أرشيف المقالات

الأنبياء وسكرات الموت

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
الأنبياء وسكرات الموت

لم يَسلَم الأنبياء - مع علوِّ مكانتهم ورِفعة منزلتهم - من سكرات الموت، يُروى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما مات قال الله - عز وجل - له:
((كيف وجدتَ الموتَ؟ قال إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -: كسفود[1] جُعِل في صوف رَطب ثم جُذِب، فقال له رب العزة: أما إنَّا قد هوَّنا عليك)).
 
ويُروى عن موسى - عليه السلام -: "أنه لما صارت رُوحه إلى الله - عز وجل - قال له ربه: ((يا موسى، كيف وجدتَ الموت؟ قال: وجدتُ نفسي كشاة حيَّة بيد القصَّاب[2] تُسلَخ)).
 
ورُوي عنه أيضًا أنه قال:
"وجدتُ نفسي كالعصفور الحي حين يُقْلَى في المِقلى، لا يموت فيستريح، ولا ينجو فيطير".
وقد عانى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كذلك من هذه السكرات؛ فقد أخرج البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت:
"إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بين يديه رَكوةٌ[3] - أو علبة فيها ماء، يشك عمر (أحد رواة الحديث) - فجعل يُدخِل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات))، ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى))، حتى قُبِضَ ومالت يده"، قال أبو عبدالله: العلبة من الخشب، والرَّكوة من الأدم (الجِلْد).
 
وأخرج البخاري عن عائشة أيضًا - رضي الله عنها - قالت: "مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه بين حاقِنَتي[4] وذاقنتي[5]، فلا أكره شدة الموت لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم".
 
وفي "الصحيح" أيضًا: "أنه لما ثَقُل النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يتغشَّاه الكرب، فجعلت فاطمة - رضي الله عنها - تقول: واكرب أبتاه! فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا كَرْب على أبيك بعد اليوم)).
 
وعند الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس - رضي الله عنه - قال: "لما قالت فاطمة ذلك - يَعني لما وجَد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كَرْب الموت ما وجد، قالت فاطمة: واكرباه! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بُنيَّة، إنه قد حضر بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحدًا لموافاة يوم القيامة))؛ (السلسلة الصحيحة: 1738).
 
لكن ما الحكمة من تشديد الموت على النبيِّين، يُجيب عن هذا القرطبي - رحمه الله - فقال: "لتشديد الموت على الأنبياء فائدتان:
الأولى: تكميل فضائلهم ورفْع درجاتهم، وليس ذلك نقْصًا ولا عذابًا، بل هو من جنس ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد: ((إن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)).
 
الثانية: أن يعرف الخَلق مقدار ألم الموت وأنَّه باطن، وقد يَطَّلع الإنسان على بعض الموتى، فلا يرى عليه حركة ولا قلَقًا، ويرى سهولة خروج الرُّوح، فيظن سهولة أمر الموت، ولا يعرف ما الميت فيه، فلما ذكر الأنبياءُ الصادقون في خبرهم شدة ألمه، مع كرامتهم على الله تعالى، وتهوينه على بعضهم قطَع الخلقُ بشدة الموت الذي يُقاسيه الميت مُطلقًا؛ لإخبار الصادقين عنه، ما خلا الشهيد (قتيل الكفار)، فإنه لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مسِّ القرصة، كما ثبت في الحديث"؛ اهـ.
 
فإذا كانت هذه سكرات الموت على الأنبياء والمرسلين وعباد الله الطيبين، فكيف بالظالمين الذين قال عنهم رب العالمين: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93].
 
يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية:
"﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ﴾؛ أي في سكراته وغمراته وكرباته: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ﴾ [الأنعام: 93]؛ أي: بالضرب؛ كقوله: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ﴾ [المائدة: 28]، وقوله: ﴿ وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ﴾ [الممتحنة: 2].
 
قال غير واحد: ﴿ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ﴾؛ أي: بالعذاب، كقوله: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [الأنفال: 50]؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [الأنفال: 50]؛ أي: بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ﴾ [الأنعام: 93]، وذلك أن الكافر إذا احتُضِر بَشَّرته الملائكة بالعذاب والنَّكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرَّق رُوحه في جسده، وتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93]؛ أي: اليوم تُهانون غاية الإهانة، كما كنتم تَكذِبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرُسله، وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفيَّة احتضار الكفار عند الموت"؛ اهـ.
 
ففي مسند الإمام أحمد عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال -: ((وإن العبد الكافر - وفي رواية الفاجر - إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة غِلاظٌ شدادٌ، سود الوجوه معهم المُسوحُ[6] من النار، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء مَلَك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول، أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرَّق في جسده، فينتزعُها كما يَنتزِع السفود الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتُقطَّعُ معها العُروقُ والعصبُ)).
 
سؤال: ولعل قائلاً يقول:
إذًا، ما الفارق بين الأتقياء والأشقياء، وبين الصالح والطالح؟ فالكل يُعاني من سكرات الموت!
 
نقول: لا يستويان؛ فإن الكافر والفاجر يُعانيان من الموت أكثر مما يُعاني منه المؤمن؛ كما دلَّ على ذلك الحديث السابق، فتتقطَّع مع خروج الرُّوح العروق والعصب، هذا أمر.
 
والأمر الآخر: أن سكرات الموت للكافر أو الفاجر: محنة ونقمة وشدة وعذاب ونَكال.
 
أما سكرات الموت للمؤمن التقي النقي: فهي مِنحة ونعمة ورحمة؛ حيث يُغفر بها الذنوب، أو تُرفع بها الدرجات.
 
فقد رُوي عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:
"إذا بقي على المؤمن من درجاته شيء لم يبلُغها بعمله، شُدِّد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدائده درجته من الجنة، وإن الكافر كان قد عمِل معروفًا في الدنيا، هُوِّن عليه الموت، ليستكمل ثوابَ معروفه في الدنيا، ثم يصير إلى النار"؛ (رواه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت).
 
وقفة:
الشهيد تُخفَّف عنه سكرات الموت؛ فقد أخرج الترمذي والنسائي والدارمي بسند حسن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الشهيد لا يجد ألمَ القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة))؛ (صحيح الجامع: 3746).
 
موعظة:
يقول الحسن البصري - رحمه الله -: "اتقِ الله يا ابن آدم، لا يجتمع عليك خَصلتان: سكرة الموت، وحسرة الفوت".
 
وقال ابن السماك: "احذَر السكرة والحسرة، أن يَفجأَك الموت وأنت على الغِرَّة، فلا يَصِف واصفٌ قدْر ما تلقى".
 
وقال أحدهم:






يا فُرْقة الأحبابِ، لا بدَّ لي منكِ
ويا دار دنيا، إنني راحلٌ عنكِ


ويا قِصَر الأيام، ما لي وللمُنى
ويا سكرات الموت، ما لي وللضَّحِكِ


فما لي لا أبكي لنفسي بعَبرة
إذا كنت لا أبكي لنفسي فمَن يبكي









[1] السفود: حديدة معقفة يشوى عليها اللحم.


[2] القصَّاب: الجزَّار.


[3] الرَّكوة: إناء صغير من الجلد يُشرب فيه الماء.


[4] الحاقنة: المطمئن بين الترقوة والحلق.


[5] الذاقنة: نقرة الذقن، وقيل غير ذلك.


[6] المُسوح: جمع المِسح (بكسر الميم)، وهو ما يُلبَس من نسيج الشعر على البدن؛ تقشُّفًا وقهرًا للبَدن.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣