المحرقة عندما تصبح سخرية!
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
بعد ساعاتٍ من الاتفاق الإجرامي بين كيري ولافروف سأل المذيع بقناة الجزيرة مراسلتهم في مدينة حلب عن ردود أفعال الناس هناك على الاتفاق فقالت: "لا مبالاة مطلقة فالسوريون هنا عندما نسألهم يقولون: إنها مهلة جديدة كالعادة للجزار بشار الأسد ولو أن العالَم كان يود الوقوف معنا وليس مع القاتل لوقف منذ سنتين على الأقل".
أما مراسل القناة في الغوطة الشرقية فنقل عن السوريين سخريتهم بحكاية الضربة المزعومة من أصلها، وأن ما يهم أمريكا في الموضوع كله هو حماية الكيان الصهيوني.
لقد عودتنا السياسة الخارجية للقوى المسيطرة عالمياً؛ على أنها إزاء كل قضية حساسة تُقدّم نسختين منها إحداها للرأي العام والأخرى على الأرض وفي دهاليز الأجهزة الخفية.
فهي لا تستطيع الكذب على شعوبها خشية الحساب الانتخابي القاسي، لكنها تواصل ازدراء الشعوب والأمم الأخرى ولا ترى ضيراً في خداعها.
النسخة التجميلية من اتفاق كيري ولافروف؛ تنطلق من أن أوباما أراد تأديب بشار الأسد، فسارعت روسيا إلى إنقاذ صبيِّها طاغية الشام ، بتقديم "مبادرة" دبلوماسية تقوم على تسليمه ترسانته الكيميائية، التي كانت ذريعة التأديب الموعود/الموهوم.
فاستجاب الأمريكيون بعد قليل من التمنُّع المألوف.
أما القراءة الموضوعية المحايدة في قضية لا تقبل الحياد بسبب ثقلها الأخلاقي؛ فتبدأ من تسجيل أن هذه هي أول جريمة في التاريخ ينحصر الاهتمام فيها بسلاح الجريمة مع تجاهل المجرم، بل إن الاتفاق لا يقل عن اعتراف أمريكي بشرعية مجرم سبق لأوباما أن نزعها عنه -بالكلام- منذ نحو 30 شهراً!
إذا خدّرنا عقولنا وصدَّقنا الطُّعْم التضليلي والحكاية البسيطة التي حرص اللاعبون على تقديمها؛ فلن نستطيع كف العقل عن السؤال: ما دام بشار هلعاً والروس يسعون إلى حمايته من بطش صواريخ كروز وتوماهوك، فلماذا لم يحصل الأمريكان على ممرات آمنة لإنقاذ صورتهم السوداء، أو منع نيرون الشام من استخدام طيرانه وصواريخه في قتل شعبه؟
لكن تلك الافتراضات النبيلة تتناقض مع رؤية أمريكا الإجرامية وقوامها: أنه لا بأس في قتل السوريين بكل سلاحٍ ممكن من طيران وصواريخ ودبابات ومدافع، فالممنوع هو الكيميائي لأنه تهديد متوقع مستقبلاً للكيان اليهودي فحسب.
إن القاسم المشترك بين موسكو وواشنطن هو العنصر الصهيوني وهذا حتى في العصر السوفييتي يوم كان لروسيا سياسةً مستقلةً حقاً -فالطاغية الهالك ستالين كان قبل زهاء ستين سنة ينافس الأمريكان في رعاية "إسرائيل"-.
والروس يُمثِّلون دوراً فصله البيت الأبيض تلبية لرغبات اليهود ، ولو كان أوباما جاداً في ضربته المزعومة، لانكفأ الروس وتأدبوا، وهو ما أعلنوه حينها بلا حياء: لن نفعل شيئاً!
ومن المعلوم للخبراء في نفسية الإنجلوسكسون عدم اكتراثهم بكلام "الخصم": بشار وروسيا المهم عندهم ما ينفذ فظهور بوتين بأنه خصم عنيد يملي سياسته لا يعني كثيراً للعم سام ما دام الكرملين ينفذ أدواره بكفاءة!
إن كل ما أراده أوباما المضي في الفرجة على ذبح السوريين ولذلك وجد في كاميرون بعض ضالته عندما أرانا مسرحية رفض مجلس العموم لأي تدخل بريطاني لتأديب بشار، فذهب أوباما إلى الكونجرس بلا سبب غير تمييع القضية وتبريدها، واختلاق العراقيل أمامها.
ثم توجه إلى الروس وأملى عليهم أن يخرجوا بمبادرة تكمل إنقاذه من القرار الاضطراري؛ فجاءت مهزلة تسليم نيرون الشام أسلحته "الإستراتيجية"، فهو خادمٌ مطيع سبق لأبيه تسليم الجولان، وسبق له نفسه تسليم الإسكندرونة لتركيا في فترة شهر العسل مع أردوجان، وسلّم قيادة عصاباته لملالي قم، وسياسته الخارجية لبوتين، فما الذي يمنعه من تسليم كل شيء يُبقيه على كرسيه الغارق بدماء السوريين؟
وها هو جون كيري يطير إلى نتنياهو ليُطلِعه على تفاصيل الاتفاق، الذي يُخلِّص السوريين من سلاح دفعوا فيه مليارات الدولارات من قوت يومهم، فإذا بالطاغية يُلقيه عليهم أو يُسلِّمه إلى عدوهم!
لقد كان هاجس الصهاينة والأمريكان مؤخراً؛ القلق من وقوع السلاح الكيميائي في أيدي الثوار، الذين لن يتطوعوا بالتخلي عنه تحت أي ضغط.
وها هم يحصلون على مرادهم من عميلهم بشار ابن عميلهم حافظ المقبور، بكل سلاسة ومن دون إطلاق صاروخ واحد على قواعد عدوانه.