الدين وواقع المسلمين في العصر الحديث
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
الدين وواقع المسلمين في العصر الحديثبسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أفضل رُسل العالمين، وعلى آله وصَحْبه ومَن تَبِعه بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فاعلمْ - رَحِمك الله - أنه لَم يقع بالأمة الإسلاميَّة في هذا العصر الحديث وفي كلِّ زمان، مثل هذه الويلات والنوائب والفتن والاقتتال، التي نُشاهدها في بلدان شتَّى من العالَم، إلاَّ بما جَنوه بأنفسهم من الأمور العظام التي سنعرضها بين أيديكم بإيجازٍ شديدٍ من قريب.
وإن كان يستحقُّ كلُّ أمرٍ من هذه الأمور التي سأذكرها أن يُكتبَ في كتابٍ مفردٍ، ولكنَّ مقصودنا هنا أن نضعَ أيديكم موضع الدَّاء؛ لنعرف العلة، وليَسْهُل لنا العلاج فيما بعدُ - إن شاء الله.
أوَّلاً: تَرْك الناس الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر المفروض عليهم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
فهذه سُنة الله في خَلْقه التي لا تتبدَّل، وإذا لَم يُغيِّر الناس ما بأنفسهم من حبِّ الكفر والفسوق والعصيان، فكيف يُزيِّن الله الإيمان في قلوبهم، ويُحَبِّبه إليهم، وقد قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25].
وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
وقال أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في خُطبته: "إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105].
وإنَّكم تضعونها في غير موضعها، وإني سَمِعت النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إن النَّاس إذا رأوا المنكر فلم يُغَيِّروه، أوْشَك أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه))".
ويتعيَّن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ستة أشخاص حسب تقديري كما يلي:
أ- إمام المسلمين، ووُلاة الولايات الإسلاميَّة، وعلماء المسلمين.
والواجب عليهم تحمُّلُ المسؤوليات العظيمة التي وضَعها الله على أعناقهم تُجاه المسلمين؛ حيث يجب عليهم توجيه المسلمين بنفوذهم وبفتاويهم وعلومهم لِمَا فيه صلاح الأُمَّة الإسلامية في دينهم ودنياهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وهذان العنصران - أي: العلماء والأُمراء - أخطر ما يكونان للأمة الإسلامية؛ إذ فسادهما وتعاونهما على الفساد والإفساد، يفسد المجتمع الإسلامي بطريقة لا نظيرَ لها على الإطلاق، وإذا صلحا وتعاوَنا على الصلاح والإصلاح، فهو من أنعم ما يكون للأمة الإسلامية؛ كالإرشاد إلى الخير، وإقامة العدالة المنشودة بين الناس، والإحسان إلى الخَلق، وغير ذلك.
وخير دليلٍ لك على ذلك، أن تنظرَ كيف أنَّ الإمام محمد بن عبدالوهَّاب، والإمام محمد بن سعود - رَحِمهما الله - كسرا وقمَعا الشِّرك والفساد في عصرهما، ونَشَرا التوحيد والخيرات؛ حتى انتفَع بهما العباد والبلاد.
ولقد بدَأَت دولتهما من قريةٍ صغيرةٍ، حتى وصَلَت الجزيرة العربية كلَّها، فضلاً عن اليمن والعراق، والشام وغير ذلك، وذلك ما كان ليكون - بعد فضْل الله - إلاَّ ببركة تعاونهما وتعاهُدهما، وبَيْعتهما على تطبيق شريعة الرحمن، والتمسُّك بالحق والتوحيد والجهاد في سبيل الله، فصارا أنموذجين مثاليِّين، جَبَلين لكلِّ أميرٍ وعالِمٍ مخلصٍ لله رباني، فلله دَرُّهما، ورَحِمهما الله، وأسْكَنهما الله فسيحَ جناته؛ إنه هو المولى والقادر على ذلك.
ب- من عيَّنته الحكومة الإسلاميَّة:
وهم أهل الحِسبة، وعليهم الدعوة إلى الله بالرِّفق واللين، والحِكمة والصبر والفقه، وتَحبيب الناس إلى دينهم، وتغيير المنكرات بلا منكرٍ، مع إعدادهم الإعدادَ الكافي؛ ليكونوا مؤهَّلين للقيام بمثل هذه المهمة العظيمة.
ج- من علمه بالبصر أو بالسمع وقَدَر عليه؛ سواء كانت تلك القدرة علميَّة، أو قدرة تغييريَّة - إن صحَّ التعبير - حسب درجات التغيير وإنكار المنكر؛ كما جاء في الحديث: ((مَن رأى منكم المنكر، فليغيِّره بيده، فإن لَم يستطع فبلسانه، فإن لَم يستطِع فبقلبه))، وفي رواية: ((فمَن جاهَدهم بيده، فهو مؤمن، ومَن جاهَدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهَدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك حَبَّةُ خَردلٍ من إيمان)).
وذلك لأنَّ الرضا بالكفر كفرٌ؛ حيث صار قلب ذلك الشخص لا يَعْرِف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، كالكوز مُجَخِّيًا والعياذ بالله؛ كما جاء ذلك في حديثٍ آخرَ.
ج- مَن كان له سلطة في قبيلته، وكان فيهم مطاعًا، فإنه يتعيَّن عليه أن يدعوَ إلى الله، ويستفيد من نفوذه في فَتْح سُبل الخير وإغلاق سُبل الشرِّ على حسب طاقته.
د- مَن له سلطة على أشخاص معيَّنين، فعليه أن يقوم بمسؤوليَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رعيَّته، بل ولو قلَّت تلك السلطة أو المسؤولية، كأن تكون وزارة أو إدارة، أو إعلام أو مدرسة؛ سواء كانت صغيرة، أو كبيرة، وهَلُمَّ جرًّا.
هـ- مسؤوليَّة الوالدين عن أُسرتهما، وأرى - وإن كان الناس يعتقدون أنها من أقلِّ المسؤوليات - أنها من أهمِّ المسؤوليات، خصوصًا إذا نظرَنا إليها بعينٍ ثاقبة، من حيث إنها لَبِنة من اللبنات التي يَنبني منها المجتمع المسلم.
ويتعيَّن على الوالدين أن يُقوِّما اعوجاجَ أُسرتهما، مع تربية صالحة وتوجيهات حكيمة لِما هو صلاح لهم في دنياهم وأخراهم، ويرضاه الله، وإلاَّ سيكونان يوم القيامة من الذين قال الله في شأنهم: ﴿ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الزمر: 15]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6].
وفي الحديث: ((كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته: الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والرجل راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعية ومسؤولة عن رعيَّة بيت زوجها))، أو كما قال.
ثانيًا: تَرْك الحُكم بكتاب الله، وقد أمرَنا الله بالحكم بكتابه، وجعَل ذلك توحيدًا وعبادة، وتَرْك ذلك والاستبدال بغيره شِرْك وخروج عن المِلَّة.
فكيف بِمَن اتَّخذوا مُشَرِّعين من عند أنفسهم، مُحادَّةً لله، ووضعوا كتبًا بذلك، وشيوخ قبائل تحكم الناس بآرائهم، ومبادئ مستوردة من دول الكفر، يستبدلون كتاب الله العظيم بها؛ قال تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21]، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه: ((وما لَم تَحكم أئمَّتهم بكتاب الله، إلا جعَل الله بأسهم بينهم))؛ وذلك لأن الأمن والسلامة لا يأتي إلا بالتوحيد، فحيث لا توحيد لا سلامة ولا أمْن؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].
فالحكم بكتاب الله والتوحيد بصفة عامَّة، أمانٌ من الاقتتال، ولئلا يَهْلك الناس بعضهم ببعضٍ؛ كما في الحديث، وعدم وقوع الاقتتال والفتن بين المسلمين، أمان من مهاجمة الكفار المسلمين في عُقر ديارهم؛ كما في حديث آخر في كتاب "فَتْح المجيد"، فهل من مُعتبر؟!
ثالثًا: تَرْك الجهاد في سبيل الله، وعدم طلب المستقبل الحقيقي من الدين الخالص، واللَّهث وراء الدنيا والمادة، أو ما يسمُّونه: "لُقمة العيش" والتشاغل بها، مع طَلَبِ مستقبل خيالي لا حقيقة له؛ حتى صار أكثر الناس - والله المستعان - كأنهم يعبدون المادة، بل إنَّك تجد أحدهم يبذل جلَّ وقته في تعلُّم المادة والتشاغل بها، ويأخذ بها الشهادات العالية والخبرات الطويلة، ولو سُئِل عن أركان الإسلام وأركان الإيمان، فلا يكاد يُجيب، وقد يموت على ذلك الحال، ويدخل النار بالكفر والعياذ بالله؛ بسبب إعراضه وعدم مُبالاته بدينه!
وقد أوْجَب الله علينا تعلُّمَ الدين والعملَ به، وفي الحديث: ((طلبُ العلم فريضة على كلِّ مسلم))، فقد جعَل الله - سبحانه وتعالى - السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة في تعلُّم العلم والعمل به، أمَّا عِلْم بلا عملٍ، وعمل بلا علمٍ، فهو خسارة وهلاك في الدنيا والآخرة، إن عاجلاً، أو آجلاً؛ كما قال تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 6 - 7].
فهؤلاء هم الذين تعلَّموا العلم، وعَمِلوا به من هذه الأمة؛ ولذلك ثَبَت في صحيح البخاري: ((إنَّ أتقاكم وأعْلَمكم بالله أنا))، فخشية الله - سبحانه وتعالى - هي التي تحمل المرء على تطبيق ما تعلَّمه: سرًّا وعَلَنًا، كما هي عبادة تَستلزم إصلاح الظاهر والباطن معًا، وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
فالعالِم الذي لا يعمل بعلمه، ليس بعالِمٍ، وإنما هو جاهل ما دام لا يخشى ربَّه بنصِّ الآية، وقال تعالى: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7].
وهم أصحاب العلوم بلا عملٍ كاليهود، وأصحاب عمل بلا علمٍ كالنصارى، وقد فُسِّرت الآية: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ﴾ باليهود الذين لا يعملون بعِلْمهم، ﴿ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ بالنصارى الذين يعبدون الله على جهالة.
وقال سفيان الثوري - رحمه الله -: "مَن فسَد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود، ومَن فسَد من عُبَّادنا، ففيه شبه من النصارى".
ومن الأحاديث الذي حذَّرت من عبادة الدنيا ومَلَذَّاتها وعدم الافتتان بها - خصوصًا في هذا الزمان الذي انبهَر الناس فيه بالتسهيلات والاختراعات العصرية والتكنولوجيا - ما يلي: ((تَعِس عبد الدرهم، تَعِس عبد الدينار، تَعِس عبد الخميصة، وإذا شِيكَ فلا انتقَش، تَعِس وانتَكس، طوبى لعبد آخذ بعِنان فرسه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في السَّاقة، كان في السَّاقة، وإن استأذَن، لَم يُؤْذن))، أو كما قال.
نعم، تحدَّث الحديث أن الناس المنتسبين إلى الإسلام في كلِّ عصر، منقسمون إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما:
• قِسم جعَلوا جلَّ هَمِّهم وغَمِّهم في حصول المادة والمال، ومَلَذَّات الدنيا: من نساء وبنين، وبساتين وسيارات، وعمارات وغير ذلك، إن أُعطوا رَضُوا، وإن لَم يُعْطَوا، سَخِطوا، وهم الذين دعا عليهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا الحديث وغيره، وهم كالذين قال الله في شأنهم: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 200]، وكالذين قال الله في شأنهم: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14].
• أما القسم الثاني، فَجَعلوا جلَّ هَمِّهم وغَمِّهم مَرضاة ربِّ العالمين وإرضاءَه، وأن يغفرَ الله لهم ذنوبهم، ويعفو عنهم، مع عدم زُهدهم في الدنيا زُهْدَ المُرائين، بل تَغَلْغَل الزهد في قلوبهم وشرايينهم وأَوْرِدتهم؛ حتى صار المال في أيديهم كالعارية المضمونة، ولا نصيبَ له من قلوبهم، مخلصين لله وحْده صابرين، لا تكاد تَفتنهم دنيا، ولو بلَغت ما بلغَت، وهم كالذين قال الله في شأنهم: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، وكالذين قال الله في شأنهم: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17- 18]، وقال تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 16 - 17].
وهم الذين وعَدهم الله بشجرة في الجنة في الحديث السابق؛ لقيامهم بفريضة الجهاد بإخلاصٍ، مع عدم رِياءٍ أو سُمعة، فمن صفات هذا العبد الجليل: إذا استأْذَن لَم يُؤْذَن له، ولا يُبالَى به، وإن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في مؤخِّرة الجيش، كان فيها، لا يَستشرف لسلطة صغيرة ولا كبيرة، فهو لا يهمُّه إلاَّ الإخلاص، وأن يُرضي ربَّه، وفي الحديث الذي رواه سعد بن أبي وقاص: ((إنَّ الله يحبُّ العبد الغني الخفي التقي))، والحديث له قصة ليس هذا محلَّ بَسْطها.
ومن الأحاديث أيضًا: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلاَّ ذِكر الله، وما والاه، أو عالِم أو متعلِّم)).
رابعًا: عدم معرفة الناس مَن يتَّخذونهم أولياءَ:
وهذه من أعظم الطامَّات التي أُصيبت بها الأمة الإسلامية، وابْتُلِيَت بها، وقد قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73].
وهذه الآية والتي قبلها دليلٌ على أنَّ المؤمنين ولايتُهم فيما بينهم خاصَّة، والكفار ولايتُهم فيما بينهم خاصة، ثم جاء التحذير وهو التخليط بين الولايات؛ حيث يرحِّب المسلم بالمنافق والمرتد، وحامل لواء الطاغوت والكفار، كما يرحِّب بالمسلم الملتزم الداعي إلى الكتاب والسُّنة، فعند ذلك تكون في الأرض فتنة وفساد كبير؛ كما هو حاصل في عصرنا الحديث.
وقد نصَّ العلماء - خاصة شيخ الإسلام ابن تيميَّة في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أهل الجحيم" - على أنَّ مَن ليس له وَلاء للمسلمين، ولا براءة من الكفار، فهو مُرتد.
بل كلمة التوحيد التي هي أصل الإيمان لا تَصِحُّ إلاَّ بذلك؛ لأنها شِقَّان: شِق للنفي عن كلِّ المعبودات الباطلة، وشِق للإثبات للمعبود الحقِّ، وهو الله - جلَّ جلاله - كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].
خامسًا: عدم معرفة الناس مَن يتَّخذونهم أئمَّة وقادة:
كثير ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم - للأسف الشديد - لا يُحسنون اختيار الإمام العادل الذي يقودهم بالكتاب والسُّنة؛ ولذلك يدورون في حلقة مُفرغة.
ولا جَرَم أنَّ هذا المرض جاء من عدم معرفة الناس مَن يتخذونهم أولياءَ، ومن يستحق منهم المنابذة والمُخالعة من الأعداء، واعْلَم أنَّ هذا الأمر جد خطيرٌ؛ إذ هو يَمَسُّ مصير المسلم في يوم القيامة؛ حيث يُحشر المرء أعمى مع مَن اتَّخذه إمامًا؛ لفَقْد بصيرته في دنياه، بل ولا يأخذ كتابه بيمينه كما في الآية، بل ولو عبَد ربَّه في دنياه بأحسن العبادات؛ لنَقْضه كلمة التوحيد، وقد أشرنا إلى معناها آنفًا، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [الإسراء: 71].
وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ﴾ [الأحزاب: 67].
وهذه الآيات من سورة الأحزاب، تحدِّثنا أنهم سوف يندمون أشدَّ الندم؛ حيث لا ينفعهم ندمٌ كما ترى، والأشد من ذلك أنَّ الله - سبحانه - لا يَعْذِرهم بأعذارهم الواهية؛ لتَعامِيهم عن الحق البيِّن الواضح وضوح الشمس في رابعة النهار.
والله هو الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل، ونعوذ بالله من مُضلات الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن؛ إنه هو المولى والقادر على ذلك.