أرشيف المقالات

هل المسلمون مطالبون شرعا أن يكونوا أفضل من الكفار في أمور الدنيا؟

مدة قراءة المادة : 23 دقائق .
هل المسلمون مطالبون شرعًا أن يكونوا أفضل من الكفار في أمور الدنيا؟
 

هذا سؤال عظيم، ولن نجد إجابة عليه شافية كافية أفضل من كلام الله، فلنتدبر هاتين الآيتين من كتاب الله حتى نعلم جواب هذا السؤال؛ قال الله تعالى مبينا لنا حقيقة الدنيا: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ* سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 20، 21].
 
قال المفسرون: أي: اعلموا أيها الناس أنما حقيقة متاع الحياة الدنيا لعبٌ منقطعٌ لا دوام له، ولهوٌ يُلهي قلوب الناس، ثم ينقضي، فهذا غايتها عند أهلها، وزينةٌ تتزينون بها في أبدانكم ومساكنكم ومجالسكم، وغير ذلك مما تُحسِّنونه، وتفاخرٌ فيما بينكم بالأنساب والأموال والعلوم والقوة وغير ذلك مما تتفاخرون به، ويباهي بعضكم بعضًا بكثرة أمواله وأولاده على غيره، ويفرح أحدكم بكونه أكثر مالًا وولدًا من أقرانه، كمَثَلِ مطرٍ جاء بعد قنوط الناس فأنبتت الأرض المجدبة الزروع التي تعجب الكفار الجاحدين لنعم الله، وكذلك تعجب الحياة الدنيا الكافرين الذين هم أحرص الناس عليها، وأشد تعلقًا بها، ثم ييبس الزرع بعد رطوبته وخضرته، فتراه مصفر اللون يابسًا، ثم يصير الزرع اليابس فتاتًا متكسرًا، وفي الآخرة الآتية عذاب شديد للكفار في جهنم، وفيها مغفرة من الله لذنوب المؤمنين، ورضوان من الله لهم لما عملوا من الحسنات، وما زينة الحياة الدنيا إلا متاع يتمتع به الناس زمنًا قليلًا، يغر الناظرين إليه وهو زائل، ويخدع من يركن إليه وهو لا ينفع في الآخرة.
 
سابقوا أيها الناس غيركم إلى التوبة والأعمال الصالحة التي توجب لكم مغفرة من ربكم لذنوبكم، وبادروا إليها بلا تأخُّر في فعلها، وسابقوا إلى جنة عرضها مثل عرض السماوات السبع والأرض لو التصقت بعضها ببعض، أعد الله الجنة وهيَّأها للذين وحدوا الله وصدقوا جميع رسله فيما جاؤوهم به من الحق، دخول المؤمنين الجنة ومغفرة ذنوبهم فضلٌ من الله تفضل به عليهم، وهداهم إليه، والله يعطي فضله بإحسانه وثوابه ومغفرته من يشاء من عباده بحسب حكمته، والله صاحب الفضل الكبير على عباده، بما يعطيهم من الرزق والنعم الدينية والدنيوية، وبما يجازيهم من الثواب العظيم في الجنة.
 

هذا خلاصة أقوال المفسرين في تفسير هاتين الآيتين الكريمتين، وقد جاءت آيات أخرى وأحاديث نبوية بما تضمنته هاتين الآيتين، وكل ذلك مما يمهد لنا الجواب عن السؤال الذي نريد الإجابة عليه: قال الله تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 32]، وقال سبحانه: ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]، وقال عز وجل: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]، وقال جل وعلا: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148]، وقال جل وعز: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]، وقال جل شأنه: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14].
 
وعن المستورد بن شداد الفهري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار بالسبابة - في اليم، فلينظر بمَ ترجع؟))؛ رواه مسلم في صحيحه (2858).
 
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها))؛ رواه البخاري (3250) ومسلم (6415).
 
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء))؛ رواه الترمذي (2320)، وصححه هو والألباني.
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)؛ رواه مسلم (2956).
 
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثَّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً، فقال: (ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة ثم راح وتركها))؛ رواه الترمذي (2377) وصححه هو والألباني.
 
وهذه بعض أقوال العلماء نذكرها قبل الجواب عن سؤالنا:

قال القرطبي: عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة؛ ((تفسير القرطبي)) (17/ 255).
 
وقال ابن القيم: الدنيا في الحقيقة لا تُذم، وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها، وهي قنطرة أو معبر إلى الجنة أو إلى النار، ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها، صار لها اسم الذم عند الإطلاق، وإلا فهي مبنى الآخرة ومزرعتها، ومنها زاد الجنة، وفيها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله ومحبته وذكره؛ ((عدة الصابرين)) (ص: 172).
 
وقال ابن كثير: قوله: ﴿ أعجب الكفارَ نباتُه ﴾؛ أي: يعجب الزُّرَّاعَ نباتُ ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها، وأميل الناس إليها؛ ((تفسير ابن كثير)) (8/ 24).
 
وقال ابن رجب: ما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها، وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على انقضائها وزوالها، فتتبدل صحتها بالسقم، ووجودها بالعدم، وشبيبتها بالهرم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت، فتفارق الأجسام النفوس، وعمارتها بالخراب، واجتماعها بفرقة الأحباب، وكل ما فوق التراب تراب؛ ((لطائف المعارف)) (ص: 28).
 
هذا والمتأمل في كتاب الله يجد أن الله بيَّن لنا بوضوح أن متاع الدنيا وإن كثر فهو فتنة للناس، لاختبارهم بها، وأن متاع الدنيا لا ينفع في الآخرة، وإنما ينفعهم في الآخرة الباقيات الصالحات من الإيمان والعمل الصالح؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ [الجن: 16، 17]، وقال سبحانه: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 28]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 49]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46]، وقال جل شأنه: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].
 
فأكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق أو يتغافلون عنها، فيجهلون أو يتجاهلون أن متاع الدنيا سريع الزوال، وأن الآخرة هي دار القرار، وأنها خير وأبقى من الدنيا الفانية.
 
وبسبب جهل الكفار بحقيقة الدنيا الفانية، وعدم يقينهم بالآخرة الآتية الباقية، صارت الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم، ومنتهى آمالهم، فهمُّهم التمتع بشهواتها وملذاتها، وهم أكثر الناس حرصًا عليها، وأعلم بها من غيرهم غالبًا؛ قال الله سبحانه: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 6، 7]، وقال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [محمد: 12]، وقال سبحانه: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [البقرة: 212].
 
وتأمل قول الله في آية سورة الحديد التي افتتحنا بها المقال: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾، قال القرطبي: الكفار هنا الكافرون بالله عز وجل؛ لأنهم أشد إعجابًا بزينة الدنيا من المؤمنين، فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم، ومنهم يظهر ذلك، وهو التعظيم للدنيا وما فيها، وفي الموحِّدين مِن ذلك فروعٌ تحدث من شهواتهم، وتتقلل عندهم وتدق إذا ذكروا الآخرة؛ ((تفسير القرطبي)) (17/ 256).
 
فمن كان لا يريد إلا الدنيا، فهو في غفلة عما خُلِق من أجله، وقد حذَّر الله من ذلك، وذم من كان كذلك، وأمر المسلمين بالإعراض عنه، وحذر من الاغترار بالكفار الذين همهم الدنيا، فقال الله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16]، وقال سبحانه: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [النجم: 29]، وقال عز وجل: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196، 197].
 
فالجواب عن السؤال الذي هو موضوع هذا المقال:

المسلمون مأمورون أولًا بعبادة الله، والتنافس في طاعته، والاجتهاد في تعلم كتابه وسنة رسوله والعمل بهما، والحرص على إقامة الشريعة وتحكيمها، وليسوا مأمورين بمنافسة غيرهم على الدنيا الفانية، بل أمرهم الله بالتنافس والمسابقة في طاعته، ففي تحقيق الإيمان والعمل الصالح كل خير في الدنيا والآخرة، للشعوب والأفراد؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال سبحانه عن أهل الكتاب من قبلنا: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66].
 
ففي تقوى الله خير عظيم للشعوب والجماعات إن كانت التقوى حاصلة من غالب الناس كما في الآيات السابقة، وخير عظيم للأفراد إن كانت التقوى حاصلة من الأفراد عند فساد الناس؛ كما قال سبحانه: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97]، وقال عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3].
 
هذا، وإن من عبادة الله طلب الرزق الحلال، واستغلال الأرض بما ينفع العباد، والحرص على نفع الناس وقضاء حوائجهم، والتخفيف عنهم في جميع أمورهم، وقد جاءت نصوص كثيرة ترغب في كل ذلك؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]، وقال سبحانه: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة، فليغرسها))؛ رواه أحمد (12902) وصححه الألباني والأرنؤوط، وللتوسع في هذا ينظر كتاب الحث على التجارة والصناعة والعمل لأبي بكر الخلال، وكتاب مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور (3/ 466- 489).
 
فالإسلام جاء بصلاح الدين أولًا والدنيا ثانيًا، وجاء بما يسعد الإنسان في الآخرة الباقية والأولى الفانية، ومن أعظم أدعية القرآن الكريم: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، وكان من أدعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر))؛ رواه مسلم في صحيحه (2720) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
 
وكون الآخرة هي المقدَّمة عند المسلم على الدنيا لا يعني أن المسلم يترك جميع ملذات الدنيا، فقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]، وقال جل وعلا: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32]، فقد أباح الله للمسلم التمتع بالحلال.
 
ولا يعني الزهد في الدنيا ترك جمع الأموال من حلها لمن تيسَّر له ذلك، وإنفاقها في مرضاة الله، فكم في القرآن من آيات فيها الثناء على المنفقين أموالَهم في سبيل الله؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274]، وقال سبحانه: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37].
 
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ((نعم المال الصالح للمرء الصالح))؛ رواه أحمد في مسنده (17763)، وصححه الألباني.
 
وعن يسار بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ((لا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم)) رواه ابن ماجه (2141)، وصححه الألباني.
 
ووردت أحاديث كثيرة في الحث على الصدقة والسخاء، وأعظم من يقوم بهذا أهل السعة والفضل من أغنياء المسلمين، ولذا كان كثير من علماء السلف وعبادهم يحثون الناس على جمع المال والتجارة فيه، وكانوا يوصون صاحب المال أن يترك العجز والكسل، وأن يحرِص على ما ينمي ماله لينفع نفسه وأهله والمسلمين، وكان السلف الصالح يعدون إصلاح المال وتنميته من المروءة، وفي كتاب إصلاح المال لابن أبي الدنيا نصوص كثيرة في الحث على طلب الرزق وإصلاح المال، وترك الكسل والبطالة.
 
والناظر في سيرة أغنياء السلف يجد أنهم كانوا يتوسعون في جمع المال بما يستطيعون من حله، مع زهدهم وورعهم، وكان قصدهم بجمع المال أن يتقربوا به إلى الله بإخراج زكاته، والتصدق منه في مختلف القربات، والجهاد به في سبيل الله، فكانوا ينفقون من أموالهم سرًّا وجهرًا، وليلًا ونهارًا، ولا يعني قولنا: إن المسلمين غير مطالبين شرعًا أن يكونوا أفضل من الكفار في أمور الدنيا ترك أي علم دنيوي أو اختراعٍ ينفع المسلمين في دينهم أو دنياهم، فالحكمة ضالة المسلم أنَّى وجدها فهو أحق بها، وقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق من خطة فارسية لم يكن يعلمها العرب، واستفاد الصحابة في وضع الدواوين بعد فتوح العراق والشام ومصر بما كان عند أهلها الكفار، ولم يحصل تعريب الدواوين إلا في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان كما ذكر ذلك المؤرخون، بل إن المسلمين في بعض فترات تاريخهم المشرق فاقوا كثيرًا من أمم الأرض في كثير من الأمور الدنيوية، وفي كتاب شمس العرب تسطع على الغرب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه تفصيل ذلك، فقد بينت الكاتبة في كتابها أثر الحضارة العربية في أوروبا في مختلف المجالات الدنيوية: الاقتصادية والطبية والفلكية والرياضية والميكانيكية والعمرانية، واللغوية، بل إن من المسلمين اليوم من يفوق كثيرًا من الكفار في كثير من المجالات الدنيوية كما هو معلوم.
 
فالإسلام يحث المسلمين على كل ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ففي الحديث الصحيح الذي يعتبر قانونًا ومنهجًا للمسلمين في جميع أمورهم أفرادًا وشعوبًا ودولًا: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجِز))، فالمسلم مأمور أن يحرص على ما ينفعه في دينه أولًا ودنياه ثانيًا، ومن ذلك أن يتزود من العلم في تخصُّصه، وأن يتقن عمله، وأن يحرص أن يكون قويًّا نافعًا للناس، بأي قوة تتيسر له؛ إما بقوة بدنه أو قوة ماله، أو قوة علمه، أو قوة اختراعاته وإبداعاته التي تنفع الناس، ففي الحديث: ((المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف))، وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في كل معروف يقدمه المسلم لغيره، فقال: ((كل معروف صدقة))، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((إماطة الأذى عن الطريق صدقة))، وقال: ((من نفَّس عن مؤمن كربة من كُرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة))، بل رغب النبي عليه الصلاة والسلام أيضًا في رحمة الحيوانات والرفق بها، فقال: ((في كل كبد رطبة أجر))، وكل هذه أحاديث صحيحة معروفة.
 
فالإسلام يرغب في كل ما ينفع الناس في حياتهم ومعايشهم وصحتهم؛ من أمور الطب، والبناء النافع، والصناعات المتنوعة، والعلوم المفيدة، وعلى المسلمين أن يحرصوا أن يكفوا أنفسهم في كل ما يحتاجون إليه في أمور دنياهم، وقد نص الفقهاء على أن تعلُّم الحرف والصناعات المهمة التي يحتاجها المسلمون، ولا ينتظم أمرهم إلا بحصولها من فروض الكفايات التي يجب على بعض المسلمين القيام بها، وإلا أثم جميعهم لتركهم تحصيلها مع القدرة على ذلك؛ ينظر: الموافقات للشاطبي (2/ 306)، التحبير شرح التحرير في أصول الفقه للمرداوي (2/ 875)، حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (1/ 236).
 
هذا وإن من عبادة الله وطاعته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان، والجهاد في سبيل الله لأهل الكفر والنفاق، فيجب على المسلمين أن يجتهدوا في إقامة دين الله مستعينين به، رافعين مزيلين بذلك ما قدَّر من السيئات، دافعين بذلك ما قد يخاف من آثار ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل، ويدفع به الجوع المستقبل؛ ينظر: العبودية لابن تيمية (ص: 61).
 
فأهم المهمات التي يجب على المسلمين إقامتها هو الدين، وبذلك وصى الله جميع الأمم؛ كما قال سبحانه: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [الشورى: 13 - 15].
 
فواجب على المسلمين جميعًا أن يعملوا بجميع الأسباب المشروعة لإقامة الدين ونشره والدفاع عن حرماته، وقد قرَّر العلماء أن القوة مطلب شرعي، فالإسلام دين القوة والعزة، وقوام الإسلام بكتابٍ يهدي، وسيفٍ ينصر، فليس كل الناس تنفعه الموعظة والحكمة، فمن الناس من لا يرتدع عن غيه إلا بالقوة والشدة؛ قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25].
 
ولذلك أمر الله المؤمنين بتحصيل القوة بجميع معانيها وأنواعها بقدر الاستطاعة، فقال سبحانه: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ [الأنفال: 60].
فالإسلام ينهى عن الضعف والمهانة، ويأمر بتحصيل جميع أسباب القوة المادية والمعنوية بقدر الإمكان، ولا عزة للمسلمين إلا بالإسلام، ومهما ابتغوا العزة في غيره أذلهم الله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]، وقال سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١