النصيحة واجب ديني وضرورة اجتماعية
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
النصيحة واجب ديني وضرورة اجتماعيةلله رجال يحبون الحقَّ ويعيشون له، فإذا رأَوْا نقصًا في مقداره، أو خَدشًا لهيْبته، ثارَت حفيظتُهم، ودبَّت الغَيرة لله تعالى في نفوسهم، فبذَلوا النصيحة في مظانِّها، طالبين بها الأجْرَ من واهب النِّعم؛ لأنَّ ذلك واجبٌ ديني، وأمرٌ إلهي، وفضيلةٌ اجتماعيَّة مطلوبة ومفروضة على كلِّ مسلم ومسلمة، بالقدْر الذي يَعلمه من دينه.
وليس من المقبول شرعًا ولا عُرفًا، أن يرى المسلم محارمَ الله تُنتهك، ولا يقول كلمة حقٍّ يُقيم بها الحُجَّة على مَن يُريد أن يتدنَّى بنفسه ودينه ومجتمعه، ولا نَنسى أنَّ الله تعالى امتدَح في عباده أربعَ صفاتٍ جعَلها طوقَ نجاةٍ من الوقوع في دَرك الخُسران؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].
فقد جعَل سبحانه من خير الصفات لعباده، أنهم مؤمنون، ويعملون الصالحات، ويتواصَون بالحقِّ، ويتواصَون بالصبر.
ولأنَّ تَرْك النصيحة وعدم إسدائها خالصةً لوجه الكريم، يُوهن المجتمع ويؤدِّي به إلى الهلاك والضياع، وكذلك عدم تقبُّلها وأخْذها موضعَ قَبولٍ أخْذًا جميلاً، مع ردِّها على صاحبها ردًّا يَكشف عن صفاقة النفس وسُوء الخُلق، واستعلاءٍ يتضامَن به المنصوح العجيب مع الشيطان؛ ليُزري بنفسه، فيَهلك مع الهالكين - من أجل ذلك - كان التواصي بالخير والتناصُح بالمعروف، سمةً كبيرةً لأُمة الإسلام، لدرجة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعَل هذه السِّمة كأنها الدين كله؛ فعن تميم بن أوس الداري - رضي الله تعالى عنه - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدين النصيحة، إنالدين النصيحة، إن الدين النصيحة))، قالوا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: ((لله، وكتابه، ورسوله، وأئمَّة المؤمنين، وعامَّتهم، وأئمَّة المسلمين وعامتهم))[1].
فتأمَّل - رحمني الله وإيَّاك - منزلة النصيحة في دين الله، ثم إلى مظانِّ الأخْذ والتلقي؛ حيث جعَل النبي صلى الله عليه وسلم مواردَ الخير وروافدَه أوَّلاً من الله، ثم كتاب الله "القرآن العظيم"، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى سُنَّته وهَدْيه صلى الله عليه وسلم ثم تُؤخَذ النصيحة بعد ذلك من أئمَّة المسلمين - أعلام الهدى ومصابيح الرَّشاد - ثم من عامة المسلمين، كل بحسب عمله ومعرفته، وما يَستطيع من خلاله أن يُقوِّمَ المعوجَّ، وأن يَنشر في ربوع وطنه وأمَّته مفاهيمَ الدين الهادية، ومبادئ الحقِّ والعدل، وشِرعة الإسلام.
والإنسان منَّا لا يعيش بمفرده في هذه الحياة، ومن ثَمَّ يجب عليه إشاعة الفضيلة ومُصاحبة الأخيار، والأخْذ منهم - علمًا ومنهجًا، وقولاً وعملاً - وكذلك يجب عليه إصلاح المُنحرف وردُّه إلى طريق الله تعالى.
وأفرادُ المجتمع كلُّهم مُتساوون مثلاً بمثلٍ، فالمسؤولية جماعيَّة والمصير مشترك، وما أروعَ التشبيهَ الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث شبَّه المجتمع كلَّه بالسفينة الماخرة عُباب الماء، لا تَهدأ ولا تستكين؛ فعن النعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مثلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ اسْتَهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضُهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا اسْتَقوا من الماء، مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرَقنا في نصيبناخَرْقًا، ولَم نُؤْذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلَكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم، نجَوا، ونجوا جميعًا))[2].
"فالحياة كلها هذه السفينة، لا تكاد تَسكن لحظة؛ حتى تَضطرب من جديد، ولن يُكتب لها السلامة والاستواء فوق الموج المُضطرب؛ حتى يكون كلُّ شخصٍ فيها على حذَرٍ مما يفعل، ويَفطن لِما يريد"[3].
والمجتمع شبه السفينة تمامًا، يجب على مَن يَملِك فيه أداةً للنصح والتوجيه، أن يُحذِّر ولا يتوانى عن النصح، ما دام فيه حقُّ الحياة؛ لأنَّ الله خلَق العابثين واللاهين، كما خلَق المُجدِّين والمُخلصين، ولو تُرِك المجتمع لكلِّ باغٍ ومُستهترٍ، لضلَّ وهلَك، وإنَّما الواجب أن يأخذَ القائمون في حدود الله وهدْي عباده، على أيدي الذين يحاولون إغراقَ المجتمع في بحور الرذيلة والطيش، والهوى والخديعة، وما إلى ذلك من مُضلاَّت الأمور، لماذا؟ لأن الجميع ركَّاب سفينة واحدة، فإذا ترَك أهلُ الخير أهلَ الشر بدون تناصحٍ وإرشادٍ، هلَك الجميع، وغَرِقت السفينة، وإذا شدُّوا على أيديهم ومنَعوهم بالطُّرق المشروعة والمُقننة - بالحكمة والموعظة الحسنة - نجَا الجميع، وإذا سكتَ أفراد المجتمع عن ظالِم - لعُلوِّ مكانته وهَيْبة سَطْوته - فأنْذِر بالجميع هلاكًا؛ يؤكِّد ذلك ما رَوته أمُّ المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دخَل عليها فَزِعًا يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترَب، فُتِح اليوم من ردمِ يأجوج ومأجوج مثلُ هذا،وحلَّق بإصبعه، وبالتي تَليها))، فقالت زينب: فقلتُ: يا رسول الله، أنْهلك وفيناالصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كَثُر الخَبث))[4].
وورَد أنَّ الله - عز وجل - أوحى إلى جبريل - عليه السلام - أنِ اقْلِب مدينة كذا وكذا بأهلها، قال: فقال: يا ربِّ، إنَّ فيهم عبدك فلانًا لَم يَعصك طرْفة عينٍ، قال: فقال: اقْلِبها عليه وعليهم؛ فإنَّ وجهه لَم يتمعَّر فيَّ ساعةً قَطُّ))[5]، بمعنى أنه لَم يُبدِ أيَّ استغرابٍ لِما يراه من فساد الناس، ولَم يَبذل نصيحةً لله تعالى.
وقد أخبَرنا القرآن الكريم عن سبب اللعنة التي حاقَت ببني إسرائيل من جرَّاء عدم التناصُح بينهم؛ فعن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ أوَّل ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يَلقى الرجل، فيقول له: يا هذا، اتَّق الله وَدَعْ ما تَصنع؛ فإنه لا يَحِلُّ لك، ثم يَلقاه من الغد، فلا يَمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وشريبه وقعيدَه، فلمَّا فعَلوا ذلك، ضرَب الله قلوب بعضهم ببعضٍ، ثم قال: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ ﴾ [المائدة: 78]، إلى قوله: ﴿ فَاسِقُونَ ﴾، ثم قال: ((كلاَّ، والله لتأْمُرُنَّ بالمعروف، ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر، ولتأْخُذُنَّ على يد الظالم، ولتَأْطُرُنَّه على الحقِّ أطرًا))[6].
ولكي تكون النصيحة مثمرةً ومُغيِّرةً لحال المنصوح إلى الخير والسعادة المرجوَّة، فعلى الناصح أن يكون أمينًا في نُصحه، لا يبتغي به إلاَّ وجه الله تعالى، وأن يُسدي مَوعظته ونُصحه بالحِكمة وبالتي هي أحسن، فإن النصيحة على الملأ - كما يقولون - فضيحة، ونضَّر الله مَن قال: "أشكر مَن أهدى إليَّ عيوبي"؛ "لأنَّ طعمَ النُّصح مرٌّ، وقد يتضمَّن تكليف الإنسان بالإقلاع عن شهوةٍ من الشهوات، أو ترْك لذةٍ من اللذات، وهذا صعبٌ في العادة على النفس الأمَّارة بالسوء، إلاَّ مَن رَحِم الله"[7].
ومن بديع النَّظم في حِكَم الناصحين:
تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي
وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الْجَمَاعَهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ
مِنَ التَّوْبِيخِ لاَ أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
وَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي
فَلاَ تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَهْ
فعلى الناصح أن يتخيَّر من طيِّب الكلام ما يُغري الآخرين بقَبول كلامه والإمعان في أبعاده ومَراميه؛ حتى يصلَ الاثنان إلى الخيريَّة المَنوطة بالنُّصح لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
واحْذَر أخي الكريم من غاشٍّ لك، مُستهترٍ لئيمٍ، يُزيِّن لك من معسول الكلام، ويَزيد من طرائق السوء والفحشاء؛ حتى تتأثَّر بكلامه، وتظنَّ أنه ممن يحبُّونك، ويَبغون سعادتك.
فقد سلَك قُدوته إبليس اللعين نفسَ الطريقة على أبيك آدمَ عليه السلام ودخَل له من هذا الباب عليه وعلى زوجه؛ حتى ظَفِر من حالهما بما أرادَ، وباءَ آدمُ بالخطيئة بتأثير الوسوسة والتزيين؛ حيث نفَخ الشيطان في نار الشهوة، ورغَّب آدمَ في الأكل من الشجرة؛ ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ [الأعراف: 21 - 22].
فهذه النصيحة وأشباهها هي حظُّ الشيطان من الإنسان، قد يَبعثها لك مع مُخادعٍ كذَّابٍ، فيبدو لك في ثوب ناصحٍ أمينٍ.
اللهم اجْعلنا من الناصحين ومن المُستجيبين.
[1] الألباني في صحيح أبي داود، (4944) بسندٍ صحيحٍ.
[2] صحيح البخاري، (2493) بسندٍ صحيحٍ.
[3] محمد قطب؛ قبسات من الرسول، ص (157).
[4] صحيح البخاري، (3598) بسندٍ صحيحٍ.
[5] البيهقي في شُعب الإيمان، (6/ 2581) بسندٍ ضعيفٍ عن جابر بن عبدالله - رضي الله تعالى عنه.
[6] الشوكاني في فتْح القدير، (2/ 96)، وقال: رُوِي من طرقٍ كثيرة.
[7] د.
أحمد الشرباصي؛ موسوعة أخلاق أهل القرآن، ج (5)، ص (132).