باب الظلم
مدة
قراءة المادة :
3 دقائق
.
باب الظلملو شئتُ أن أقول لقلتُ: إن الحياة سعيدة غامرة بالمسرات وعامرة بالرخاء، لا يلحقها شيء من القلق أو الشر، وكل ضربٍ من الحيوان في الكون من الإنسان إلى الوحوش والزواحف حتى الأسماك والطيور وغيرها مما لم ينكشف بعدُ - سالمٌ من الأذى والسوء؛ فالجو في الحياة هادئ، وبهدوئه تعيش كل نفس فيها ما شاء الله أن تعيش بلا خوف ولا تعب، ولكن الحقيقة غير ما أفصحْتُ!
فإن قصتها حقيقة مزعجة تنشق عنها الأرض، هي حقيقة تصغُر بجانبها حقائق أخرى، لو عرضتُها على عدد من الناس أو جُلِّهم أو جميعهم لاشمأزَّت قلوبهم، وتنكَّرت لها لا من حيث موضوعها ولا بما فيها من المضرات - ولكن لأنها حق، والحق أحيانًا مُرٌّ ثقيل لا يحب سماعه وفهمه أحد، فالحقيقة حينئذٍ قضية الظلم.
الظلم ليس كلمة تتردد على ألسنة الناس، ولا هو في السماء يطير من منزل إلى منزل، أو من بلد إلى بلد، أو يتغلغل في بعض دون بعض، أو يتكيف معه شعب دون شعب، وليس بابًا يُفتح بلا سبب، أو أمرًا يُستخَفُّ به أو يُستهجن - وإنما هو الظلم الذي يتجسم إذا فُقد الاقتصاد في العمل والفكر، ويأخذ موضعًا غير موضعه إذا ضاعت القيم الإنسانية بأسرها، ويُبَثُّ حتى ينفُذَ إلى القريحة إذا أعرض الإنسان عن المعنى الحقيقي لكلمة الإنسان.
ومن العجز أن يلبِسَ الرجل ثوب الظلم وليس على علم به؛ فيظلم ظلمًا ليس بعده تسامح، تسيطر عليه الصفات البهيمية، وتحرِّضه على ظلم تبرز آثاره على المظلوم وعلى المجتمع، رغم أنه على يقين من أن الظلم لا يصح عقلًا ولا شرعًا، ولكنه ما لفت نظره إليه، وإنما يلتفت إلى غير ما يرشده قلبه.
ولستُ أتوخَّى ذكر جميع صور الظلم وأنواعه هنا؛ فإن له صورًا كثيرة وأنواعًا لا تحصى، وإنما أنا أُفصِّل مضراته الممتدة إلى الأبد، عندما يصدر الظلم من الرجل أو المرأة مهما كبر سنهما، يصبح ظالمًا بشعًا في خُلُقِه دميمًا في سلوكه، تصغر نفسه عند من حوله، فتتضاءل لهم أعماله وأفكاره، لا يتأهل لشيء ولا يتخذه أحدٌ صديقًا ولا نديمًا، يبقى شقيًّا، ولا سبب لشقائه إلا أنه ظلم واستمر فيه حتى اتصل الظلم باسمه.
أما المظلوم المصاب البائس، فرحمة ربه معه، يستجيب الله لدعوته عليه حتى تُرفع الحجب دونه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ((اتَّقِ دعوةَ المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)).
وإن عفا المظلوم عن الظالم ظلمه، فقد ترك الظلمُ آثاره في خواطر كليهما، وربما لا يمكن محوها أبدًا، وأعظم من ذلك كله: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].