أرشيف المقالات

من مشاهد الشرق

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 4 - طائفة البهرا في الهند ملاحظات في المجتمع البهري بقلم محمد نزيه تتمة يقول الكهل الوقور محمد علي بخش رئيس الوزارة البهرية في وصف طائفته، إنها (طائفة تجارية) لا يحيد عن سبيل التجارة واحد من أبنائها، فإذا تنكب أحدهم هذه الطريق أو ضلّها، فلاذ بكرسي للحكومة، أو زاول حرفة من الحرف لم تكن التجارة جل همه منها، فقد انحرف عن تقاليد الطائفة، وعق ديانتها، ورماها في أمنع حصونها، فأصاب منها منازل القدسية والحرية والجاه هي جماعة أقسمت مذ وضعت في كف الحياة كفها، ألا تعرف خفض العبودية ولا يعرفها رق هذا الزمان، وإنهما ليقتحمان كل شيء إلا هذه الأمة التي أجمعت على ألا يكون الوطن المقدس رقعة من الأرض يهون امتلاكها، ولا يعز اغتصاب ما فيها ومن فيها، بل هم استغنوا عن الوطن المقدس بالعهد المقدس أن يكون صغيرهم ابن كبيرهم، وكبيرهم أبا صغيرهم، وكل كبارهم أشقاء وكل صغارهم أشقاء، وأولئك وهؤلاء كأنما انتظم أرواحهم جميعاً سمط واحد من شعاع الشمس لا يقطع أبداً.
وإذ كان لا بد لهذا الجوهر الأحد من معارف وبواطن تفرقُ بينه وبين سواه، فإن أجلى معارف البهري ابتعاده عن مخالطة أي امرئ من غير طائفته؛ ومعظم بواطنه الحب والمودة والأهبة الدائمة لمعاونة أخيه في مذهبه، دون تفريق بمختلف الأجناس والمراتب، فاستغنوا بقوادهم عن كل حاجة إلى سواهم، حتى (الحكومة) يعزفون عن أعمالها، ترفعاً بأنفسهم عن شعور الحاجة إليها يوماً من الأيام يقدم البهري من أقاصي إفريقية على بمبي، فينزل من قلوب أبناء الطائفة هناك، منزلة من عاد إلى أمه وأبيه من سفر طويل، كل بيت من بيوتهم هو ملك يمينه حتى تقر نفسه وتذهب وحشته، فينفح بما يحتاج التجارة إليه من مال، يبدأ به عمله، فإذا لمح وجه الفشل، أسرع فوضع أمره بين يدي طائفته، فلا يكاد ذلك يضح لهم، حتى ينهالوا على بضاعته ابتياعاً، إلى أن تروج سوقه، وتبدو طلائع نجاحه، فلن تجده مهما نقبت عنه، ذلك البهري الذي لم يفيء الله عليه بنعمة السعة واليسار وإذ كانت شؤون هذه الأمة الواحدة في حاجة إلى الراعي، يصرفها ويسهر على تدبيرها، فلا بد لها من قاض يفرق بالعدل بين أبنائها جميعاً فيرضيهم جميعاً، وهذا القاضي هو داعي الدعاة في بمبي، وهو نائبه في كل بلد اتخذها بعض هذه الطائفة منزلاً، يخولونه أمرهم فيقضي بينهم بما شاء، لا يرد له حكم ولا يراجع في أمر؛ ملك لا يملك من أسباب السلطان إلا عدل القاضي، فكيف يبرم عدله ولا ينال للمظلوم من ظالمه، وإنما يحكم بالعدل ويأمر ضمير الظالم أن يجزي صاحبه وأن يردعه، بل لعل المظلوم لا يشكو، وإنما ظالمهم هو الذي يشكو أن ضميره يخزه ويشتد عليه مذ ظلم، فيادعي القوم اكفني عذاب الضمير فإنه ليوشك أن يكون كالموت لا يُعتِبُ.

هذا قاض أمره عجيب، وقضاؤه أعجب، أتراه يمضي على شرعة مدونة؟ أتراه يستلهم قانوناً بعينه ماله عنه من محيد؟ كلا، وإنما يستلهم قوة روحه، وقد استُمِدت من معالم الشيعة وأعلام كتبهم يعدل الداعي بقوة الروح، ومن مظاهرها أنها تسترقُّ الناس حولها، مرتغبين لا مرتهبين، بدافع الحب، ومظهر الحب الخضوع، يسمو حتى يصير تفانياً.
تتجه القلوب إلى الداعي، لأنه عظيم من عظمة الله عظمته؛ ثم تتعلق القلوب به، لأنه مقدس من قدسية الله قدسيته، ثم تتقبل ظلمه قبول الرضا، لأنه ولي المالك المتصرف - في رأيها - فإذا عدل، تفانت فيه، فإذا أحب فنيت في روحه، وذاك داعي الدعاة عند طائفة البهرا هو فرد ولكنه الجماعة كلها، وهم جماعة ولكنهم فرد واحد يقل ويقل حتى تتسع له سويداء قلب واحد كبير، هو قلب هذا الرجل، يحدب عليهم وما يحدب إلا على نفسه، ويحدبون عليه فهم على أنفسهم يحدبون.
ولقد علمت أن الحب شريعتهم، فأعلم أن أول أحكام هذه الشريعة أن ما يحوزه كل بهري هو للشيخ قبل أن يكون لصاحبه، يتصرف فيه متى شاء أينما شاء كيفما شاء، وما جار.
أليس رب الدعوة إلى التعاون والتساند والتعاضد وهي التي أثمرت كل ما أوتيت الطائفة من مال أو أكثره؟ نعم فلكم أغنت هذه المبادئ عائلاً، وأعزت يتيماً، وروّت صادياً! وهل يكون ساقي البذرة إلا رب ثمارها.

وفيم ينفق الأمين العادل المحب ماله إلا على الأمانة والعدل والحب؟ إنه ليأخذها صاعاً فيردها بأمانته وعدله وحبه عشرة على أن الشيخ لا يَهْنِئُه طعامه إلا إذا كان من كد يمينه؛ ولهذا يشتغل بالتجارة، ولأمر آخر هو القدوة، ويربي تجارته كأي من أبناء طائفته، ولا ينسى حادث ذلك الشيخ الذي عاش في المدينة على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان لا ينقطع عن العبادة في ليله أو نهاره، إلا ريثما يتأهب لرجع ما انقطع، وإنه لراقد بالعراء لا يحمل لدنياه هماً، وإن حمل لأخرته هموماً، يخف الناس إلى تزويده بالطعام سراعاً وهم يغبطونه على تزوده للآخرة، حتى مر النبي به في بعض غدواته، فدنا ممن أحاطوا به، وسألهم ما خطبكم حتى تكأكأوا على هذا الشيخ، قالوا: رجل صالح يا رسول الله، نهاره وليله صيام وقيام، فعجب النبي عليه الصلاة والسلام! وأسرع يسأل، ومن يقوم بطعامه؟.
من يقوم بطعامه؟! رسول الله يسأل؟ فيا فخرنا عند رسول الله إن كنا نطعم الشيخ الصالح، ويا حظنا من رضا رسول الله إن علم أننا نؤثره على أنفسنا بالطعام.

لم يكد النبي يسأل، ومن يقوم بطعامه؟ حتى تسابقت أصوات كثيرة تقول، ترجو ثواب الله.

كلنا نطعمه يا رسول الله، وأحاطت أبصارهم بوجه النبي ترصد ابتسامة الرضا، فإذا بالوجه المشرق الكريم يعبس، ويضطرب، ثم تجتمع في غضبته حكمة الأبد من قوله: (كلكم خير منه).
داعي الدعاة الشيخ المسن لا ينسى هذا الحديث، وإن قومه ليقدسونه، وتطيب نفوسهم له بكل ما يملكون، ويبلغ من تقديسهم شخصه أن يستكبروا على الأرض أن تمسها قدماه، فيحملونه إذا أراد الانتقال من حجرة من قصره إلى أخرى، وهو على رغم ذلك كله حريص على أن يغدو إلى متجره كل يوم، فيقضي بعض نهاره عاملاً لدنياه، كأنه على شيخوخته وضعفه، يعيش أبدا إن الدين لله، فما يحفظ رجل الدين عليه حرمته، إذا وزن الدعوة إليه بالدرهم والدينار، إنما يسمو رجل الدين، وتخلص روحه، وتصقل نفسه فلا تمسها شائبة من أكدار الدنيا، إن يلتمس على جهده مثوبة الله وحده، مزدرياً للوظيفة تجري عليه فتذكره كلما أوشك أن ينسى، بأن دعوته رهن بوظيفته، ووظيفته رهن بدعوته.

.
فهل نوجب على رجل الدين أن يكون زاهداً؟ كلا بل نريده مع ذلك مكفول الرزق موفوره، بادي النعمة واليسار، عالي الكف يعطي ويتعفف أن يأخذ، وكيف السبيل؟ سبيل واحد يسلكه داعي الدعاة البهري، وعماله في مختلف البلاد، وقد سلكه من قبله أشرف البشر وسيد سادتهم محمد عليه الصلاة والسلام، إذ كان تاجراً؛ وفي التجارة وهي أم (المعاملات)، ألوان من الخير والأمانة والصدق والاستقامة والقناعة والدأب، ومن كل فضيلة في الأرض، وهي التي توجت (بالأمين) اسم محمد، و (بالصادق) أمانة محمد، فكانا شافعيه لدى الله في اختياره، ولدى الخلق في دعوته وفي هامش هذا الحديث فلنذكر، أن داعي دعاة البهرا، أراد في العام الماضي، وكنت حينئذ في بمبي، أن يحج إلى كربلاء موطن قبر الحسين، ومفيض نفسه ودمه، وإذا سار الشيخ كانت الطائفة كلها تسير، فلا بد من مظاهر العظمة ومطالع الجلال، وأسباب التحدث بنعمة الله، وفي سبيل ذلك اكترى الشيخ باخرة من عظام البواخر، عبرت به إلى البصرة في ستمائة بهري، وما فتئ مذ وطئت قدماه أرض العراق يمجد الناس من عطاياه، بأكرم ما يتسع له كرم، وأكمل ما يفيض به جاه.
.
فمن أين؟ من تجارة الشيخ وكد يمينه وثانيهما فلينته هذا الحديث الذي لا يفرغ منه، بأمرين، أولهما أن التعاون والمحبة هما روح الجماعة الصالحة المفلحة، وعلى قدر القلة في عدد الجماعة تكون قوة الروح، فكأن أجدادنا لم يخطئوا حين اتخذوا نظام القبيلة، وكأننا أحفادهم، لم نتقدم خطوة واحدة حين خلّفنا نظامها وثانيهما أن التجارة أشرف حرفة وأعف حرفة، وأكفل حرفة بالنعمة واليسار، وأيسر حرفة مع الفضيلة، فإذا أهبنا برجل الدين، وإنه لأعظم الناس خطراً أن يعوّل عليها، ويلتمس شرفها، فأخلق بكل رجل أن يُحمِّلَها أمنيتيه من الغنى: غنى النفس وفي أعقابه غنى المال القاهرة محمد نزيه

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١