الدعاة وإرث الطواغيت
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الدعاة وإرث الطواغيت♦ إحياء جَذْوة التديُّن هو ديدَنُ الدُّعاة، وشغلهم الشَّاغل، ونَشاطهم عَصِيٌّ على تَحكُّم الزَّمان والمكان، أمَّا لو حَظِي الدُّعاة بجمعٍ مِن المسلمين، فستَنْطق ألسنتهم بما في قُلوبِهم الحرَّى.
في أحد المراكز الإسلاميَّة في الغرب، أُقيم حفلٌ لاستِقْبال الحجيج، وبينما كان الحُضور يتنازعون كؤوس ماء زمزم، ويتذوَّقون عجوة المدينة - على ساكنها أفضل الصَّلاة والسلام - سار الحفل على ما أُعِدَّ له سَلفًا، حتَّى جاءت كلمةُ كبير الدُّعاة في المركز، وكان من ضِمْن وَفْد الحُجَّاج.
فحَمِدَ الله، وصلَّى على نبيِّه، مِن ثَمَّ انقضَتْ برهةٌ من الوقت لَم يَنبِسْ ببِنْت شفة، وجُلُّ ما فعَلَه التفَرُّس في وجوه الحضور، حتَّى خُيِّل للقوم أنَّ الرجل أُرْتِج عليه، وقال: ماذا تنتظرون من الحديث؟ هل هو انطِباعات شعوريَّة؟ أم خواطر إيمانيَّة؟ ثم سكت مرَّة أخرى.
وزفرَ زفرةً كادت أن تُحرِّك اللاَّقط الصوتي الذي أمامه، وقال:
♦ إخواني وأخَواتي، المسلمون اليوم يَعِيشون مَخاضًا لَم يحصل منذ عقود، أمَّتُنا - في أكثرَ مِن بُقْعة - كسرَتْ ربقة الظُّلم، ولأوَّل مرَّة مِن عشرات السِّنين تتنفَّس هواءً نقيًّا غير ملوَّث بشوائب القهر والجبَروت.
أخوكم الواقف أمامكم كان كلُّ هَمِّه في الحجِّ لقاءَ إخوانه مِمَّن أنعمَ الله عليهم، أتلمَّس آثار رحمة الله وفضله، حوارات وجلسات، تناقَشْنا حول برامِجَ ومشاريع، وخلصْتُ إلى أنَّهم بين متحمِّس لِبَرامجه الانتخابيَّة، مستعجِلٍ لسيف السُّلطان، وبين متمهِّل يرى التدرُّج، وقلَّةٍ لا تزال سَكْرى بنشوة النَّصر.
وبما أنَّنا - نحن الدُّعاة - جسدٌ واحد في خدمة الإسلام؛ علينا تلمُّس واجبنا، ولذلك أدعوكم، وعلى الأخصِّ لجنة الدعوة، للإعداد لمؤتمرٍ عن واجب الوقت تجاه الأمَّة الآن؛ حتَّى نكون لهم رِدْءًا وعونًا، شكرَ الله سعيكم.
بعد أسبوعٍ من العمل الجادِّ، اجتمعَتْ لجنة الدَّعوة لِتَبويب الآراء، وتقييم الاقتراحات، وكان معظمُها من كنانة خِبْرة المخضرَمين منهم، وقلَّةٍ من زوادة حماسة الشَّباب، وخلصت إلى نَدْوة في قاعة الاجتماعات، يؤمُّها المهتَمُّون بالموضوع، وتبثُّ عبر قناة التَّواصل والمُحادَثة عبر النت، لمن لا يستطيع الحضور، واختارت داعية مربِّيًا سبق له العملُ في أكثرَ مِن ساحةٍ في بُلدان متَعدِّدة.
في ليلة الموعد جلسَ الشيخ يُجاوره عريف الجلسة، وافتُتحَت الندوة بتلاوة آياتٍ من الذِّكْر الحكيم، وارتَجل مقدِّمُ الحفل الكلمة التالية:
أُذِنَ للَّذين يَعْملون أن يرَوْا نتائج عمَلِهم بُشْرى عاجلة، وأُذِن لِلَيلِ البغي والظُّلم أن ينجلي بِصُبح، وكشف القدر أن نمور القهر والاستبداد ورقيَّة الصنع.
لكنَّنا - نحن الدُّعاةَ - مفهومنا للحياة عامَّةً أنَّها ساحةُ اختبار؛ ما دام فينا عِرْق ينبض، ولا نَرتضي أجرًا أقلَّ مِن سلعة الله، ونحن على يقين أنَّها ليست هنا في دار العمل، وإنَّما هناك في دار الجزاء، وكما أنَّه لَم تثننا الإحباطات في سابق أيَّامنا، لعَمْر الله لن تُسْكرنا الانتصارات الآن، ففي كِلْتا الحالتين نريد الأجر، ولا أجرَ بلا عمَل، فما عَمَلُنا في الحقبة القادمة؟ هذا ما نُحاول الاستِئْناس به من توجيهات شيخنا الفاضل، ومداخلاتِكم الكريمة، وحتَّى لا أطيل؛ أدَعكم والشَّيخ وجهًا لوجه.
بعد الحمد لله، والصَّلاة على النبِي صلَّى الله عليه وسلَّم والتَّرحيب بالحاضرين، والمشاهِدين عبر النت؛ قال الشيخ:
يَقتضي الطَّرحُ العِلمي أن نبدأ مِن العُنوان كلمةً كلمة، بَيد أنَّ كلمة "دُعاة" لو وقفتُ عند تعريفاتِها هنا، لكنتُ كمَنْ يبيع الماء في حارة السقَّاء، أو السقَّائِين كما يُقال، أمَّا كلمة إِرْث فلا إخالها هنا إلاَّ من كلمات الأضداد، فالإرثُ هو أشياء لها قيمة، وما ترَكَه الطواغيت لأمَّتِهم مصائِبُ وكَوارِث على كافَّة الأصعِدة، ومُناقشاتنا عن سبُل العمل الدَّعوي القادمة هي مُعالجة هذا الإرث العَفِن؛ لذلك دَعُوني أبدأ من نِهاية العنوان، من "الطَّاغوت"، فهي كلمة عجيبةٌ في اللُّغة العربية، تدلُّ على المُذكَّر والمؤنَّث، والمُفرَد والجمع، فهي داهيةٌ أيًّا كان مدلولُها، ويلفت نظرَنا قولُ العلاَّمة ابن عاشور في "تحريره وتنويره"؛ م 2 ص 28:
"ويَجْمعون الطَّاغوت على طواغيت، ولا أحسبه إلاَّ مِن مصطلحات القرآن..."؛ كلمة طاغوت، ويُضيف الإمام القرطبي بُعْدًا آخَر لصورة الطَّاغوت بقوله في ج 5/ 6، ص 218:
"الطَّاغوت...
وقيل: هو كلُّ معبودٍ من دون الله، أو مُطاع في معصية الله...".
ويقول الشيخ سعيد حوَّى في "الأساس في التفسير" ج 1، ص 300: "بِقَدْر ما يكون الكفر بالطاغوت قويًّا، يكون الإيمان بالله قويًّا"، وقبل كلامه هذا ببضعة أسطر قال: "والكفر بالطَّاغوت رَفْضه، واحتقاره، وازدراؤه، وعدم طاعته...".
إرث الطَّاغوت هذا ثالثة الأثافي، كما يُقال، أو مُثلَّث الهلاك لأيِّ إنسان، وضِلْعاه الآخَران، هما النَّفْس والشيطان، أَنْجِس به من مثلَّث! والنفس والشيطان غوايتهما لا تَرْقيان لمثل مستوى طاغوتٍ واحد؛ لأنَّ أي جهدٍ يُبذَل يفي بِبَعثرة جهودهما، أمَّا دور الطاغوت، فإنَّه يُضْفي قوَّة، لا يَسْلم منها إلاَّ أولو العزم من المؤمنين.
عُقودٌ فُرِض فيها على الأمَّة بِأَسْرها فُجور وفِسْق، تمثّل بالكمِّ والكيف، فثمَّة فُجور اجتماعي، وآخَر اقتصادي، وثالث سياسي...
إلخ، من خلال نوافذ الإعلام، والفنِّ، وتعاطي الرِّبا، والشارع...
بتقنين لقوانين، لا تسمح له فحَسْب، بل رفعَتْ مقترفَ كلِّ ذلك إلى مرتبة نُجوم المُجتمَع، فحيل بين العباد وطُهْر التديُّن، إلاَّ ما رَحِم ربِّي، وفي المقابل ضُيِّق على دعاة الحَنيفيَّة، لِمُستوى السجن والقتل والنَّفي، وتحوَّلَت جُلُّ مجتمعات المسلِمين من مُجتمعاتٍ متديِّنة، إلى نُسَخ مشوَّهة ومَمْسوخة لِمُجتمعات ما عرفَتْ نور الإسلام، وتتخبَّط خبطَ عشواء في أعراف وتقاليد، تخلط بين التمدُّن والعلم، وانحلال الغرائز، هذا باختصارٍ إرثُ أمَّتِنا من طواغيت، حاربوا التدَيُّن فيها، فلا هُمْ أوصَلوها لِمَصافِّ التمدُّن، ولا هم ترَكوا لها دينها.
وفِقْه الدعوة هو فقه الأجيال، والذي يقوم على تحقيق المناط، كما في عُرْف الأصوليِّين، ولا يتمُّ ذلك إلا بناءً على معرفة واقع النَّاس وأحوالهم، ونريد أن نؤسِّس لواجب فقه الوقت، وهي ضوابط تحدَّث عنها علماؤنا من قَبْل، وفصَّل فيها العلاَّمة ابنُ القَيِّم في "مدارج السالكين"، أذكر أهَمَّها في نِقاط:
♦ نريد داعية واعيًا بِعَصره، يقظاً لِما يستجدُّ مِن معرفة، ونَرْغب في داعيةٍ تَمكَّن مِن مَقاصد الشَّريعة، ويميز بين المتعلِّق بالفرد، وما له أثَر على الجماعة، وما يَمسُّ الأمَّة، ويبحث في تراثنا الفقهيِّ الثر، عن أكثرَ مِن قول، ويَخْتار أقربَها لتحقيق المصلحة، ويعلم أنَّ الزمن مِعْيارٌ لترجيح المَصالح.
ولْيَكن شِعارُنا في المرحلة القادمة: أنَّ الناس على دين دُعاتِهم، وينبغي للدُّعاة على الأخصِّ، أن يكون مِن بينهم مَن هو مَرْجعٌ لإخوانه، وأن تكون له درايةٌ بعِلم الأصول، وأضرب هنا مثلاً؛ فالاستِصْلاح والاستحسان من المَصادر المختلَف في حُجِّيتها أو أوَّليتِها قديمًا، لكنَّها اليوم ضرورةٌ في واقعنا المعقَّد؛ لأنَّه يَضْبط على الأقل مقاصِدَ الحاجيات للإنسان، وكذا المصلحة المرسَلة تتَعامل مع حِفْظ الضروريِّ، ورَفْع الحرَج.
ويقول العلاَّمة ابنُ عاشور في "مقاصد الشريعة" ص102: "إنَّ للتشريع مَقامَيْن:
1 - المقام الأوَّل: تغيُّر الأحوال الفاسدة وإعلان فَسادها.
2 - المقام الثاني: تقرير أحوالٍ صالحة".
وأرجو أن يُفهَم كلام ابن عاشور في النُّقطة الثانية بتقديم الكتاب والسُّنة أولاً.
وحتَّى لا تتحوَّل الأمسية للمدارسة الأصوليَّة؛ أقول باخْتِصار: إنَّ مُخاطَبة الناس على حسَب استطاعتِهم سُنَّة نبويَّة، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ الحديث الوارِد في "مُسند الإمام أحمد" عن قُبْلة الرَّجلِ زوجَه وهو صائم، الذي رواه عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - وأجمع عُلماؤنا على أنَّ الاستطاعة مناطُ التَّكليف، ثم ترك الشيخُ المَجال للمُداخلات.
أشار عريف الحفل إلى أحد الإخوة، فسأل:
سَمِعْنا وقرَأْنا في بعض برامج مَن يُحسَبون على الدُّعاة تعطيل بعض الحدود؛ بِحُجَّة تأهيل المُجتمَع؛ لِيُصبِح أهلاً لتطبيق الشَّرع؟
أجاب الشيخ: هؤلاء - أصلحَهم الله صلاحًا لا فسادَ بعده - يقَعون في مُغالطات، وبعضهم يتكلَّم عن العهد المكِّي والمدني، كأنَّ المسلمين في العهد المكِّي لَم يَكونوا مطبِّقين لأحكام الإسلام، وهذا سوء فهم؛ فالأَحْكام في كُلِّيتها ثابتة؛ لأنَّ الشريعة تَمَّت، والشرع الحنيف لَم يَفْرض على النَّاس قوالِبَ مُحدَّدة، وإلاَّ لَما كان الفِقْه الذي هو بأبسط تعاريفه: "العلم بالأحكام الشرعية العمَلِيَّة من أدلَّتِها التفصيليَّة"؛ فالحكم والفتوى لها ضوابط تتمَحْور حول استطاعة المكلَّف، ثم هل من المعقول سَنُّ قوانين والدعوةُ إليها، وهي لا تَمتُّ للشرع بصِلَة؛ بِحُجَّة تأهيل المُجتمع؟
قال عريف الحفل سؤال عبر النت: ما التدَرُّج الشرعي؟
قال الشيخ:
يقول محمد حبيب التجكاني في كتابه "نظام التبَرُّعات في الشريعة الإسلاميَّة" ص 72:
"فإذا تأمَّلْنا منهج القرآن بالرُّوح المُجرَّدة، بدا لنا أنَّ التدرُّج منهجٌ تشريعي تربوي أصيل للقرآن، اتَّبعَ مُعالجة الأمراض الاقتصاديَّة والاجتماعية الكبرى"، وتجلَّى واضحًا في أمرين الخَمْر والرِّبا، وقلنا منذ لحظات: إنَّ الاستطاعةَ مناط التَّكليف، فحَيْثما تحقَّقت الاستطاعة، حصلَ الحُكم الشَّرعي في هذه المسألة؛ لذلك كانت الرُّخصة والعزيمة، وحصول الشُّروط وانتِفاء الموانع.
سؤال مكتوب: ما دَوْر الدُّعاة في البلدان الَّتي حُرِّرت من ظُلْم الطواغيت، والدُّعاة الَّذين يتمتَّعون بالحرية؟
الشيخ:
اعتِماد أسلوب الدَّعوة الفردية منهجًا يوميًّا لكلِّ داعية، فكما أسلَفْنا، ورثنا فسادًا عامًّا طامًّا، ولْيَكن لكلِّ داعيةٍ برنامَجُه الدَّعوي الشخصيُّ - إنْ صحَّ التعبير - لِمَن حوله، مع دوره بالدَّعوة الجماعيَّة المنظَّمة، ولْنَرفع شعار: النَّاس على دين دُعاتهم.
كان الوقت سيفًا قَطَّع اللَّحظات إربًا إربًا، والجَمْع - بما دخل عليهم من مُتْعة كلام الشيخ وطَرْحه - ذاهلون، إلاَّ عريف الحفل المؤتَمن على أوقات الحضور، الذي همسَ في أذُن الشيخ؛ ليختم بالدُّعاء، وقال: تجاوَزْنا المقدَّر بحوالي نصف ساعة.