int(1916) array(0) { }

أرشيف المقالات

الوجود السلفي في عصر التكتلات العالمية الضخمة (2)

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
الوجود السلفي في عصر التكتلات العالمية الضخمة (2)
 
السَّلفيَّة بمفهومها الواسِع - والتي تَعنِي: الإسلام المحمَّدي الأول - هي: عامَّة التجمُّعات السَّلفيَّة في كثيرٍ من العالَم اليوم، نعم، تتفاوَت تلك الجماعات والتجمُّعات قُربًا وبُعدًا من المَنهَج الأوَّل الأصيل الذي سارَتْ به الأمَّة وقتَ سادَت الدُّنيا وساسَتْها بالدِّين الحقِّ.
 
لكن غالب تلك التجمُّعات لم تُخالِف أصول السُّنَّة المعقود عليها الولاء والبراء، وما وقَع من مُخالَفات لمنهج أهل السنَّة كانت غالبًا فرديَّة، أو عن تأوُّل لا ينزل مَنزِلة المخالف العالِم بمخالفته للسنَّة ومنهج السَّلَف.
 
وقد قدَّمتُ بهذه المقدِّمة للإشارة إلى أنَّ التواجُد السَّلفي؛ يعني: التواجُد الإسلامي في صُورَته الصحيحة، كما أنَّ التواجُد الحاضر للإسلاميين يعني - غالبًا -: التواجُد السَّلفي؛ وعليه: يتناوَل الحديث عن السَّلفيَّة باعتبارها الإسلام المُصفَّى، يندَرِج عامَّة الإسلاميين المُنخَرِطين في العمل الدعوي تحت راية السَّلفيَّة من حيث مُوافَقة المنهج السَّلفي، وإنْ لم يقَع الانتِساب الاصطِلاحي لمصطلح "السَّلفية".
 
وفي عصر التكتُّلات العالميَّة الضَّخمة، تَسعَى كلُّ طائفة لتكوين تكتُّلٍ تَخُوض به غِمار المعركة الحديثة، مَعرَكة السَّيْطرة والهَيْمَنة، أو معركة الاستِمرار والبَقاء، ومَن لم يتَسنَّ له تكوين التكتُّل الموافق لمنطلقه وغايَته، انضمَّ لأقرب تلك الكُتَل؛ لضَمان البَقاء والمستقبل الآمِن.
 
إنما يأكُل الذئب من الغنم القاصية:
وإذا كان المسلمون قد تفرَّقوا أو قد فُرِّقُوا رغمًا عنهم، ووفْق مخطَّط أعدائهم، فإنَّه لا عُذرَ لقادة العمل الإسلامي في كلِّ مكانٍ من التجمُّع من أجل مُقاوَمة القُوَى المُنابِذة للإسلام والمسلمين.
 
وقد سعَى قادة البِلاد المُسلِمة بعد ظهور تلك التكتُّلات الكبيرة للتكتُّل على أفكارٍ شتَّى؛ كالقومية العربية وسائر القوميَّات، فلم تُحقِّق شيئًا، ووقَع التناحُر والتشاحُن والتحاسُد، كما أُرِيدَ لهم تَمامًا، بل تأخَّرَتْ بلادُ المسلمين في شتَّى الميادين والمجالات؛ لأسبابٍ كثيرةٍ، نُجمِلها؛ لأنها خارج موضوع المقال:
• فساد النُّظُم التي وضَعَها العدوُّ لتُدارَ بها تلك البلاد المسلمة.
• عدم توافُق تلك النُّظُم من الشُّعوب المُسلِمة التي تَهوِي برُوحِها إلى الإسلام.
• صُعُوبة انصِياع الجنس العربي للقَوانِين والنُّظُم إذا لم تكن دينًا.
 
فلم يبقَ إذًا لتلك البلاد المسلمة إلاَّ الإسلام، ولم يبقَ للإسلام إلاَّ القائمون عليه من أبناء الدَّعوة الإسلاميَّة، الذين هم أصحاب التجمُّعات الإسلاميَّة، ولم يبقَ لتلك التجمُّعات صَوْتٌ تُسمَع به كلمتهم إلاَّ بعد كسْر حَواجِز التواصُل بينهم، والعمل على التجمُّع الواحد وترْك التفرُّق، والعمل على تكتُّلٍ يُزاحِم تلك التكتُّلات، ويَضمَن للدعوة بقاءَها.
 
وإذا كان الشَّرع قد استحثَّنا على التقوِّي ببعضنا البعض، ونَهانا عن التفرُّق والتنازُع حتى لا نفشَل وتَذهَب ريحنا، فإنَّ الواقِع كذلك يُملِي علينا ضَرورة الاجتِماع والتجمُّع من أجل البَقاء، ومن أجل نشْر رسالتنا.
 
ولَمَّا كان من أساسيَّات التجمُّع بين كلِّ قوَّتين توحيدُ الهدف، أو صناعة العدوِّ المُشتَرَك، فقد اتَّخَذ الغَرْبُ "الإسلام" عَدُوًّا مشتركًا يُصوِّبون نحوَه سهام الكراهية والحِقد؛ تارَةً بآلة الحرب الصريحة، وأخرى بآلة الحرب الباردة، من تضييقات اقتصاديَّة، إلى بثِّ الفَوْضَى الاجتماعيَّة، إلى إحياء مَذاهِب فكريَّة بطَّالة...
إلى وإلى.
 
فلا يجتَمِع الغرب اليومَ على شيءٍ بقدر اجتماعِهم على النَّيل من الإسلام وأهله؛ باسم مُحارَبة التطرُّف والأصوليَّة، وباسم نشْر الديمقراطيَّة، وباسم الحريَّة، وباسم التَّنوير، وكلها في النهاية دَعوات يقصد بها قتْل رُوح الإسلام، كما قُتلت تَمامًا النصرانيَّة المحرَّفة من قبلُ على يد العلمانيِّين الغربيِّين في القُرُون الوُسطَى، وأُودِعت أسوار الكنيسة.
 
وهكذا أرادَ الغرب للإسلام، أنْ يدخل المسجد فلا يَخرُج منه، لا لكونه أفسَدَ الحياة العلميَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة كما فَعَلت الكنيسة إبَّان تسلَّطت على الناس؛ ولكن لأنَّه سبيلُ المسلمين الوحيد في التصدِّي للهَيْمَنة الغربيَّة العالميَّة على الشُّعوب العربيَّة وغيرها.
 
كما أنَّه - الإسلام - صاحِبُ المنهج الإصلاحي الساعِي لتخليص العالم من الفَوْضَى التي أحدثَتْها الحضارة الماديَّة المُعاصِرة؛ لهذا كلِّه خشي الغرب الإسلامَ، وعمِل على سجنه بين سِياج المساجد كما سُجِنت النصرانيَّة، وإنِ اختَلفَتْ أسباب السجن للديانتين.
 
ومع بُرُوز الدعوات والحركات الإسلاميَّة ودخولها المجال السياسي والاجتماعي، لحظَتْها العيونُ الغربيَّة، ورصَدَتْ كلَّ تحرُّكاتها تقريبًا، كما يَظهَر هذا جَلِيًّا في التقارير الإعلاميَّة الغربيَّة عن الإسلام والجَماعات الإسلاميَّة، بل وخصصت مراكز ولجنات لِمُتابَعة سَيْرِ الدعوة الإسلاميَّة بكلِّ أطيافها.
 
وكان هذا من الغرب المتخوِّف من الإسلام ومن الدَّعوات الإسلاميَّة، طريقًا يُمهِّد لسبل التصدِّي لتلك الدعوات والتجمُّعات، تمامًا كدِراسة العدوِّ لعدوِّه قبل أنْ يُغِير عليه، ومن ثَمَّ ظهَرت الحرب الفكريَّة على تلك التجمُّعات، بتَشوِيه صُورتها والافتِراء عليها تارَةً، ومُواجَهة جَداوِلها الدعويَّة بالضدِّ تارَةً، والإيعاز بها تارات.
 
وإذا كانت الدعوة لا تستَطِيع تحقيق تجمُّعٍ ضخْم على أرض الواقع تَقُوم عليه غايات الخلافة الإسلاميَّة وفروضها، فليس أقل من تجمُّع فكري وروحي يتصدَّى بهما لتلك الهجمات الغربيَّة العنيفة على الإسلام والدَّعوة والإسلاميَّة.
 
وهناك عَوامِل كثيرة يُمكِننا بها تَحقِيق التجمُّع الفكري الرُّوحي، الذي به نَصِلُ للتجمُّع الحاضر في أرض الواقع، من تلك العَوامِل على سبيل الإجمال:
• التقارُب الحواري بين قادة العمل الإسلامي.
• التعاوُن العملي فيما هو مُستَطاع.
• إرساء قواعد الأخوَّة الإيمانيَّة بشكل أكبر.
• مُدارَسة فقه الخِلاف وأسباب الاختِلاف ومُعالَجتها.
 
وبعدُ:
فالحديث عن التجمُّع الفكري والروحي أو التجمُّع الحاضر على أرض الواقع لا يعني: مخالفة كلِّ طائفة لما تعتَقِده دينًا يجب المسير عليه، ولا يعني كذلك: التنازُل للتقارُب، وإنما يعني: تضييق مَجالات الاختِلاف والتفرُّق، والاستِفادة والتعاوُن فيما هو متَّفَق عليه، وهو في واقِعنا، وفي مُواجَهة القُوَى المختَلِفة التي اجتمعَتْ علينا، هذا التعاوُن في صَدِّ العدوان عن ديننا والقيام به اتفاقُنا فيه أكبر وأعمَقُ في نفس كلِّ مُخلِص يحبُّ أمَّته الجريحة.
 
نعم، يجب ألاَّ نغفل واجِبَ المفاصلة عند التلبُّس بالبِدَع والأصول المنهجيَّة الهدَّامة، لكن هناك خُطوات كثيرة قبل المفاصلة يجب أنْ تُتَّبع هي الأخرى ولا تُغفَل، كما أنَّ هناك فقه واقع يجب مُراعاته والتحقُّق به، من قِبَل العُلَماء وأصحاب الدَّعوات الذين يُحسِنون مُقارَبة الأمور والنَّوازِل، ويقفون على المَصلَحة الشرعيَّة ويُراعُونها حقَّ رِعايتها.
 
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

شارك المقال

المرئيات-١