مفهوم الدعوة الفردية وأهميتها
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
مفهوم الدعوة الفردية وأهميتهاإن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق؛ فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله - عز وجل - من أفضل القربات إليه، ومن أجلِّ الأعمال؛ قال -تعالى- : ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، وقال -تعالى- : ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].
ويقول نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - : ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَم)).
والدعوة إلى الله هي طريق المرسلين، وقد لاقى أنبياء الله في ذلك ما لاقوا من العنت والصدود، والإباء والاستكبار من لدن فئات كثيرة، وطبقات كبيرة من الملأ الذين استكبروا؛ ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
ونظرًا لأهمية الدعوة إلى الله - تعالى - وعلو مكانتها، بل هي سبب تفضيل الله - عز وجل - لهذه الأمة، وتركُ بني إسرائيل لها كان سببًا للعنهم وطردهم من رحمة الله - أفردتُ لها بحثًا، وأحببت أن أتكلم عنها، والله المستعان، وعليه والتكلان.
مفهوم الدعوة الفردية1- تعريف الدعوة:أولاً: تعريف الدعوة لغةً: تقول:دَعَو، الدعوة: ادِّعاء الولد الدَّعِي غير أبيه، ويدَّعيه غير أبيه.
قال:
ودَعْوة هاربٍ من لؤمِ أصلٍ
إلى فَحْلٍ لغيرِ أبيه حَوْب
يقال: دعي بين الدعوة.
والادعاء في الحرب: الاعتزاء، ومنه التداعي تقول: إليَّ أنا فلان، والادعاء في الحرب أيضًا أن تقول: يا لفلان، والادِّعاء أن تدَّعي حقًّا لك ولغيرك، يقال: ادعى حقًّا أو باطلاً.
والتداعي: أن يدعو القوم بعضهم بعضًا، وفي الحديث: ((دع داعية اللبن))؛ يعني: إذا حلبت، فدع في الضرع بقية من اللبن.
والداعية: صريخ الخيل في الحروب.
أجيبوا داعية الخيل، والنادبة تدعو الميت إذا ندبته، وتقول: دعا الله فلانًا بما يكره؛ أي: أنزل به ذلك.
قال:
دعاك الله من قيسٍ بأفعى
إذا نام العيونُ سَرَت عَليكا
وقوله - عز وجل - : ﴿ تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ﴾ [المعارج: 17].
يقال: ليس هو كالدعاء، ولكن دعوتها إياهم: ما تفعل بهم من الأفاعيل؛ يعني: نار جهنم.
ويقال: تداعى عليهم العدو من كل جانب: أقبل.
وتداعت الحيطان: إذا انقاضت وتفرزت.
وداعينا عليهم الحيطان من جوانبها؛ أي: هدمناها عليهم.
ودواعي الدهر: صروفه.
وفي هذا الأمر دعاؤه؛ أي: دعوى قبيحة.
وفلان في مدعاة: إذا دعي إلى الطعام.
وتقول: دعا دعاءً، وفلان داعي قوم، وداعية قوم: يدعو إلى بيعتهم دعوة، والجميع: دُعَاة؛ "العين: للخليل بن أحمد الفراهيدي".
ثانيًا: تعريف الدعوة اصطلاحًا:
والدعوة إلى الله - تعالى - أحد أركان الأعمال الصالحة التي لا يتم الربح إلا بها، كما قال الله - تعالى - : ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].
فإن التواصي بالحق يلزم منه الدعوة إلى الحق، والتواصي بالصبر يلزم منه الدعوة إلى الصبر على دين الله - عز وجل - في أصوله وفروعه.
والدعوة إلى الله - تعالى - هي الدعوة إلى شريعة الله الموصلة إلى كرامته، ودعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تدور على ثلاثة أمور:
أولاً: معرفة الله - تعالى - بأسمائه وصفاته.
ثانيًا: معرفة شريعته الموصلة إلى كرامته.
ثالثًا: معرفة الثواب للطائعين، والعقاب للعاصين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - في فتاويه ج3 ص341 -:
"والدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءتْ به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبدُ ربه كأنه يراه؛ فإن هذه الدرجات الثلاث - التي هي "الإسلام"، و"الإيمان"، و"الإحسان" - داخلة في الدين، كما قال في الحديث الصحيح: ((هذا جبريل جاءكم يعلِّمكم دينكم))، بعد أن أجابه عن هذه الثلاث؛ فبيَّن أنها كلها من ديننا.
و"الدين" مصدر، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، يقال: دان فلان فلانًا، إذا عبده وأطاعه، كما يقال: دانه، إذا أذله.
المقصود بالدعوة الفردية:
المراد بالدعوة الفردية: "دعوة الأفراد"؛ أي: دعوة الناس منفردين، فالفردية هنا من حيث المدعو، ويقابل هذا: دعوة الناس مجتمعين من خلال الدروس والمحاضرات؛ ولا نريد به "العمل الفردي" الذي يقابله "العمل الجماعي"؛ فالفردية في هذا النوع من حيث الداعي منفردًا بعمله مستقلاًّ بآرائه.
ويتبين من التعريف أن الدعوة الفردية هي عكس الدعوة الجماعية، من حيث المدعو:ففي الدعوة الفردية يكون المدعو فردًا، وفي الدعوة الجماعية يكون المدعو جماعة، كأن يكون في درس أو خطبة.
لذا نقول: الدعوة العامة والدعوة الفردية، بمنزلة القدمين للإنسان لا يستقيم أمره إلا بهما معًا، لكن أقول: قد نضطر أحيانًا إلى عدم التمكن من الدعوة العامة: - "خطب، محاضرات" - فنقتصر على الدعوة الفردية، وتكفي في نشر الدعوة وتبليغ الخير، وليس العكس صحيحًا، فلا تكفي الدعوة العامة - بحال من الأحوال - عن الدعوة الفردية التي تحدث التغير الحقيقي، ولا تستطيع أن تحكم على أحد أنه معك بدون أن تمارس معه ذلك النوع من الدعوة الخاصة أو الفردية، ومثال الدعوة الفردية في حياتنا مثال الحرب؛ فالدعوة حرب بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والحرب بها سلاحان رئيسيان: سلاح الطيران، وسلاح المشاة والمدرعات، فمهما دمر الطيران المنشآت والحصون، لا يمكن أن نقول: إنه تمت السيطرة على تلك البلد، حتى يدخل المشاة، وفي بعض الأحيان قد يتمكَّن المشاة والمدرعات من السيطرة على بلد معين، دون الحاجة إلى الغطاء الجوي؛ فالطيران يمثل في حربنا الدعوة العامة والجماعية، فنتحدث في أمور عامة وفي أوضاع اجتماعية مخالفة، وهذا مهم.
أما الأهم، فهو سلاح المشاة والمدرعات، الذي يسيطر على الأرض، وهذا تمثله في حربنا الدعوة الفردية، التي بها نتمكن من الشخص، ونغير الفكر والمعتقد.
أهمية الدعوة الفردية:
إنَّ أهمية هذا النوع من أنواع الدعوة، تنبثق من أهمية الدعوة إلى الله من حيث هي؛ فالدعوة إلى الله - تعالى - على بصيرة واجبة على المسلمين؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، ويقول: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125].
وفي الصحيحين من حديث عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: ((بايعَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، على أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم))؛ [الفتح 13/192، النووي على مسلم 12/228].
إن الباطل يملك اليوم من وسائل الاتصال الجماهيري ما يخاطب به عشرات الملايين في وقت واحد، بَدءًا من الفضائيات التي يعمل على صناعتها قدرات وأقلام، وعقول وأفهام، مرورًا بالصحف والمجلات والحفلات، التي تثير أحط ما في الإنسان من غريزة وشهوات، وصولاً إلى البرامج الثقافية، ومراكز الأبحاث التخصصية التي تتابع العالم الإسلامي، وتصنع له الخطط والخطوات التي توصله إلى الهاوية.
أقول: ما الذي نملكه اليوم لكي نصمد أمام هذا الطوفان.
إن ما نملكه يبدو شيئًا ضئيلاً لا وزن له، والحق بخلاف ذلك، إن الحق دائمًا بسيط المظهر، ولكنه فعَّال، ومؤثر في الحقيقة الكامنة وراء المظهر.
إننا نملك الحق، ونملك الخطاب الفردي الذي يغرس القناعة، ويغير الفكر، ويصحح العقيدة، وهم لا يملكون ذاك الخطاب، إنما خطابهم إعلام جماعي، يعرضون فيه أردأ البضاعات، ويرتكزون في ذلك على إثارة الشهوات، وخطابنا فردي نعرض فيه أنفس السلع وأغلاها، نرتكز في ذلك على رصيد الفطرة عند الناس، وشتان بين من يغرسون القناعات، ويحررون الإرادات، ومن يروجون الضلالات، ويحركون الغرائز والشهوات، إننا بالدعوة الفردية - التي تملك كل مقومات التأثير والتغيير، والتي تخاطب الفطرة الكامنة في الأعماق والضمير - نملك الكثير؛ فالدعوة الفردية رصيد ضخم، لا يقدره إلا من عرَف طبيعة هذا الدين، وطبيعة الإنسان المستخلف.
وفى هذا الزمان وُجِدَتْ أمور كثيرة أصبحت الدعوة الفردية معها ضرورة حتمية، لا يمكن الاستغناء عنها في واقع الصحوة؛ فمن ذلك:
1- الغثائية المسيطرة على عامة المسلمين، والتي أفرزتها الأنظمة العلمانية في مجتمعاتنا، عبر استخدامها لبرامج تربية العبيد، وتلقين الذل لشباب المسلمين، في حين صارت العناصر الجيدة التي تصلح لحمل الأمانة أندر من الكبريت الأحمر، وبإزاء ذلك توجد حاجة ملحَّة في الحركة الإسلامية إلى نوعيات خاصة جيدة من الرجال يمثلون بالنسبة للصحوة القاعدة الصلبة، التي يعتمد عليها في ميدان البذل والدعوة والتضحية، وهذه النوعيات لا يكفي أبدًا لإعدادها رسائل الدعوة العامة والكلمات العابرة، بل لا بد مِن اتصال وثيق بهم، وتركيز خاص عليهم؛ لنقلهم هذه النقلة البعيدة ما بين الواقع الغثائي والمثال المنشود.
2- التضييق والاضطهاد والمحاربة التي يتعرض لها الدعاة في معظم أرجاء العالم من قِبل أولياء الشيطان، الذين يريدون إطفاء نور الله، عبر منع دعاة الإسلام من ارتقاء المنابر العامة؛ من خطب، ومحاضرات، وصحف، ونشرات، وإذاعات، وفضائيات؛ مما يستلزم معه تفعيل دور الدعوة الفردية، لتعويض الفارق في التأثير الحادث من جرَّاء هذا المنع من وسائل الدعوة العامة.
3- وجود نوعيات معينة من المدعوين، لا يصلح معهم سوى الدعوة الفردية.
أ- مدعو يعتز بوضعه الاجتماعي، ويرى أنه لو خالط الناس في تجمعاتهم؛ لذهبت مكانته التي يتمتع بها، وهذا بالطبع لا يكون إلا لأنه غير ملتزم بالشرع التزامًا كاملاً، ففي مثل هذه الحالة يجب أن يستخدم الداعية الدعوة الفردية.
ب- مدعو تُلازمه رفقة السوء، ويصعب التأثير عليه وهو معهم، ففي هذه الحالة يجب الانفراد به بعيدًا عنهم؛ حتى يمكن التأثير عليه - بإذن الله تعالي -.
ج- مدعو له حالة نفسية خاصة؛ كالنفور من الملتزمين، وصاحب الطبع غير المألوف والمتكبر والمعاند، فهؤلاء جميعًا يصعب دعوتهم إلى درس أو محاضرة، وإنما يستخدم معهم الدعوة الفردية؛ حتى نبين لهم الحق، ونحببه إليهم؛ فيهديهم الله إن شاء.
• ومع كونها منهجًا سلفيًّا عريقًا، وضرورة واقعية حركية، إلا أنها مع ذلك تمتلك من الميزات؛ ما يجعلنا ننتهجها ونمارسها، حتى لو لم يتوفر فيها كونها ضرورة ملحة؛ وإليك هذه الميزات.
فضل الدعوة الفردية:
وردت أحاديث كثيرة في فضل الدعوة إلى الله - تبارك وتعالى - نذكر شيئًا منها:
1- روى مسلم - في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثلُ أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا))؛ [النووي على مسلم 16 /227].
2- وروى البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما بعثه إلى خيبر: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَم))؛ [الفتح 7/70].
وللحديث صلة - إن شاء الله تعالى.