هل هذا صحيح؟
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
هل هذا صحيح؟طريق الدعوة طريقٌ طويل.
طريق الدعوة طريق كلُّه أشواك.
طريق الدعوة فيه جهادٌ كبير.
كثيرًا ما نسمع مثلَ هذه العبارات، وتُذكر قصص الأنبياء والرسل - عليهم السلام - ومَن سار على دربهم؛ لتأكيد هذه الحقيقة، هذا كله صحيح لا غبار عليه.
ولكنْ ثَمَّة وجه آخر للدعوة يحتاج منا إلى بسط وكلامٍ وبيان؛ من أجل إظهار الصورة الكاملة، دون تقطيع أو إخفاء، وإليكم هذه الصورةَ:
عن جَرِير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار، قال: فجاءه قومٌ حفاةٌ عُرَاة مُجْتَابِي النِّمار أو العباء، متقلِّدي السيوف، عامَّتُهم من مُضَر، بل كلُّهم من مضر، فتمعَّر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَا رأى بهم من الفَاقَة، فدخل ثم خرج، فأمَرَ بلالاً فأذَّن وأقام، فصلى ثم خطب، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [النساء: 1] إلى آخر الآية ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، تصدَّق رجلٌ من دينارِه، من درهمِه، من ثوبِه، من صاعِ بُرِّه، من صاعِ تمرِه - حتى قال: - ولو بشقِّ تمرة))، قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادتْ كفُّه تَعجِز عنها؛ بل قد عَجَزتْ، قال: ثم تتابع الناسُ حتى رأيتُ كَوْمَينِ من طعام وثياب، حتى رأيتُ وجهَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلَّل كأنه مُذْهَبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة، فله أجرُها، وأجرُ مَن عَمِل بها بعده، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء))[1].
لماذا تهلَّل وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم؟! أليس فيه دليل على المتعة في الدعوة؟!
وصورة أخرى تهز القلوبَ:
كان غلامٌ يهوديٌّ يخدم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فمَرِض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يَعُوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أَسلِمْ))، فنَظَر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أَطِع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - فأَسْلَمَ، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار))[2].
وهذا ليس خاصًّا بالرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - واقرأْ معي هذا الموقفَ لأبي هريرة - رضي الله عنه -: "كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتُها يومًا فأسمعتْني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكره، فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، قلتُ: يا رسول الله، إني كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام فتأبَى عليَّ، فدعوتُها اليوم فأسمعتْني فيك ما أكره، فادعُ الله أن يَهْدِي أمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة))، فخرجتُ مستبشرًا بدعوة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جئتُ فصرتُ إلى الباب، فإذا هو مُجَافٌ، فسمعتْ أمي خَشْفَ قدميَّ، فقالتْ: مكانَك يا أبا هريرة، وسمعتُ خَضْخَضَةَ الماء، قال: فاغتسلتْ ولبستْ دِرْعَها، وعجِلتْ عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أَبشِر قد استجاب الله دعوتَك، وهدى أمَّ أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيرًا..."[3]، فليس فرحاً فقط، بل بكاء من شدة الفرح.
ومثل هذه الصورة (دخول شخص للإسلام) لا تزال تتكرَّر، وستظل تكرر - بإذن الله - بل هناك مَن يتمنَّى أن يتحقَّق له هذا الحلم؛ استبشارًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ - رضي الله عنه -: ((فوَاللهِ، لَأنْ يُهْدَى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم))[4]، فكم هي سعادة وفرَح وتمتُّع من يكون سببًا - بعد الله - في دخول شخص للإسلام!
وأمر آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((...
الدالُّ على الخير كفاعله))[5]، فمَن دلَّ على بناءِ مسجد، أو طباعة كتاب، أو كفالة يتيم، أو كفالة طالب علم، أو إغاثة ملهوف، أو بناء مستوصف، أو دُور العلم، أو...؛ فهو كمَن فَعَل هذه الأشياء، فكم سعادتك وفرحتك حين تكون دالاًّ على خير!
ونموذجٌ آخرُ لمن يحفِّظ أبناءه القرآن، (وهذا من الدعوة، بل من أفضل الدعوات)، ولنأخذ سورة الفاتحة كمثال:
• عدد حروفها 150 حرفًا[6]، وقراءة حرف من القرآن بعشر حسنات[7].
• عدد الحسنات لمن قرأ الفاتحة مرة واحدة = 150× 10 = 1500.
• في اليوم الواحد يقرأ المسلم الفاتحة 17 مرة [8] على الأقل 1500× 17 = 25500.
• في السنة الواحدة 25500 × 360 = 9180000 تقريبًا 9 ملايين، إذا افترضنا أن هناك أشهرًا أقل من 30 يومًا.
• لو افترضنا أن ابنك عاش لمدة 50 سنة من بعد تعليمِك إيَّاه 50 × 9 = 450 مليونًا.
كيف لو كان لديك أكثر من ابن، وكيف لو حفَّظتَه سورًا أخرى، وكيف لو ساهمتَ في تحفيظ الآخرين الفاتحة وبقية القرآن، وكيف وكيف، أسألك بالله أَلَا يفرحك أن ترى ابنك يردِّد سورًا قد حفَّظتَه إيَّاها؟ أَلَا يُسعِدك أن ترى ثمار دعوتك في الآخرين وهم يردِّدون القرآن في المساجد.
وقد نسيت أن أذكر لك أن ابنَك هذا لو حفَّظ ابنَه أو غيرَه الفاتحةَ، فلك مثل أجرهم أيضًا، وهكذا تستمر سلسلة الأجر.
هذا فقط نموذج واحد لعمل دعوي، والنماذج كثيرة ولا يمكن حصرها، ولكني أردتُ أن أبيِّن أن طريق الدعوة كما فيه التعب والشقاء، ففيه السعاة والهناء، وكما فيه الحزن والبلاء، ففيه الفرح والبهاء، فلنكن منصفين في طرحنا، وسطيين في كلامنا، ملتمسين هَدْي نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - ولنحبِّب الدعوة إلى الناس أجمعين؛ فهي مطلب على كل مسلم، ولنكن مفاتيحَ للخير، مغاليقَ للشر.
اللهم استعملنا في طاعتك، وأبعدنا عن معصيتك، وافتح لنا باب دعوتك
[1] رواه مسلم 1017.
[2] رواه البخاري 1356.
[3] رواه مسلم 2491.
[4] رواه البخاري 2942.
[5] حسن صحيح: صحيح الترمذي للألباني 2670.
[6] بما فيها البسملة.
[7] الحديث صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1416.
[8] عدد ركعات الفرائض: الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء.