int(150) array(0) { }

أرشيف المقالات

صور من ذكاء الدعاة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
صور من ذكاء الدعاة
 
كثيرون هم الدُّعاة الذين استخدموا ذكاءهم في الدعوة إلى الله عز وجل، ومن هؤلاء:
الطفيل بن عمرو الدوسي:
كان الطفيل رجلًا شريفًا شاعرًا لبيبًا في قبيلة دوس، دخل مكة، فخوَّفَتْه قريش من التحدُّث إلى محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فوالله، ما زالوا بي حتى أجمعتُ ألَّا أسمع منه شيئًا، حتى حشوت في أُذُنَيَّ كُرْسُفًا (قُطْنًا)! فغدوتُ إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمتُ قريبًا منه، وقلتُ في نفسي: واثُكْلَ أُمِّياه! والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟! قال: فمكثتُ حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فتَبِعتُه حتى إذا دخل بيته دخلتُ عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددْت أُذُنيَّ بكُرْسُف؛ لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه فسمعت كلامًا حسنًا، فاعرِضْ عليَّ أمرك، فعرض عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فوالله ما سمعتُ قولًا قَطُّ أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه؛ فأسلمتُ، وشهدتُ شهادةَ الحق، وقلتُ: يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجعٌ إليهم، فداعيهم إلى الإسلام، فادْعُ الله لي أن يجعل لي آيةً، فقال: ((اللهُمَّ اجعل له آيةً))، قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنتُ بثنية تطلعني على الحاضر، وقع نور بين عينيَّ مثل المصباح، فقلت: اللهُمَّ في غير وجهي؛ إني أخشى أن يظنُّوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينَهم؛ قال: فتحوَّل، فوقع في رأس سوطي كالقنديل المعلَّق، حتى جئتهم، وأصبحتُ فيهم، فلما نزلتُ، أتاني أبي، فقلتُ: إليك عني يا أبَتِ، فلستَ مني ولستُ منك! قال: لِمَ يا بُنيَّ؟! قلت: قد أسلمتُ، وتابعْتُ دِينَ محمدٍ؛ قال: يا بُنيَّ فدِيني دِينُك، قال: فقلتُ: اذهب فاغتسل، وطهِّر ثيابَك، قال: فذهب فاغتسل، وطهَّر ثيابَه، ثم جاء فعرضْتُ عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتني صاحبتي، فقلتُ لها مثلما قُلْتُ لأبي، فقالت: فدِيني دِينُكَ، قال: قلت: فاذهبي فاغتسلي، ففعلت، ثم جاءتْ، فعرضتُ عليها الإسلام فأسلمَتْ، ثم دعوتُ دوسًا إلى الإسلام فأبطئوا عليَّ، فجئتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسول الله، إنه قد غلبني على دوس الزِّنا، فادع الله عليهم، فقال: ((اللهُمَّ اهْدِ دوسًا!))..
ثم قال: ((ارجع إلى قومك فادْعُهم إلى الله، وارفُقْ بهم)) فرجعت إليهم، فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس، ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين[1].
 
فانظر نتيجة التأنِّي والصبر في الدعوة إلى الله والإخلاص في ذلك، لقد أسلم قومه جميعًا؛ لأن الله تعالى وفَّقَه إلى حسن الدعوة والذكاء فيها، مع الصبر والتأني وعدم تعجُّل الثمرة، فإن الدعوة إلى الله عز وجل كالغرس الطيب الذي لا ينبت بين عشية وضحاها، وإنما لا بُدَّ من الصبر والرعاية وبذل الجهد وقوة التحمُّل، حتى يترعرع الغرس زاهيًا طيبًا.
 
أبو هريرة:
وها هو أبو هريرة يستخدم ذكاءه لإغراء الناس بطلب العلم..
لقد مَرَّ بسوق المدينة فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم؟! قالوا: وما ذاك؟ قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقسَّم وأنتم ها هنا؟! ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعًا؛ ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا؛ فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد ودخلنا فيه فلم نَرَ شيئًا يُقسَّم! فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم فى المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم[2].
 
لقد استخدم المزج والمقارنة بين الميراث المادي الزائل وبين الميراث النبوي الباقي، ليُقرِّر في نفوسهم أن الميراث الحق هو العِلْم.
 
الداعية المؤذن:
وهذا داعية ابتكر طريقةً ذكيةً لمقاومة المنكر وكان ذلك فى عهد المعتضد بالله العباسي؛ فقد ذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عبدالواحد الهاشمي عن شيخ من التجار، قال: كان لي على بعض الأمراء مالٌ كثيرٌ، فماطلني ومنعني حقي، وآذاني، فاشتكيته إلى أولياء الأمر في الدولة، فلم يقطعوا منه شيئًا! فبينما أنا حائر إلى مَن أَشتكِي، إذ قال لي رجل: ألا تأتي فلانًا الخياط – إمام مسجد هناك -؟ فقلت: وما عسى أن يصنع مع هذا الظالم؟! فقال لي: هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيتَ إليه! قال: فقصدته غير محتفل في أمره، فذكرت له حاجتي ومالي، فقام معي، فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه؛ فقال له: ادفع إلى هذا الرجل حقَّه وإلا أَذَّنْتُ!..
فتغيَّر لون الأمير ودفع إليَّ حقي! فلما انصرفنا من عند هذا الأمير، ألححْتُ على هذا الإمام أن يخبرني عن سبب خوف الأمير منه، قال: إن سبب ذلك أنه كان في جوارنا أمير تركي، فمرَّت به امرأة حسناء، فقام إليها وهو سكران فتعلَّق بها يريدها على نفسها وهي تصيح: "يا مسلمين، أنا امرأة ذات زوج..أدركوني!"..
فأردتُ خلاص المرأة من يديه، فضربني بدبوس فشجَّ رأسي! وأدخل المرأة منزله قهرًا! فلما صليتُ بالناس العشاء، قلت لهم: قوموا معي إليه لنُخلِّص المرأة؛ فقام الناس معي، فهجمنا عليه داره، فثار إلينا جماعة من غلمانه بأيديهم العصيُّ والدبابيس يضربون الناس، وأخرجونا ونحن في غاية الإهانة، فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي الطريق من شدة الوجع، وكثرة الدماء، فنمت على فراشي فلم يأخذني نوم، وتحيَّرْتُ ماذا أصنع حتى أنقذَ المرأة من يده، فأُلْهِمْتُ أن أُؤذِّن الصبح في أثناء الليل؛ لكى يظن أن الصبح قد طلع فيُخرجها، فصعدت المنارة وأذَّنْتُ! فبينما أنا في الأذان، إذ امتلأت الطريق فرسانًا ورجَّالة، فأخذوني إلى أمير المؤمنين، فارتعدت من الخوف؛ فقال: لِيسْكُنْ روعُك، ولْيهدأْ قلبُك؛ قل لي: ما حمَلَك على أن أذَّنْتَ هذه الساعة، وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه؟! فذكرتُ له القصة؛ فغضب غضبًا شديدًا، وأمر بإحضار ذلك الأمير والمرأة من ساعته على أي حالة كانا، فأُحضِرا سريعًا، فبعث بالمرأة إلى زوجها، وأمر زوجها بالصفح والعفو عنها فإنها مكرهة ومعذورة، ثم أقبل على ذلك الشاب الأمير فجعل فى رِجْله قيْدًا، وفي عنقه غلًّا، فَضُرِب بالدبابيس، ثم أُلقي في نهر دجلة، ثم قال لي أمير المؤمنين: كلما رأيتَ منكرًا صغيرًا كان أو كبيرًا فأَعْلِمني، فإن اتفق اجتماعك بي وإلا فبيني وبينك الأذان، فأذِّنْ في أي وقت كان، أعرفْ بذلك أنك تقاوم منكرًا[3].
 
فانظر إلى ذكاء هذا الداعية وحسن تصرُّفه وابتكاره في أسلوب دعوته، وأسلوب مقاومته المنكر؛ هذا التجديد والابتكار في أسلوب الدعوة هو ما نرجو أن يتحلَّى به دُعاةُ هذا العصر.




[1] زاد المعاد لابن القيم، ج3، ص546-547.


[2] المعجم الكبير للطبراني 19/164.


[3] البداية والنهاية لابن كثير، ج11، ص89-91 بتصرُّف اختصار.

شارك المقال