أرشيف المقالات

هل الغنى مذموم؟

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
هل الغنى مذموم؟

قد يتبادر إلى ذهن القارئ للأحاديث السابقة أن المال مذموم شرعاً وأن الغنى شرّ كله[1]، وهذا الفهم خاطئ بلا شك لأن المال لا يذم من حيث هو مال ولا يُذم الغِنى لأنه وفرة في المال.
إن المال والغنى لا يذمان وإنما يُذم فعل المرء وقد جاءت تسمية المال بالخير لكن هذا الخير مشروط بطريقة اكتسابه فلا بد أن تكون من الحلال ويكون خيراً إذا أنفقه الإنسان في سبل الخير وهو مع ذلك غني النفس - وهذا هو الغنى الحقيقي - فلا يتشوق للمال ولا تستشرف نفسه إلى ما في أيدي الناس كما في الأحاديث التالية:
• عن يسار بن عبيد قال: كنّا في مجلس فجاء النبي وعلى رأسه أثر ماء.
فقال له بعضنا: نراك اليوم طيب النفس.
فقال: (أجل والحمد لله).
ثم أفاض القوم في ذكر الغنى.
فقال: (لا بأس بالغنى لمن اتقى.
والصحة لمن اتقى خير من الغنى وطيب النفس من النعيم)
رواه أحمد و ابن ماجه والحاكم وصححه الألباني.
 
• والغنى الحقيقي هو غِنى النفس، فعن أبي ذر رضي الله عنه: قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟) قلت: نعم يا رسول الله! قال: (أفترى قلة المال هو الفقر؟) قلت: نعم يا رسول الله! قال: (إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب) رواه ابن حبان وصححه الألباني.
 
• وعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عرض له من هذا الرزق شيء من غير مسألة ولا إشراف فليتوسع به في رزقه، فإن كان غنياً فليوجهه إلى من هو أحوج إليه منه) رواه أحمد والطبراني والبيهقي وصححه الألباني.
 
• وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر: (اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى، والعليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة) متفق عليه.
 
• وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يومٍ يُصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: الله أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه.
 
• وعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق على ابنتين أو أختين أو ذواتي قرابةٍ يحتسبُ النفقة عليهما حتى يغنيهما الله من فضله أو يكفيهما، كانتا له ستراً من النار) رواه أحمد والطبراني وحسنه الألباني.
 
• وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى ما تجعلُ في فِيِّ امرأتك) متفق عليه.
 
• وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقةً وهو يحتسبها، كانت له صدقةً) متفق عليه.
 
• وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض.
قيل وما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا.
فقال رجل: هل يأتي الخير بالشرِّ؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أنه يُنزل عليه، ثم جعل يمسحُ عن جَبينه، فقال: أين السائل؟ قال: أنا.
قال أبو سعيد: لقد حمدناهُ حين طلع لذلك.
قال: (لا يأتي الخيرُ إلا بالخير.
إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطاً[2]أو يلمُ[3]، إلا آكلة الخضرة[4]، أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها[5]، استقبلت الشمس فاجترت وثلطت[6].
وبالت، ثم عادت فأكلت.
وإن هذا المال حلوة: من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو.
وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع)
متفق عليه.
 
فهذه الأحاديث وأمثالها تبين أن المال نفسه لا يذم بوصفه مالاً، والغنى لا يذم، وإنما الذم يكون لصاحب المال إذا اكتسبه من طريق محرمة، أو أنفقه في أمور منهي عنها، أما ما عدا ذلك فقد وصف بأنه خير، ولا يكون خيراً حتى يسخره الإنسان فيما يعود عليه بالخير عند ربه عز وجل.
 
وهل يمكن للدنيا أن تقوم بغير مال، وهل يتصور عاقل أن شرائع الدين من زكاة وحج وجهاد تقوم بدون وجود مال؟ عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن الله قال: إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم وادٍ لأحبَّ أن يكون له ثانٍ، ولو كان واديان لأحبَّ أن يكون لهما ثالث، ولا يملأُ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب) رواه الطبراني والضياء المقدسي وصححه الألباني.
 
يُفهم مما سبق في ذم الدنيا والتوسع فيها ومن تسمية الغنى والمال خيراً، أن الذم والمدح لا يتعلق بالمال من حيث هو مال، وإنما يتعلق بعمل صاحبه فيه مع ما وقر في صدره من تشوف للمال وهلع عليه وبخل به فيلحقه الذم، أو غنى نفس وإنفاق له في الخير وبذله لمستحقيه فيكون خيراً ويكون كما قال صلى الله عليه وسلم (من أخذه بحقه ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو).
 
فيكون نعم المعونة إذا رأى صاحبه أن لله حقاً عليه في ماله، فيخرج زكاته، ويتصدق وينفق على أهله وأقاربه، ولا يرى طريقاً فيه نفع لنفسه ولدينه إلا أنفقه فيه فيعمر المساجد ويوقف الأوقاف ويكفل اليتامى والأرامل وينصر المجاهدين بنفسه وماله...
وهكذا فهو لا يرى طريقاً لإنفاق المال ينفعه في آخرته إلا سعى إليه، وهنا يكون ماله نعم المعونة في دنياه وآخرته.
 
وأما إن كان لا يبالي من أي طريق اكتسب المال ولا في أي شهوة أنفقه فهنا يكون ماله وبالاً عليه ويتمنى يوم القيامة أنه كان أنفقه فيما يقربه من ربه فيقول متحسراً ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ﴾ [الحاقة: 28] وهذا شأن المفرط الخاسر، فيندم على جمعه للمال من حله وحرامه، ويندم على إنفاق المال فيما لا ينفعه عند ربه.
 
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن مثل النحلة، لا تأكل إلا طيباً ولا تضع إلا طيباً) رواه الطبراني وابن حبان وصححه الألباني.
 
فضرب صلى الله عليه وسلم للمؤمن مثلاً بالنحلة التي لا يدخل جوفها إلا الطيب من رحيق الأزهار ثم لا تخرج إلا عسلاً طيباً، والمؤمن مثلها طيب مدخله ومخرجه، فلا يكتسب إلا الطيب المباح، ولا ينفق إلا في الحلال الصُراح، وبهذا طاب مدخله ومخرجه ولهذا استجيب دعائه، وقد كان السلف الصالحون من الصحابة والتابعين يحرصون على ألا يكتسبوا إلا الحلال وكان أحدهم يتشدد في التحري في كسبه بما تُضرب به الأمثال في الزهد والورع ولهذا طاب عملهم وطابت حياتهم، ثم جاءت من بعدهم أجيال لا يبالي أحدهم من أين أكل وفيما أنفق فدخلوا ضمن وعيد (أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به)، فأين هؤلاء من أقوام كان أحدهم إذا خرج يبتغي الرزق لأهله نادته زوجه من عند الباب: يا فلان لا تطلب الحرام فإننا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الحلال الطيب والورع النافع وأن يجنبنا النار.



[1] راجع ما سبق نقله عن ابن رجب في ذم الدنيا.


[2] حبطاً: الحبط: انتفاخ البطن من كثرة الأكل.


[3] يلم: يقرب من الهلاك.


[4] الخضر: ضرب من الكلأ يعجب الماشية وواحدة خضرة.


[5] خاصرتاها: جانب البطن.


[6] ثلطت: ألقت ما في بطنها رقيقاً.
والمعنى أنها شبعت فثقل عليها ما أكلت تحيلت في دفعه بأن تجتر فيزداد نعومة.
أنظر فتح الباري.

شارك الخبر

المرئيات-١