أرشيف المقالات

رسالة للشيخ عبداللطيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
رسالة للشيخ عبداللطيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
رسالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من عبداللطيف بن عبدالرحمن إلى الأخ المكرم عبدالرحمن بن جربوع، وفقه الله للعمل بدينه المشروع.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعدُ فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه وجزيل عطائه وكرمه، وعلى ما ألبسنا من ملابس فضله وما خصَّنا به من عظيم العطاء الذي صرَفه عمن شاء بعدله، والخط وصل وصلك الله إلى ما يرضيه، ونظمك في سلك من يخشاه ويتقيه، وأوصيك بتقوى الله والحرص على معرفة تفاصيلها على القلوب والجوارح، فإنك في وقت كثر قراؤه وقل فقهاؤه، وما ذكرت من طلب الفائدة بما ورد من النصوص الشرعية الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا مما لا يخفى على آحاد العامة من المسلمين - فضلاً عن الطلبة والمتعلمين - وهذا الأصل من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها وألزمها، وقد ألحقه بعضهم بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا بها، وهو من فروض الكفاية لا يسقط عن المكلفين، إلا أن قام به طائفة يحصل بها المقصود الشرعي، وفرض الكفاية من فروض العين من جهة متعلقة؛ لأن الخطاب به لجميع الأمة.
 
وإنما أُرسلت الرسل، وأنزلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، والنهي عن المنكر الذي أصله ورأسه الشرك والعمل لغير الله، وشرع الجهاد لذلك، وهو قدر زائد عن مجرد الأمر والنهي، ولولا ذلك ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته، ولا يرى تركه والمداهنة فيه إلا من أضاع حظه ونصيبه من العلم والإيمان؛ قال تعالى ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ﴾ [آل عمران: 110]، وقال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، فهذه الآيات تدل على وجوبه، وأن القائم به خير الناس وأفضلهم، وأن الخيرية لا تحصل إلا بذلك، وفيها أن الفلاح محصور في أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الفوز بالسعادة الأبدية، وأما الوعيد على ترْكه، فمِثل قوله تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 78 - 81]، لعنهم على ألسن أنبيائهم بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، واللعن: هو الطرد والإبعاد عن الله وعن رحمته، وذكر بعض المفسرين حديث: ((إن من قبلكم كانوا إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه الناهي تعذيرًا، فإذا كان من الغد جالَسه وواكله وشاربه، كأن لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكان يعتدون، والذي نفس محمد بيده، لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم))، وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني، قال: "أوحى الله - عز وجل - إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم، قال يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟! قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم)).
 
وذكر أيضًا من حديث ابن عمر: ((لينقض الإسلام عروة عروة، حتى لا يقال: الله الله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم ولتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم مَن لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم))، وفي المسند مرفوعًا: ((يا أيها الناس إن الله يقول: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم))، وفي حديث ابن عباس: ((وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم ولم يسمع دعاؤهم))؛ رواه الطبراني، وذكر الإمام أحمد - رحمه الله - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((يوشك القرى أن تخرب وهي عامرة))، قالوا: وكيف تخرَب وهي عامرة؟ قال: ((إذا علا أبرارها فجارُّها، وساد القبيلة مُنافقوها)).
والأحاديث في ذلك كثيرة تطلب من مظانها.
 
فصل
وترك ذلك على سبيل المداهنة والمعاشرة وحسن السلوك ونحو ذلك مما يفعله بعض الجاهلين أعظم ضررًا وأكبر إثمًا من تركه لمجرد الجهالة، فإن هذا الصِّنف رأوا أن السلوك وحُسْن الخلق ونيل المعيشة لا يحصل إلا بذلك، فخالفوا الرسل وأتباعهم، وخرجوا عن سبيلهم ومنهاجهم؛ لأنهم يرون العقل إرضاء الناس على طبقاتهم، ويُسالمونهم، ويستجلبون مودتهم ومحبتهم، وهذا مع أنه لا سبيل إليه فهو إيثار للحظوظ النفسانية والدَّعة ومسالمة الناس وترك المعاداة في الله وتحمل الأذى في ذاته، وهذا في الحقيقة هو الهلكة في الآجلة، فما ذاق طعم الإيمان من لم يوالِ في الله ويعاد فيه، فالعقل كل العقل ما أوصل إلى رضا الله ورسوله، وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله وإيثار مرضاته والغضب إذا انتهكت محارمه، والغضب ينشأ من حياة القلب وغَيرته وتعظيمه، وإذا عُدم الحياة والتعظيم عدم الغَيرة والاشمئزاز، وسوَّى بين الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته، وأي خير يبقى في قلب هذا؟ وفي بعض الآثار: ((إن الله أوحى إلى جبريل أن اخسف بقرية كذا وكذا، قال: يا رب، إن فيهم فلانًا العابد، قال: ((به فابدأ، إنه لم يتمعَّر وجهه فيّ قط))، وذكر ابن عبدالبر: ((أن الله بعَث مَلَكين إلى قرية ليُدمراها بمن فيها، فوجدا فيها رجلاً قائمًا يصلي، فقالا: يا رب، إن فيها عبدك فلانًا يصلي؟ فقال الله - عز وجل -: دمراها ودمراه معهم، فإنه ما تمعر فيّ وجهه قط)) انتهى.
 
ومن له علم بأحوال القلوب وما يوجِبه الإيمان، ويقتضيه من الغضب له الغَيرة لحُرماته وتعظيم أمره ونهيه، يعرف مَن تفاصيل ذلك فوق ما ذكرنا.
 
ولو لم يكن إلا مشابهة المغضوب عليهم والضالين في الأنس بأهل المعاصي ومؤاكلتهم ومشاربتهم، لكفى بذلك عيبًا.
 
مجلة الإصلاح، العدد السابع عشر، محرم وغرة صفر 1348هـ، ص28

شارك الخبر

المرئيات-١