أرشيف المقالات

الآثار الاجتماعية للعقوبات الحسية

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
الآثار الاجتماعية للعقوبات الحسية

1- الأمن والاستقرار:
فلقد شرع الله سبحانه وتعالى الحدود لحكم عظيمة ومنافع كثيرة، يترتب عليها آثار كثيرة ينعم بها المجتمع الإنساني، حيث يعم فيه الأمن والاستقرار والراحة والاطمئنان، فيعيش المرء أمنا في بيته، مرتاح الضمير، روحه مصونة فلا تزهق، ودمه محقون فلا يراق، ونسبه لا يعتدى عليه، وعرضه سليم فلا يقذف، وأمواله محفوظة فلا تصل إليها يد المجرم ولا تمتد إليه يد السارق، وعقله باق على جبلته التي ميزه الله بها، فلا يزيل نعمة الله عليه بالسكر، ودينه ثابت مستقيم لا تلعب به الأهواء ولا تزعزعه العواطف فتجده مذبذباً متردداً يسير على غير هدى.
ولا ريب أنه إذا صينت المجتمع من الرذائل، وحفظت مسالكه من الانحراف، ونشئ أفراده على الفضيلة والاستقامة تحقق له الأمن والاستقرار.
 
إن الحدود في الإسلام شرعت لتأمين حياة الناس، فقد قال تعالى في القصاص: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ ﴾ [1]، إذ تهيئ هذه العقوبة لأفراد المجتمع حياة آمنة، لأنه إذا علم المجرم «أنه يقتل قصاصاً إذا قتل آخر كف عن القتل، وانزجر عن التسرع إليه، والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية جميعها[2]، وكذلك الأمر في الجرائم الأخرى فإنه إذا علم أنه إذا انتهك عرضاً عوقب عليه بما يزجره، فإنه يمتنع عن ذلك، مما يحقق انكفافاً عن الجريمة، وبعداً عن الفساد.
 
2.
إبعاد المجتمع من الرذيلة والفساد:
إن من أهم آثار من وضع العقوبة هي محاربة الجريمة وإبعاد المجتمع من الرذائل ومنع وقوعها أو تقليلها، فإن الإسلام قد بلغ في هذه الغاية مبلغا لم يصل إليه تشريع قبله أو بعده، وذلك أنه حارب الجريمة قبل وقوعها ثم قضى عليها بعد وقوعها قضاء يذهب أثرها ويقلل مضارها وقد سلك في ذلك طرقًا كثيرة، حيث أحاط الفرد منذ نشأته بالمواعظ التي تؤثر في القلوب وتملؤها بتقوى الله تعالى والرغبة في مرضاته طمعاً فيما عنده من الثواب العظيم ثم شفع هذه الموعظة بالوعيد من ارتكاب المآثم ليملأ القلوب مخافة ورهبة من سخط الله والتعرض لعذابه في الآخرة، وهذه هي الخطوة المهمة في الدفاع ضد الجرائم حيث يقل وقوعها ممن امتلأ قلبه بالإيمان بالله والخوف من عقابه[3].
 
كما يسهم الجزاء في الإسلام إسهاماً بالغاً في حماية الفضيلة وتمكينها في المجتمع، باتخاذ خطوات مختلفة كالترغيب في امتثال الأخلاق الحسنة، والتحلي بها ذاتياً، والتعامل مع الآخرين، مع الوعد بالثواب الجزيل الذي تتعلق به آمال المؤمنين، مما يستلزم إعراضهم عن الرذيلة.
وكالمعاقبة على كل ما يمس الفضيلة، كالاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال بعقوبة القصاص والحدود أم جرائم محدودة الضرر بعقوبة التعزير، والمقصد من كل هذا كله حماية المجتمع ومنابذة الرذيلة إلى أن تختفي من المجتمع، ومحاربة الفساد إلى أن يضمحل.
 
وهدف الشريعة الإسلامية من فرض العقوبة هو إصلاح النفوس وتهذيبها والعمل على سعادة الجماعة البشرية؛ ذلك لأن للإسلام في العقاب رأياً ينفرد به.
 
من أجل ذلك وضع الله الحدود وضعا شرعياً كافلاً لراحة البشر في كل زمان ومكان؛ حتى يكون الناس في مأمن وتمتنع الجرائم التي ترتكب، فكل فعل سيء يحدث في الأرض لا يمكن إصلاحه إلا بالعقوبة.
 
ويقول شاه ولي الله الدهلوي [4] في كتابه حجة الله البالغة: «اعلم أن من المعاصي ما شرع الله فيه الحد وذلك كل معصية جمعت وجوها من المفسدة، بأن كانت فسادا في الأرض واقتضابا على طمأنينة المسلمين، وكانت لها داعية في نفوس بني آدم لا تزال تهيج فيها، ولا ضراوة لا يستطيع الإقلاع منها بعد أن أشربت قلوبهم بها وكان فيه ضرر لا يستطيع المظلوم دفعه عن نفسه في كثير من الأحيان، وكان كثير الوقوع فيما بين الناس، فمثل هذه المعاصي لا يكفي فيها الترهيب بعذاب الآخرة، بل لابد من إقامة ملامة شديدة عليها وإيلام يكون بين أعينهم ذلك فيردعهم عما يريدونه، ثم مثل ببعض المعاصي، إلى أن قال: وكالسرقة؛ فإن الإنسان كثيرا ما لا يجد كسبا صالحا فينحدر إلى السرقة[5].
 
3.
معالجة الأمراض:
إن الحكمة من العقوبة بصفة عامة هي معالجة الأمراض الاجتماعية.
وإيقاع العقوبات على بعض الأفراد يعتبر علاجاً للمجتمع، لذلك تعتبر العقوبة من الأمور الضرورية للمجتمعات، ولا يمكن أن يعيش مجتمع دون أن تفرض فيه عقوبة، فكما أن الجريمة جزء من المجتمع ملازمة له ولا يتصور وجود مجتمع بدون جريمة، فكذلك لا يتصور وجود مجتمع بدون عقوبة، فالعقوبة تعتبر رد فعل للجريمة.
والشريعة الإسلامية فإنها في عقوباتها متوسطة لا إفراط ولا تفريط خاصة عندما تطبق بأمانة وعدالة، فإنها تؤثر تأثيرا بالغاً في التقليل من الإجرام والحد منه.
 
يقول العز بن عبد السلام[6] في قواعد الأحكام: «ربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح، لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد، بل لكون المصلحة هي المقصودة من شرعها كقطع يد السارق وقاطع الطريق، وقد سميت مصالح من قبيل المجاز بتسمية السبب باسم المسبب»[7].
 
فشرع الله الذي شرع لعباده، هو الذي يصلح المجتمعات، ويقضي على جذور الاعتداء، والاستخفاف بالنفوس، وإخافة الآمنين، لما فيه من جزاء رادع يقضي بتطبيقه على الشر، لأنه لا يصلح النفوس، ويردها عن ذلك إلا هذا الأسلوب قال تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [8].
 
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ ﴾ [9] وهذا هو حكم الله الذي فيه طمأنينة المجتمع، وإخافة الفاعل، والردع عن التمادي في العمل الضار، قد أنزله سبحانه على بني إسرائيل في توراتهم، فخالفوا وعاندوا، وبدلوا، فكانت النتيجة جرائم متتالية، واضطرابات في المجتمع، وسار على منوالهم النصارى فحل بهم ما لحق بسابقيهم، حسبما نلمسه اليوم في قوانينهم الوضعية.
 
واختار الله هذه الأمة لتطبيق ذلك فأمن مجتمعهم، واطمأن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم عند الامتثال، ثم دب القلق في بعض المجتمعات الإسلامية، لأن أقواماً استبدلوا بحكم الله قانوناً بشرياً، وغيروا ما أراده الله، بما أخذوا عن غيرهم تقليداً، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولا شيء يؤمن المجتمع، ويحفظ الأمة، ويقضي على أسباب الخوف، إلا بتطبيق ما ارتضاه الله في شرعه، وأكده رسوله الكريم، بحماية الأفراد، والمحافظة على الجماعات، لأن الله بعباده رؤوف رحيم.
فما من أمة ضيعت أمر الله وحدوده إلا شاع فيه الاضطرابات، وقل خيرها، وذهبت بركتها، وضاقت أرزاق أهلها، وكثرت فيها الأزمات والقلاقل.
ومصداق هذا من كتاب الله قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [10]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [11].

[1] سورة البقرة.
آية 179.


[2] فتح القدير، لإمام الشوكاني، ص: 137، ط: الأولى 1422هـ، 2001م، مكتبة الرشد، الرياض.


[3] أثر تطبيق الحدود في المجتمع، لدكتور عبد السميع إمام، ص: 303، 304، بحث مقدم لمؤتمره الفقه الإسلامي، جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض 1396هـ، أشرفت على طباعته ونشره، إدارة التفاتة والنشر بالجامعة، 1404هـ، 1984م.


[4] هوشاه ولي الله قطب الدين أحمد بن عبد الرحمن أبو عبد الله الدهلوي من أشهر المحدثين في الهند وفقهائها، أحي الله به السنة وعلم الحديث ولد سنة 114هـ وله مؤلفات كثيرة منها: الفوز الكبير في أصول التفسير، حجة الله البالغة، وغيرها، توفي سنة 1176هـ انظر: نزهة الخواطر للحسني الندوي 6/398 – 415.


[5] حجة الله البالغة، لإمام شاه ولي الله الدهلوي، بتحقيق: السيد سابق، 2/756، 757، المكتبة الأثرية، شيخوبورة، باكستان.


[6] هو عز الدين شيخ الإسلام أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن الإمام العلامة المصري الشافعي، ولد بدمشق سنة 577هـ وله مؤلفات كثيرة في الفقه والتفسير الحديث والتصوف والسيرة ومنها: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، توفي سنة 660هـ، انظر: شذرات الذهب 5/301 وطبقات المفسرين لداودي 1/308 – 323.


[7] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام، 1/14، ط: الثانية 1400ه، 1980م، دار الجيل.


[8] سورة المائدة.
آية 45.


[9] سورة البقرة، آية 178.

[10] سورة الجن.
آية 16.


[11] سورة الأعراف.
آية 96.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير