المرتد والتنصير في أفغانستان .. أبعاد ثلاثية - ملفات متنوعة
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
عصام زيدان
مفكرة الإسلام : ليس مدهشا أن يرتد الأفغاني 'عبد الرحمن' عن
دينه وسط موجات التنصير العاتية التي تغزو بلاد المسلمين مع جنود
الغرب وربما تسبقهم في الذهاب وتودعهم عند الرحيل لتستكمل مهامها
وتقوم بدورها.
فالغزو الأمريكي الأوروبي لأفغانستان وغيرها في ظاهرة غزو
عسكري باسم 'الحرية' وتحت راية التحرر من الطغيان, ومن وراء الستار
حينا وجهرا في أحيان كثيرة تنشط الإرساليات التنصيرية لتقوم بدورها
نحو الهدف المرجو.
وقد لا يستحق الأمر الوقوف كثيرا عند هذا المرتد, فهو قد خسر
دينه ودنياه, وحكمه في الشرع معلوم ظاهر ومبسوط في مظانة من كتب
الفقه, وإنما الذي يستدعى منا وقفات حلقات التنصير الجهنمية التي
أحاطت بالشعب الأفغاني إحاطة السوار بالمعصم.
التنصير في أفغانستان
التنصير في أفغانستان في حقيقته لم يكن وليد الغزو الأمريكي,
ففي ظل حكومة طالبان وتحديدا في شهر أغسطس من عام 2001 ـ قبل أشهر من
الغزو الأمريكي ـ احتجزت الحركة ثمانية من الأجانب [ أمريكيتان
وأستراليان وأربعة ألمان] و16 أفغانيا كانوا يعملون بمنظمة 'شلتر ناو'
العالمية للإغاثة [ وهي منظمة غير حكومية مدعومة من ألمانيا وبريطانيا
وهولندا بالإضافة إلى برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة]
بتهمة بممارسة التنصير في أفغانستان.
وذكرت الحركة حينها إنها عثرت على مطبوعات من بينها إنجيل
وشرائط فيديو وأقراص مضغوطة تدعو للدين المسيحي باللغة
المحلية.
وبعد إطلاق سراحهما استقبلهما رئيس الأمريكي جورج بوش,
ومنحهما لقب 'هيرو', حيث اعترفت احداهما في لقاء بإحدى الكنائس
الأمريكية بمحاولة تنصير أفغانا وأنها ترغب في العودة لتكرار ما قامت
به دون ندم.
وعقيب سقوط حركة طالبان تم الكشف عن وجود لجنة حكومية
أمريكية تسعى لإرساء دعائم النشاط التنصيري في أفغانستان مستغلة غياب
حركة طالبان وتوسع النفوذ الأمريكي الجديد في المنطقة.
وصرح حينها مايكل يانج رئيس مؤسسة حرية الأديان والاعتقاد
التي تأسست عام 1998بقرار من مجلس الشيوخ الأمريكي لهدف 'مراقبة حرية
الاعتقاد في العالم' بأنه طلب من بوش والحكومة الأمريكية العمل الدءوب
لتغير أفغانستان سياسيا وعقائديا لان ذلك سوف يشعر الأفغان بالطمأنينة
وسيسقط شعار الجهاد في سبيل الله والمقاومة المسلحة لدى هذا الشعب
.
وأكدت المؤسسة على ضرورة استغلال الإدارة الأمريكية لنفوذها
في أفغانستان من أجل 'ترقية فكرة إقامة نظام حكم يطبق مبدأ التسامح
الديني'.
وفي سبيل دعم عمليات التنصير ارتكزت الولايات المتحدة
وحلفائها على دعامتين أساسيتين:
الأولى:السماح بتوافد المنظمات الإغاثية ذات الطبيعة
التنصيرية وتسهيل تواصلها مع الشعب الأفغاني ودعمها بكل السبل المتاحة
وتوفير الأجواء المناسبة.
حيث يتواجد حاليا بالأراضي الأفغانية ما يقرب من 1000 هيئة
ومنظمة أوربية وأمريكية تعمل تحت شتى المسميات في مجالات التعليم ومحو
الأمية والإغاثة والصحة وغيرها من الأنشطة الخدمية التي تتيح لها
التواصل مع غالبية الشعب الأفغاني.
الثانية: منع المنظمات الإسلامية من العمل في الأراضي
الأفغانية وتحجيم دورها بدعوى أنها تساهم في نشر ثقافة الإرهاب, وأنها
تعد وجها آخر لحركة طالبان والقاعدة.
وساهم غياب هذه المنظمات الإسلامية في خلو الساحة للأنشطة
التنصيرية التي تستغل الفقر والعوز إضافة إلى الجهل المترامي الأطراف
في صرف الشعب الأفغاني عن دينه, وان لم تفلح كثيرا في ذلك فهي تحاول
بصورة أخرى أن تشيع فيه روح الإباحية والفوضوية الغربية حتى لا يبقى
له من دينه شيء ويصبح مسخا مشوها يسهل سوقه وقيادته بالشهوات والغرائز
تارة وببريق المدينة الغربية الزائف تارة أخرى.
والزيارات التنصيرية في حقيقتها لم تنقطع عن أفغانستان بهدف
التنصير أو تقييم العملية ذاتها, ففي فبراير عام 2002 بث بن هومان
رئيس إرسالية التنصير المسيحي المجرية رسالة مفتوحة على الانترنت عبر
فيها عن أسفه لأنه لم يجد كنيسة واحدة خلال زيارته لأفغانستان. وقال في رسالته: ' يقف المجتمع الأفغاني على عتبة الموت من دون المسيح، إننا نحتاج إلى وقت أكثر لعرض حقيقة ابن الرب على المسلمين في العالم'. وفي عام 2003 وبعد زيارة استغرقت شهرا كاملا صرح باعتقاده في نجاح 'عقيدة التثليث' وعن إمكانية نجاح برنامج التنصير في أفغانستان. فقد وقعت أفغانستان فريسة الاحتلال الأمريكي ـ الأوروبي الذي أسلمها بدوره إلى إرساليات تنصيرية أعملت معولها الهدام في عقيدة الشعب وقيمه, فيما وقف الاحتلال سدا منيعا في وجه المنظمات والمؤسسات الإسلامية من القيام بدورها المنوط بها في وقف تلك الهجمة الشرسة على الشعب الأفغاني. الردة الغربية استحوذت قضية هذا الأفغاني المفتون على اهتمام ساسة الغرب ورعايتهم, حيث هاتفت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس التي استخدمت ـ حسب ما أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية ـ 'عبارات حازمة' من أجل حض الرئيس الأفغاني على 'البحث عن حل مناسب لهذه القضية في أسرع وقت ممكن'!! وعبر الرئيس الأمريكي جورج بوش عن 'قلقه الشديد' إزاء مصير هذا المرتد, وصرح المتحدث باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان بأن 'هذه القضية تشكل انتهاكا واضحا للحريات الغالية على قلوب الديمقراطيين في العالم'!! وقالت وزيرة خارجية النمسا أورسولا بلاسنيك التي تتولى بلادها الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي إنها لن تألو جهدا 'لحماية الحقوق الأساسية لعبد الرحمن وإنقاذ حياته'.
أما رئيس وزراء أستراليا جون هوارد فاعتبر أن 'فكرة أن يعاقب شخص بسبب معتقده الديني وينفذ فيه الإعدام تتجاوز حدود الإدراك'، قائلا إنه شعر بالغثيان عندما سمع الخبر!! كما هددت الدول الغربية وحلف الأطلسي بوقف مساعداتها للحكومة الأفغانية إذا ما تم تنفيذ حكم الإعدام في هذا المرتد. ولا يمكن بحال إغفال النزعة المسيحية التي انبثقت منها تلك الاهتمامات وخرجت بمقتضاها تلك التصريحات. فأوروبا والغرب برمته قد ارتد بصورة سافرة واضحة للعيان عن قيمه العلمانية التي غلفته برهة من الزمن إلى جذوره المسيحية ثانية. فقد ظهر ذلك جليا من قيادة حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ في ألمانيا, حيث أعادت تلك القيادة التأكيد قبيل تولى أنجيلا ميركيل منصب المستشارة على أن أولوية سياستها الحكومية الخارجية ستركز على ' تحديد هوية وماهية الإتحاد الأوروبي التي تقوم على الجذور والإرث المسيحي لأوروبا'. كما كرر برنامج الحزب المسيحي المحافظ رفضه القاطع لانضمام تركيا للإتحاد الأوروبي وتقديمه عرضاً بديلا للحكومة التركية أطلق عليه اسم 'الشراكة المميزة', حيث ترفض ميركيل عضويتها الكاملة رفضا قاطعا, مشيرة إلا أن انضمامها إلى الإتحاد الأوروبي سيغير من 'هوية أوروبا القائمة على الإرث المسيحي'. ورئيس الوزراء البريطاني قبيل الذكرى الثالثة للغزو العراقي صرح بأنه 'تضرع إلى الله' قبل ذهاب القوات للعراق, وأن الرب هو الذي سيحكم على قراره الخاص بمشاركة الرئيس الأمريكي جورج بوش في خوض حرب العراق. ولا يمكن في هذا المقام إغفال نص عبارة بوش بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001 من انه سيخوض حرب صليبية أخرى, كما دأب على الاستشهاد بإرادة الرب في تبرير الحرب على 'الإرهاب'، واعتاد أن يصف هذه الحرب بأنها 'حملة مقدسة مباركة من قبل الرب'. كما ظهر ذاك الطرح وهذه الهوية مع تولى بندكتس السادس عشر منصب البابوية, حيث يولي موضوع 'الجذور المسيحية لأوروبا' اهتماما خاصا في أجندته. ففي محاضرة ألقاها في 27 فبراير الماضي، أثناء لقاءه في الفاتيكان بمجموعة من الكهنة الأرثوذكس اليونان صرح بندكتس بقوله'علينا أن نواجه التحديات التي تهدد الإيمان ، وننشر السماد الروحاني الذي غذى لقرون أوروبا، بإعادة التأكيد على القيم المسيحية، ودعم السلام والتلاقي حتى في الظروف الأكثر صعوبة، وتعميق العناصر المستمدة من الإيمان والحياة الكنسية التي من شأنها أن تؤدي إلى غاية الاتحاد الكامل في الحقيقة والمحبة'. لقد أعادت الكنيسة التركيز على الهوية والجذور المسيحية, وتواءمت دعوتها مع ساسة لهم خلفيتهم العقدية المعادية للإسلام والمسلمين, فكانت الردة الغربية ـ أمريكية وأوروبية ـ إلى الإرث المسيحي في مواجهة العالم الإسلامي. الردة الأفغانية الردة الثالثة التي جاءت على خلفية ردة الرجل الأفغاني والردة الغربية عن قيمها العلمانية إلى أصولها المسيحية هي الردة الأفغانية عما تبقى عن سيادتها وكرامتها إلى هذا الحد المذل المهين. نعم قد فرط الساسة في هذا البلد المنكوب من قبل في الكثير من السيادة والكرامة وآثروا العيش في كنف الاحتلال وحمايته, وإنما في هذه المرة قبلوا أن تمحى هذه السيادة وتلك الكرامة كلية وركعوا صاغرين على الملأ دون أن يحفظوا حتى ماء وجههم أمام مطالب الغرب المسيحي الذي لوح بقطع المساعدات في حال تطبيق حد الردة وقتل الأفغاني. فقد أعلن خالق أحمد المتحدث باسم الرئاسة الأفغانية أنه سيتم الإفراج عن الأفغاني المرتد'تحت ضغط الحكومات الغربية التي هددتها بإيقاف المساعدات'. وأكد أن هذا المرتد سيفلت من حد القتل الذي تنص عليه الشريعة الإسلامية إثر ضغوط تعرضت لها أفغانستان من الدول المانحة الغربية لا سيما الولايات المتحدة. وصرح آخر بأن الرئيس كرزاي منزعج جدا, واجتمع بالكثير من الأفراد والمنظمات ليجد حلا سلميا لهذه الأزمة. وأضاف'على كل حال فإن هناك حلا يمكن أن يتخذ، وهو إطلاق سراح عبد الرحمن [...] نحن لا نستطيع أن نعزل أنفسنا عن المجتمع الدولي'. والذي لاشك فيه أن محاولة الحكومة الأفغانية التملص من نصوص الشرع سيفتح عليها براكين من الغضب الشعبي, فقد أوقدت الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم النار في قلوب المسلمين الأفغان, وما زالت تلك الأفئدة مكتوية بنار الغيرة على دينها ومعتقداتها, وإذا ما أقبل ساسة البلاد على صب الزيت على النار فلن تحصد أيديهم إلا الرماد.