int(1748) array(0) { }

أرشيف المقالات

الواجهة الدعوية

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
الواجهة الدعوية

لم تزَل الدعوةُ الإسلاميةُ راسخةً في وجه مخطَّطات الأعداء التخريبية قديمًا وحديثًا، تلْقَى منهم صنوفَ البطش والمَكر والخداع، فتُحارَب بالسيف تارةً، وبالفكر تارةً، والمخادعةِ تاراتٍ وتارات، فإذا اللهُ - عزَّ وجلَّ - بعزَّته وعلمه وحكمته، وبمكره بالذين يَمْكرون بدِينه - يَردُّ عن الدعوة الحقِّ كلَّ ما يُحاك أو يُراد بها من سُوء.
 
لكنَّ المأساة حقًّا هي طعْن أهل الدعوة في دعوتهم، وهم لا يَشعرون، طعْنُها من حيث يحسَبون نُصْرتَها ورِفعتَها، طعْنها بالإساءة لها، ونِسبة قبائح العقائد والتصوُّرات والأخلاق والمعاملات لها، طعنها بنَيْل مآربَ وشهواتٍ باسمها!
 
الدعوة والدعاة كلٌّ لا يتجزَّأ:
الدعوة والدعاة كِيان واحد، لا ينفصل بعضه عن بعض، فالدعوة ثمرة الدعاة؛ لولاهم ما قامت الدعوة، وما بلَغَتْ ما بلغت، ولا عمَّت البلادَ والعباد، والدُّعاةُ يَسِيرون بالدعوة وللدعوة، فهم بها ولها يتحركون.
 
ولهذا كان خطأُ الداعية إساءةً لدعوته وطعنًا فيها، وكلَّما عَظُم الخطأُ باسْم الدين وباسم الدعوة، كانت الجنايةُ على الدعوة وعلى الدِّين أعظَمَ وأخطر.
 
نعَم، الدُّعاةُ بشَر، يَعتريهم ما يَعتري كلَّ البشَر مِن خطأ وتقصير، ونسيان وغفلة، لكنَّ كثرةَ الخطأ في حقِّهم تَذهب بمصداقيتهم وبمصداقية دعوتِهم في الناس.
 
ارحموا الدعوة فقد ملَّتْكم!
أقوال شنيعة، وفتاوى شاذَّة غريبة، ومناهجُ بِدْعية ركيكة، وأهواء وشهواتٌ كثيرة، وكلُّ هذا يُحسب على الدَّعْوة، ويَتصيَّده أهلُ الكفر والنفاق على الإسلام وأهلِه، ويُشِيعونه في الآفاق.
 
ولقد زاد الأمرُ حقًّا، حتى ضَعُفَتْ هيبةُ الدعوة في قلوب كثير من الناس، وبات السَّفيه يرُدُّ أحكام الله - تعالى - وأحكامَ رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويطعن في عُمَّال الله - تعالى - الدُّعاةِ، الذين جرَّأهم تصرفاتهم الخاطئة بحقِّ الدعوة.
 
ومع الانفتاح الدَّعَوي في عالم الفضائيات والشبكة العَنكبوتيَّة، لم يَعُد شيء من مَساوئ ما يقع من الدُّعاة يمكن أن يُستَر أو يخفى، كما كان الأمر قديمًا وقْتَ كان الدعاةُ في المَحْضَن التربويِّ؛ المسجد، فيه يُناقِشون مَناهجَهم ويَتناصحون، ومنه يوجِّهون الناس ويعلِّمونهم، لا يرجون شيئًا سوى ما عند الله - تعالى - من أجر الآخرة.
 
فكما أنَّ لهذا الانفتاح الدعوي إيجابياتِه التي لا تُنكر، فله كذلك سلبياتُه التي لا يَنبغي أن تُقَرَّ، وكان مِن هذه السلبيات شيوعُ أخطاء الدُّعاة وخِلافاتِهم، ولَمْزُ أو طعْنُ البعضِ في المناهج أو حامليها، على مَرْأًى ومَسْمعٍ من جماهير الناس؛ عالِمهم وجاهلهم، وصادقهم وكاذبهم! ممَّا كان له أسوأُ الأثرِ على الدعوة ذاتِها، لا الدُّعاة وحدهم.
 
الواجهة الدعوية:
للدعوة الإسلامية واجهةٌ ينبغي أن يَعِي الدعاة جيِّدًا ضرورةَ المحافظة عليها مِن كلِّ ما يَشِين الدعوةَ، أو كلِّ ما يَجْلب لها النَّقيصة أو يُوهم بذلك، وقد كان لنا في الداعية الأوَّلِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - خيرُ أُسْوة؛ إذ كان يحفظ دعوته عن كلِّ أمر مُوهِم مِن شأنه الطَّعْن فيها وفي صاحبها.
 
فعَن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: "كنا في غَزَاة، فكَسَع رجلٌ من المهاجرين رجلاً مِن الأنصار، فقال الأنصاري: يا لَلأنصار! وقال المهاجري: يا لَلمهاجرين! فسمع ذاك رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فقال: ((ما بال دعوى جاهلية؟)) قالـوا: يا رسول الله، كسَعَ رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دعُوها فإنها مُنْتِنة))، فسمع بذلك عبدُالله بن أُبَي فقال: فعلوها! أما والله لئن رجَعنا إلى المدينة ليُخْرِجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فبلـغ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقام عمر فقال: يا رسول الله، دعْني أضربْ عنُقَ هذا المنافق، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دعْه؛ لا يتحدَّث الناسُ أنَّ محمدًا يقتل أصحابه))؛ متفق عليه.
 
فامتنع - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن قتْل هذا المنافق، لا لأنه لا يستحِقُّ القتل؛ ولكنْ لأجْل الحفاظ على واجهة الدعوة؛ إذ لو أمَرَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقتله، فسيقول الناس: "إن محمَّدًا يَقتل أصحابه"!
 
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قسَمَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قَسْمًا، فقلتُ: والله يا رسول الله، لَغيرُ هؤلاء كان أحقَّ به منهم، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنهم خيَّروني أن يَسألوني بالفُحْش، أو يبخِّلوني! فلستُ بباخل))؛ أخرجه مسلم، وفي رواية أحمد: ((ولستُ بباخل)).
 
فالواجهة الدعوية تقتضي حفْظَ مقام الدُّعاة عن إيهام الناس ما يَشينهم، وهذا معنى قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني، ولست بباخل))، والبعْضُ منَّا اليومَ يُسقط منْزلته أو يُوهِن دعوتَه، ويفتح الباب للتشويش والطعْن عليها - بما ينبغي أو يجب أن يمتنع عنه.
 
وكان الواجب أن يتحفظ هؤلاء، فيقول الواحدُ منهم: ولستُ بنمَّام، ولست بكذَّاب، ولست بحاقد، ولسْتُ بصاحب هوًى أو دنيا!
 
لا أن يَجمع مِن صُوَر النقيصة والقبح ما يَصرف عنه وعن دعوته أهلَ الحقِّ وأهل العقل، وهو لا يَدري! كما هو مشاهَد في واقعِ بعض من يتصدَّرون للدعوة لأنفسهم وأهوائهم.
 
مكامِنُ الخطَر:
وإنما يَجرُّ الدعاةَ في زماننا إلى مُنْزَلق الإفساد الوجهي للدعوة أمورٌ كثيرة، يمكن أن نرجعها كلَّها إلى أمرين:
الأول: الجهل بمواقع الحكمة الدعوية الواجبة في الدعوة إلى الله - تعالى - والمكتسَبة من حال نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحال أئمة الدعوة الإسلامية قديمًا وحديثًا.
 
فالذي يجهل أنَّ للدعوة واجهةً لا يحلُّ لأحدٍ هزُّها بين الناس، يَأتي عادةً مِن الأقوال والأفعال بما يَجلب المَفسدة مِن حيث يَظنُّ المصلحة الدعوية.
 
الثاني: الهوى الباعثُ على المخالَفة عمْدًا، أو الهوى المُعمي والمُضلُّ عن الحكمة، كمن يَبعثه الخلافُ الشخصي على تتبُّعِ العثرات الشرعية لأَخٍ من إخوانه الدُّعاة، وإن كان يَسكت عما هو أعظم وأكبر عند غيره من الدُّعاة؛ إذ لا خلافَ شخصي معه يَستدعي التَّناصح المزعوم أو الذبَّ عن الدِّين!
 
فقطْ نتأنَّى:
دُعاةُ اليومِ بحاجة للتأنِّي وترْك العجَلة في مواقفِهم الدَّعويَّة مِن إخوانهم الدُّعاة، أو مِن مخالفيهم، تأَنٍّ يَنْفُضُ عن أبصارهم غبارَ الطيش والهوى والجهل، فيرَوْن المسائل الدَّعوية على حقائقها، ويفرِّقون بين ما هو دين وبين ما هو هوًى، بين ما هو دينٌ وبين ما هو ادِّعاء مزيَّف.
 
والتحرِّي مِن الداعية قبل كلِّ موقف يُحسب على الدعوة مِن علامات العقل والحكمة، كما هو مِن علامات الصِّدق والإخلاص وابتغاء الحق.
 
كم تتحمَّل الدَّعوةُ مِن أوزارنا!
نعم، كم هي مسكينة لا ذنب لها سوى أنها أرادت لنا النَّجاة، وضمَّتْنا إلى صدْرها كي نكُون مِن أبنائها، فغدرنا بها وركِبْنا موجة أعدائها، فطعَنَّاها في ظهرها، وأبَيْنا الاعترافَ بالجميلِ والإحسان لها؛ إذْ أسأْنا لها باسمها!
 
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

شارك المقال

فهرس موضوعات القرآن