int(1846) array(0) { }

أرشيف المقالات

نحن لسنا ككل البشر (1)

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
نحن لسنا ككل البشر(1)
نعم لسنا ككل البشر، تلك حقيقة لا ينكِرها عاقل، فضلاً عن عالِم، وليس هذا رأيًا أو وجهةَ نظر شخصية، لكنها حقيقة قرآنية، ألم تقرأ قول الله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]؟ أليست حقيقة؟
لكن الذي يكمِل الآية يجد لهذه الخيرية حيثياتٍ؛ إنْ وجِدت في أمتنا كانت خير الأمم، وتُشير الآية ذاتها إلى تلك الحيثيات: ﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 110]؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -واللذان ينبعان من إيماننا بربنا- يجعلانِنا خيرَ البشر وأفضل الناس قاطِبة.
ولأهمية ذلك؛ فقد قدَّم الله -عز وجل- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة التوبة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين؛ كما قال تعالى: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112].
على عكس أهل الشر والفساد، ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67].
ولا ريب أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خِصال الصالحين؛ قال تعالى: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِين ﴾ [آل عمران: 113، 114].
ولكن من الذي يأمر بالمعروف ويَنهى عن المنكر في الأمة الإسلامية؟ بالتأكيد ليس كلنا يفعَلها، إنما فينا من هو مؤهَّل لتلك المهمة الإصلاحية الجادة والخطيرة، قادرٌ عليها، ولا بد أن يكون على دراية بالمعروف، عارفًا بالمنكر، وأن يكون قدوة لغيره في ذلك، يطبِّقه على نفسه وأهله كي يأمر وينهى.
فالشروط الرئيسة لتلك المهمة هي: التأهيل، والاستطاعة، والدِّراية (العِلم)، والقدوة؛ فمن غير المعقول أن يأمر بالمعروف مَن لا يعرفه، أو ينهى عن المنكر من لا يدري أنه منكَر، وأيضًا لا يمكن أن يأتي أحد المنكرَ وينهى عنه، أو أن يأمر بالبر وهو لا يفعله؛ ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44].
إذاً فالآمرون بالمعروف النَّاهون عن المنكر لهم من المؤهِّلات والقُدرات ما يؤهِّلهم عن غيرهم لأداء هذا الدور الإصلاحي الكبير، وجعَلهم ربهم في ذواتهم أمةً؛ لتوحُّد هدفهم وغايتهم: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]؛ ففي الآية بيان الإيجاب، فإن قوله تعالى: ﴿ ولتكن ﴾ أمر، وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوط به إذ حصره بقوله: ﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾، وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرْض عين، وأنه إذا قام به أمة سقَط الفرض عن الآخرين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستوجِب من الشخص الرِّفق والحِلم، وسَعة الصدر والصبر، وعدم الانتصار للنفس، ورحمة الناس، والإشفاق عليهم، وكل ذلك مدْعاة إلى الحرص وبذْل النفس.
وهناك درجات لتغيير المنكر ذكَرها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((مَن رأى منكم منكرًا، فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعَف الإيمان))؛ رواه مسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: ومَن لم يكن في قلبه بُغْض ما يُبغِضه الله ورسوله من المنكر الذي حرَّمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجَبه الله عليه، فإن لم يكن مُبغِضًا لشيء من المحرَّمات أصلاً، لم يكن معه إيمان أصلاً.
وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-: فالله الله إخواني، تمسَّكوا بأصل دينكم، أوله وآخره، أُسّه ورأسه، وهو "شهادة أن لا إله إلا الله" واعرفوا معناها وأحبُّوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بَعيدين، واكفروا بالطواغيت، وعادوهم وأبغِضوا مَن أحبَّهم، أو جادَل عنهم أو لم يكفِّرهم، أو قال: ما عَليّ منهم، أو قال: ما كلَّفني الله بهم، فقد كذَب هذا على الله وافترى، بل كلَّفه الله بهم وفرَض عليه الكفر بهم والبراءة منهم ولو كانوا إخوانه أو أولاده.
والتغيير باليد له أهله القادرون على ذلك؛ ((كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته))، وكذا التغيير باللسان له أهله من الخطباء والحكماء والمحدِّثين، فمن لم يستطع، فلينكِر المنكَر بقلبه.
فإن حدَث وكنا أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، كنا حقًّا خير الأمم.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

شارك المقال

ساهم - قرآن ٣