أرشيف المقالات

مواعظ رمضانية لابن الجوزي (4)

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
مواعظ رمضانية لابن الجوزي (4)



في انتصاف رمضان واستدراك البقية


1- شهرُ الصبرِ قد ذهب نصفُه، وفيه مِنَ الخير ما لا يمكن وصفُه[1].
 
2- قولوا للغافلِ الشقي: ما أقلَّ ما قد بقي!
 
3- رمضانُ قد نزَعَ مضاربَ الإقامةِ للرحيل، فما بقي إلا سُرادقُ الخاص[2].
 
4- أيها الناس، إن شهركم هذا قد انتصف، فهل فيكم مَنْ قهر نفسه وانتصف؟ وهل فيكم مَنْ قام فيه بما عرف؟ وهل تشوقتْ هممُكم إلى نَيْلِ الشرف؟
 
5- إخواني، إن شهر رمضان قد قرب رحيلُه، وأزف تحويلُه، وهو ذاهب عنكم بأفعالكم، وقادم عليكم غدًا بأعمالكم، فيا ليت شعري ماذا أودعتموه؟ وبأي الأعمال ودَّعتموه؟ أتراه يرحل حامدًا صنيعكم أو ذامًّا تضييعكم؟
 
6- أيها المحسن فيما مضى منه، دُمْ، وأيها المسيءُ، وبِّخْ نفسك على التفريط ولُمْ.
 
7- إخواني، استدركوا باقي الشهر، فإنه أشرف أوقات الدهر، واحصروا النفوسَ عن هواها بالقَهْر، وقد سمعتم بالحور العين فاهتموا بالمَهْر.
 
8- عباد الله، اعلموا أن النصف الأخير أفضل مِن الأول؛ لأن فيه العشر وليلة القدر، والأعمال تُضاعف بشرف وقتها ومكانها.
 
9- أترى صح لك صومُ يوم؟ أترى تَسلمُ في شهرك مِنْ لومٍ؟
 
10- يا مَنْ عمرُه قد وهى في سلك الهوى، فهو متهافت، متى تستدرك في هذه البقية بالتقية الفائت؟
 
11- قد ذهب نصفُ البضاعة في التفريط والإضاعة، والتسويف يمحق ساعة بعد ساعة، والشمس والقمر بحسبان: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185].
 
12- في كل لحظة تُقرب مِنْ قبرك، فانظُر لنفسك في تدبير أمرك، وما أراك إلا كأول شهرك، الأول والآخر سيان: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185].
 
13- قد ذهب مِنَ الشهر النِّصف وما أرى مِنْ عملك النَّصف، فإن كان في الماضي قد قبح الوصفُ، فقم الآن: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185].
 
14- فبادروا البقية بالتقية، قبل فوات البِر ونزول البرية، وتخلي عنك جميع البَريَّة.
 
15- وينبغي أن يكون الاجتهاد في أواخر الشهر أكثر مِنْ أوله لشيئين:
أحدهما: لشرف هذا العشر وطلب ليلة القدر.
والثاني: لوداع شهرٍ لا يدري هل يلقى مثله أم لا؟[3].
 
16- بادِروا رحمكم الله ما بقي مِنْ شهركم فإنه مغتنم، واستدركوا ما فات منه بالحسرة والندم.
 
17- استدركوا رحمكم الله بقيَّة هذا الشهر الشريف العظيم، واجأروا إلى مولاكم، فإنه كريم رحيم، واسألوا العفو والغفران، والنجاة من النيران، والتجاوز عن الذنوب والعصيان، فإنه غفور رحيم رحمن[4].
 
في العشر الأواخر واغتنام ليلة القدر

18- إنَّ عشرَكم هذا هو الأخير الآخر، فيه تكملُ الفضائل وتتم المفاخرُ، وفيه تزكو الأعمال، وتُنالُ الآمال.
 

19- يا مصلحًا أيام شهره الماضي، هذا العشر أحسِنها.


ويا مجتهدًا فيما خلا منه، هذه الأيامُ أزينُها.
 
20- فبادر صحتك واغتنمنها، واحفَظ مجاهدتك والْتزمْها، وتعرَّف فضائل عشرك واعلَمْها، وتدبَّر نصيحتي لك وافهمْها.
 
21- مَنْ أفسد بالمعاصي أيامَ عَشْرِه، ندم حين الأخذ بالنواصي يوم حشره!
 
22- كم في المقابر مَنْ تمنَّى لقاء عشرك فما لقِيه، قصدَه سهمُ المنون فما وُقيه!
 
23- كم مِنْ مؤمِّل أيام عشرك هذه، غُصَّ بشراب أمله في كأس التذاذه! كم مِنْ محدث نفسه بالتوبة فيه مِنْ معصيتِه، سبق إلى حتفه قسرًا بناصيته!
 
24- عباد الله، قد أقبلتْ عليكم ليلةُ القدر، ولها أوفى الشرفِ وأعظم القدر، ليلة شرفها الله عز وجل على غيرها، ومَنَّ على عباده بجزيلِ خيرها.
 
25- فيا خيبة مَنْ حُرِمَ خيرَها، ويا شقاوة مَنْ فاته فضلها وبِرها، فهي ليلة القدر والفخر، وهي خيرٌ مِنْ ألف شهر.
 
26- خذ نصيبَك مِنْ خيرها الحسن، واهجُر لذةَ النوم فيها وطيب الوسن، وجافِ عن مضجعك فيها جنبيك، عسى فيها يُغسل درنك ويُمحى ذنبُك.
 
27- أيها العبد، بادر ليالي صحتك قبل السقم، وتحفَّظْ في جميع أحوالك قبل الندم، فالليالي المخصوصات بالفضل الوافر معدودة، وربَّ آملٍ أن يرى مثل ليلتك هذه ليستْ إليه مردودة، فحصِّلْ لنفسك في مثل هذه الليلة ثوابًا، وبادر عمرَك قبل أن ينتهبَه الدهرُ انتهابًا[5].
 
28- رمضانُ كالخاتم، وليلةُ القدر فصُّهُ المُضيء[6].
 
29- إخواني، ليلةُ القدر ليلة يفتح فيها الباب، ويُقرَّبُ فيها الأحباب، ويُسمعُ الخطاب، ويُرد الجوابُ، ويُسْنَى للعاملين عظيمُ الأجر: ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5].
 
30- يَسعد بها المواصل، ويتوفر فيها الحاصل، ويُقبل فيها المجامل، فيا ربح المعامل في التَّجر[7]، ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5].
 
31- ليلة تُتَلقَّى فيها الوفود، ويحصل لهم المقصود، بالقبول والفوز والسعود، أتُرى ما يؤلمك أيها المطرود هذا الهجر؟ ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5].
 
32- أخلَصوا وما أخلصتَ قصدك،، وبلغوا المراد وما بلغت أشُدَّك، وكلما جئتَ بلا نية ردَّك، أما يؤثِّر عندك شديدُ هذا الزَّجْر؟ ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5].
 
33- أيقظْ نفسَك لما بين يديها، وانتظر ما سيأتي عن قليل إليها، وأسمِعْها المواعظ فقد حضرت لديها، واقبَل نصحي وخذْ عليها ضرْب الحَجْر: ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5].
 
34- هذه أوقات يربح فيها مَنْ فهم ودرى، ويصل إلى مراده كلُّ مَنْ جَدَّ وسَرَى، ويُفك فيها العاني وتُطلق الأسرى، تَقدَّم القومُ وأنت راجع إلى ورا، أوَليس كل هذا قد جرى وكأنه لم يَجْر؟ ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5].
 
35- إخواني، والله ما يغلو في طلبها عشر، لا والله ولا شهر، لا والله ولا دهر، فاجتهدوا في الطلب فرب مجتهدٍ أصاب.
 
36- رحل عنك شهرُ الصيام وودعك زمانُ القيام، ولحَّ النصيحُ وقد لام، أفتشرق شمسُ الإيقاظ وتنام؟ فاستدرك ما قد بقى من الأيام[8].
 
37- يا عجبًا! يخرُج رمضانُ وما أنبْتَ؟ هذا والله هو العمى!
 
38- فاجتهدْ في لحاق القوم؛ فقد جَدُّوا، ولا ترضَ لنفسك دون ما أَعَدُّوا، وتنصت لحادي الرحيل فها هو يحدو[9].
 



[1] من "النور"، وقد اعتمدت على النسخة المطبوعة بتحقيق الدكتور عبدالحكيم الأنيس حفظه الله، وأيضًا على نسخة تشستربيتي؛ إذ إن للكتاب عدة إبرازات.


[2] (2، 3) من "المقامات".


[3] (4 -15) من "التبصرة".


[4] (16، 17) من "النور".


[5] (18 -27) من "النور".


[6] من "المقامات".


[7] في المطبوع: البحر، ولعل الصواب ما أُثبت، والتصحيح من إحدى نُسخ مكتبة تشستربيتي.


[8] (29 -36) من "التبصرة".


[9] (37، 38) من "النور".

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢