخاوة المُتَرَخِّصة، وصمام الأمان مِن انْخِناث هؤلاء، وجَلافة أولئك.

تَمازُج الضِّدين:
ليس من الغريب رؤية المتنطِّعين في الأحكام، المُغَالِين في التَّشَبُّث بآرائهم دونما هَوادة، ولا يُعَدُّ في العجائب وجود المُفَرِّطين في امتثال الأوامر الشرعية، المُتهاونين في مُجانبة المَحاذير والمَناهي، لكن الغرابة كل الغرابة، والعَجَب كل العَجَب: أن يتمازج التفريط والإفراط، وينسجم التَّنَطُّع والتَّرَخُّص، ويتواءم الغُلوُّ والتَّعَمُّق مع الرَّخاوة والخَراعة؛ فتَتَوَلَّد ظاهرة تجمع المتناقضَيْن، وتَخْلِط المُتَفارِقَيْن، وتَمْزِج المُتَباينَيْن.

فيصير السَّمْت العامَّ لأهل تلك الظاهرة: التَّمَيُّع في أخْذ الدِّين، والتَّحَجُّر في مناقشة المخالفين، وتطويع النصوص الشرعية للأهواء، ورَمْي المُسْتَمْسِكين بها بالجمود على ظاهرها، وتناولها بما يُخْرِجها عن رُوح الشريعة - وهم قد أَزْهَقوا رُوحها - والعَضُّ بالنواجذ على أقوال المُخَنِّثين للدِّين، ونَعْتُ أصحاب الحُجَج بالفَظاظة، ولو أَلان المنعوتون بها لهم الجانب، وبذلوا - تأليفًا للقلوب - وجوهَ السَّماحة واللُّطف لِمَن رماهم بدائِه.

فقد جمع أولئك المُخَلِّطون بين التَّهافُت في الاستدلال بتَتَبُع الزَّلَّات والرُّخَص مِن جهة، والصَّلابة في الرأي والشدة على المخالف - ولو حاز مِن الأدلة ما لم يحوزوه - مِن جهة أخرى.


الميزان الصحيح لمعرفة الغُلُوِّ والتَّنَطُّع:
إنَّ الميزان الصحيح لمعرفة الغُلُوِّ والتَّنَطُّع: هو النظر في مرجعية المُراد وَزْنه، سواء كان فردًا أو جماعة، ومدى قابلية ذلك الموزون لعَرْض أدلة قناعاته، وإثبات صحَّة ما يعتنقه مِن مذاهب وآراء، وما يَتَحَلَّى به الموضوع على القِسْطاس المذكور مِن رَحابة الصَّدر تُجاه المخالفين له، فيما يَسُوغ الخلاف فيه مِن الأقوال المُعْتَبَرَة - لا الشَّاذَّة - بل سَعَة القلب وفَساحَتُه، ومُلاينة القول وسماحته حالَ مُجادلة حاملي العقائد الباطلة، والأقوال الشَّاذَّة؛ رَأَفَةً بالجَهَلَة والمُضَلَّلين، ورَحْمَةً بالمُنْخَدِعين ببَهْرَج القول وزُخْرُفه، وإنْ كانت أقوالهم خارجة عن الاعتبار، ومُبايِنة لسبيل المؤمنين.

فأهل السُّنَّة يدْعون إلى الحق، ويرحمون الخَلْق، وأهل الباطل دَجاجِلة مُشَعْبِذون، وكثير مِن الدَّهْماء يزِنون المناهج والأفكار بطريقة حامِلِيها في الطَّرْح، وما بَدَا لهم مِن أخلاق الطَّارحين وخِصالهم، لا بمضمون ما يُعْرَض وكُنْهه.

فصار أهل الحقِّ أولى مِن خُصومهم بحُسْن العَرْض، وطِيب الجدال، والصبر على أذى المخالفين، ومُكابَدَة ضِيق عَطَن المُناوِئين، وهم مأمورون قبل ذلك مِن الشرْع الشريف بحُسْن الجدال، والحكمة في الدعوة، واللِّين للعباد، إلا مَنْ ظَلَم وتَعَدَّى، فله شأن آخر.

وقد عايَن كثيرٌ مِن الناس ما يَعْتَري دُعاة الباطل إذا ألقى أهلُ الحق ما بأيديهم من الحُجَج والبراهين، فدَمَغَتْ باطلهم، ولَقِفَتْ إفْكَهم، وأُسْقط في أيديهم، وظهر إفلاسُهم، فتَبَدَّلَتْ ثِقَتُهم المُدَّعاة اضطرابًا، وحِكْمَتهم المزعومة طَيْشًا، ورِفْقُهُم المُصْطَنَع خُرْقًا.

ويَتَجَلَّى لنا مما تقدَّم: أنَّ الآخذين بأشد الأقوال فيما اخْتُلِف في حُكمه من المسائل الشرعية لا يَلْزَمُهُم صِفَة التَّنَطُّع، ولا سِمَة الغُلُوِّ، إن كانوا قد ذهبوا مَذْهَبهم من الشِّدة لرَجاحَة الأدلة، كما لا يَلْزَم الآخذين بأيسر الأقوال فيما اخْتُلِف في حُكْمه من المسائل صِفَة التفريط، ولا سِمَة تَتَبُع الزَّلَّات واقْتِفاء الرُّخَص، إنْ كانوا قد ذهبوا مَذهبهم لذات العِلَّة الآنفة الذِّكر.

وإنما الفَيْصَل في وصف أُناس بالإفراط، وآخرين بالتفريط هو أُسلوب الترجيح، وطريقة الاختيار بين الأقوال، ومَرْجعية المَيْل إلى بعضها دون البعض، ومَوقِفُهم من الخِلاف المُعْتَبَر، وما تَتَحَلَّى به صدورهم عند الجدال من سَعَة أو ضِيق، كما تَقَدَّم ذِكْرُه عند الحديث عن الميزان الصحيح للتَّنَطُّع والغُلُوِّ.

فمن مال إلى قول شديد لم تتوفر الأدلة على المَيْل إليه، فهو غالٍ، إلا أن يكون مَيْلُه على سبيل الوَرَع، لا التحريم، وهذا لا يُسَوِّغ له دعوة الناس إليه، والإفتاء بمقتضاه.
ومن رَجَّح أيسر الأقوال على ما سواه في مسألة شرعية دون مُرَجِّح ظاهر، فهو مُفَرِّط، مُتَّبِعُ لهواه.
ومن تَعَصَّب لأحد الأقوال المُعْتَبَرة، وتَعَنَّت على مُخالفيه، فهو غالٍ مُتَنَطِّع.
ومن تَسَمَّح إزاء شَواذِّ الأقوال، وعاملها معاملة المُعْتَبَرة، فهو مُفَرِّط مُتهاون.

قَصْر المصطلح على بعض مَدلولاته مُجانِب للصواب:
فمَنْ ظَنَّ الغُلُوَّ مَقصورًا على تحريم ما لم يأت دليل شرعيٌّ على تحريمه، أو الاسْتِرْواح إلى الأخذ بشديد الأقوال فيما اخْتُلِف فيه، بغَضِّ النظر عن قوة الأدلة ورُجُحانها، أو نحو ذلك مِن الصوَر؛ فقد حَجَّر مفهومًا واسعًا، وضَيَّق مَدلول مصطلح شامل.

وما أكثر المصطلحات التي قَصَرها الناس على بعض مَدلولاتها، ولم يألفوا إطلاقها على بعض الأفراد المُنْدَرِجة تحتها؛ فمصطلح الحِزْبِيَّة مثلًا قَصَره أكثر اللَّائكين له على العصبية للجماعة، أو الحزب، بينما نَلْمَس الحِزْبِيَّة في أَمْقَت صورها، تَصْدُر عن أُناس لا ينتمون لأيٍ مما تقدم ذِكْرُه، فيتَعَصَّبون لشيخهم، ويوالون فيه، ويعادون، وإن كانوا ممن يَمْقُتون - نظريًا - التَّمَذْهُب والتَّحَزُّب، ويُبَدِّعون أصحابه، ويؤول حالهم إلى رَفْض العَصَبية لإمام من أئمة المسلمين - وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه - وبُلوغ ذِرْوتها لبعض المشايخ المعاصرين، نسأل الله السلامة والعافية من الإفراط والتفريط، والغُلُوِّ والجَفاء، والتَّنَطُّع واقْتِفاء الرُّخَص، والحمد لله رب العالمين.





[1] قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم (9/ 102) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم)): هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أُعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيها ما لا يُحصى من الأحكام، كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات، أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم، أو نحو ذلك، وأمكنه البعض فعل الممكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته، أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباه هذا غير منحصرة، وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود: التنبيه على أصل ذلك، وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وأما قوله تعالى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102]، ففيها مَذهبانِ، أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، والثاني: وهو - الصحيح أو الصواب وبه جزم المحقِّقُون - أنها ليست منسوخة، بل قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16] مُفَسِّرة لها، ومُبَيِّنة للمراد بها، قالوا: و﴿ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ هو امتثال أمْره، واجتناب نهْيه، ولم يأمر سبحانه وتعالى إلا بالمستطاع، قال الله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، والله أعلم.


وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإذا نهيتُكم عن شيء، فدَعُوه)) فهو على إطلاقه، فإنْ وُجد عذر يُبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة، أو شُرب الخمر عند الإكراه، أو التلفُّظ بكلمة الكفر إذا أكْره، ونحو ذلك، فهذا ليس منهيًّا عنه في هذا الحال، والله أعلم، انتهى.
وقد نقلت الشرح المذكور؛ لِمَا قد يلتبس مِن معنى الحديث، وانظر للمزيد: فتح الباري (13/ 260 - 264).



[2] حَسَّنه بعضُ أهل العِلم، كالحافظ أبي بكر ابن السمعاني في «أماليه» كما نقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص261)، والإمام النووي في «الأربعين» (ص40)، وفي «رياض الصالحين» (ص544)، وفي «الأذكار» (ص353)، وحَسَّنه بعضُهم بشواهده، كالألباني في تعليقه على شرح الطحاوية (ص338)، وعلى الإيمان لابن تيمية (ص44)، ونَصَّ بعضُهم على تصحيحه، كابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 249)، وصَحَّح البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (1/ 423) إسناده عند ابن أبي شيبة ومُسَدَّد في مُسندَيهما.
والصواب: أنه حديث مُعَلٌّ كما بين الدارقطني في العلل (6/ 324)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص261، 262)، والله أعلم.
وقد رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 12) موقوفًا على أبي ثعلبة رضي الله عنه.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١