الدعوة بقدر حال الداعي وقدرته
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
الدعوة بقدر حال الداعي وقدرتهبعد أن تقرَّر أن الدعوةَ فرض عين على كلِّ مسلم ومسلمة، وأنها ينبغي أن تكونَ هي الشغل الشاغل، والهم الأهم في حياة المسلمين، فإن هذا الواجبَ - واجب الدعوة - يتحدد بقدْرِ حال الداعي وقدرته؛ لأن القدرة هي مناطُ الوجوب، فمن لا يقدِر لا يجب عليه، ومن يقدِر فالوجوب عليه بقدرِ قدرته.
ويدخلُ في مفهوم القدرة: العِلم والسلطان؛ فيجب على العالم ما لا يجب على الجاهل، ويجب على ذي السلطان ما لا يجب على غيرِه من آحاد الناس؛ ولهذا فإن اللهَ تعالى حذَّر أهل العلم من كتمانِه، كما أمَرهم أن يبيِّنوه للناس واضحًا جليًّا لا لَبْسَ فيه، ولا يجعلوا الحقَّ مجزأً، يتكلَّمون في أجزاء، ويُخفون أخرى.
فقد ورَد في باب التحذير من كتمان العِلم قولُه تعالى:
• ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].
• ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159، 160].
• ويقولُ سبحانه في ذمِّ اليهود وأمثالهم - لأنهم يكتمون أشياءَ ويُبدون أشياء -: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91].
ومن هنا، فإن مسؤوليةَ العالِم أن يطرحَ قضايا الإسلام كاملةً أمام الناس مع ترتيب الأولويات؛ فليكن البدءُ بالأهم، وهو توحيد الله - عز وجل - وترسيخ الإيمانِ بالله في القلوب، ثم عرض تكاليف الإسلام حسب أهميتِها ودرجاتها في سُلَّم الإيمانِ وشُعَبه، ولا شكَّ أن اتِّباع هديِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الدعوةِ لهو الطريقُ الوحيد الذي يجب أن يسلكَه الداعي، كما أن الاهتداءَ بمنهج القرآن حسَب ترتيب النزول يُثمِر أفضلَ النتائج؛ حيث إنه منهج تربوي رباني، تربَّى عليه وتعلَّم الصحابةُ الكرام رضي الله عنهم، حتى كانوا عبادًا ربَّانيين استحقُّوا نصرَ الله وتأييدَه.
وأما النوعُ الثاني من القدرة، فهو السلطانُ والتمكين[1]؛قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]، وليست القدرة مقصورةً على السلطان وحده؛ فالأبُ له سلطان على أولاده، يأمُرُهم وينهاهم، ولا يمَلُّ ولا يَكِلُّ؛ قال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132]، وكذا الزَّوج له سلطانٌ على زوجته يأمُرُها وينهاها، وهو مسؤول عن إنقاذِ نفسِه وزوجِه وعياله من النار؛ كما قال - عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ [التحريم: 6].
هذا، وكلُّ مسلم له نصيب من العلم والقدرة، عليه أن يدعوَ بقدرِ ما آتاه الله من علمٍ وقدرة؛ يقول صاحبُ كتاب أصول الدعوة: (وكل مَن عرَف شيئًا من معاني الإسلام، فهو عالِمٌ بهذا الشيءِ، وعليه تبليغُه إلى مَن يجهَلُه، فليس العِلم شيئًا واحدًا لا يتجزَّأُ ولا يتبعَّض، وإنما هو قابل للتجزئة، وكل مسلم يعلم أنه لا إله إلا اللهُ وأن محمدًا رسولُ الله، وأن الحساب حقٌّ، وأن القرآنَ كلام الله حق، وأن محمدًا رسول الله، وأن الصلاةَ والصيام والحج والزكاة مِن فرائض الإسلام، وأن على كلِّ مسلم أن يسعى لإقامةِ شرعِ الله في الأرض، وإعلاء كلمةِ الله فوق كلِّ كلمة - فعليه أن يُبلِّغَ ما علِمه، أما ما يجهَلُه، فلا يُكلَّف بتبليغه، ولا تعليمِه؛ لأنه يجهَلُه، وفاقد الشيءِ لا يُعطيه)[2].
إن دراسةَ المراحلِ التي مرَّت بها الدعوةُ في فَجْرِها الأول، تُمكِّنُ الداعيَ من توصيف المرحلةِ التي يعيشها، كما أن فِقهَ الدِّين والواقع هو الضابطُ لحركةِ الدعوة، ومن ثَمَّ تتحدَّد الأهداف!
مما سبق يتضح ما يلي:
1- أن هدفَ الدعوة الأساس هو إقامةُ الدين:
وهو إقامة الدِّين إقامةً كاملة مستمرة، بجعلِه محقَّقًا واقعًا منظِّمًا لحياةِ الفردِ والمجتمع، وبذلك تتحقَّقُ البصيرة في الهدف.
2- أن إقامةَ الدِّين تبدأ بالفرد وبالنَّفس بمجاهدتِها على تعلُّم الدين، وأساسُ الدين توحيدُ الله عز وجل، والمراد توحيدُ الألوهية (العبودية)، وهو ما جاءت به الرسلُ، ونزَلت به الكتبُ؛ ذلك لأن توحيدَ الربوبية أقرَّ به إبليس ومشركو مكةَ؛ قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [لقمان: 25].
ثم إذا استقر التوحيدُ، يكون الإعلامُ بتكاليف الإسلامِ من صلاة، وصيام، وصدقة، وحج، وجهاد، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وهو العملُ بتلك الأوامرِ ليقامَ الدِّين في النفس أولاً، ثم الدعوة إليه لإقامته في الناس بالرِّفْقِ واللِّين، وتحمُّل أذى الرافضين والمُعاندين، والصبر على ذلك، وبهذا تكونُ قد تحقَّقتِ البصيرةُ في الوسائل والأساليب.
3- إذا أُقيم الدِّين كاملاً، فإن العملَ على صيانتِه وحمايته من وقوعِ الخَلَل أو النقص هو واجبُ المرحلة، حسَب قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]؛ يقول الإمام الطبريُّ: (ويعني بقوله: ﴿ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الحج: 41]: إنْ وطَّنَّا لهم في البلاد، فقهروا المشركين وغلَبوهم عليها، وهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول: إن نصَرْناهم على أعدائِهم، وقهَروا مشركي مكَّةَ، أطاعوا الله، فأقاموا الصلاةَ بحدودِها، ﴿ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ [الحج: 41]: يقول: وأعطَوْا زكاةَ أموالهم مَن جعلها اللهُ له)[3].
ومن هنا، فإن أمامنا هدفين؛ الأول: العمل على إقامةِ الدِّين (الاستخلاف في الأرض)؛ وذلك يكونُ بالإيمانِ بالله عز وجل، وتحقيق التوحيد، ثم العمل الصالح الذي يبدأُ بإصلاح النفس، ثم الآخرين، والصبر وتحمُّل الأذى؛ حتى يكون المعبود الأوحد بحق هو الله عز وجل، وهو ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55]، وفى الآيةِ الكريمة شروطُ التمكين، وعوامل النصر التي لا بد من توافرِها في الفئة المنصورة.
الثاني: العمل على حِفظ كيان المجتمع الإسلامي القائم؛ وذلك بإعمالِ وإحياء فريضةِ الأمر بالمعروف والنهيِ عن المُنكَر، والنصح لكل مسلم؛ حاكمين ومحكومين، وهو ما جاء في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]، ولا بد مِن وضوح الرؤية وتحديد الهدف لضبطِ لغةِ الخطاب؛ هل هو خطاب مجتمع إسلامي مقام يراد صيانتُه والمحافظة على طابعِه وكيانه، أم هو مجتمع إسلامي يراد إقامةُ كيانه وبناءُ أركانه؟ ومن ثم يكون الوضوح في تحديدِ نقطة البدء؟ بمَ وبمن؟
بمَ وبمن يكون البدء؟
سبَق أن أشرتُ إلى أن البَدْءَ يكونُ من الداخل؛ أي: النفس؛ فتغيير النفوسِ وإصلاحُها هو البداية الصحيحة حسب سنَّة الله تعالى في الرقي أو الانحطاط، فإذا كانت أمةٌ في انحطاط وضَعف وذلة، فإنها لن ترى العزَّ والرقي إلا إذا بدأ أفرادُها بتغييرِ ما بداخلهم إلى العقيدةِ السليمةِ والأخلاق الفاضلة؛ لذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وأهمُّ ما يجب شيوعُه بين أفراد الأمة: الحب، وأعلى درجاته وأنقاها: الحبُّ في الله؛ أي الذي ينطلق من عقيدةٍ راسخة صافية، وإذا كانت أمةٌ في رقي وعزة، فإنها تنْهارُ بانهيار الأخلاق، وتسقطُ بكُفران النِّعم التي أنعم الله بها عليها؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53].
وقال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]، فشُكر النِّعم وتصريفُها في الخير وفي النَّفع العام للبشر كلِّ البشر: طريقُ الرُّقي، ودوامُه منوطٌ بالمحافظة على أسبابه ومقدماته، وكفران النِّعم وتصريفُها فيما لم تُخلَق من أجله، مع أخلاقِ الأنانية والاستكبار في الأرض بغير الحق: طريقُ الانحطاط، وسبيلُ السقوط، وتلك سُنَن اللهِ في الأرض وفي الخَلْق!
وبعد إصلاح النفس يكون إصلاح الغير، وأهمهم وأَوْلاهم: المقرَّبون؛ أي: الأقرب فالأقرب؛ أي الأهل والعشيرة والجيران، ويكون البَدْءُ قبل دعوتهم بالتودُّدِ إليهم؛ فالتودُّد إلى الناس دعوة، فمن أحَبَّك أطاعك؛ (فإن المحبَّ لمن يحبُّ مطيع)، وأنت طائعٌ لِمَن أحببت؛ فبعد تحقيق العبودية في النفس يكونُ الإحسان إلى الأقربين بدعوتهم إلى الخير؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: 36]، وأعظمُ إحسان يقدِّمه إنسان لإنسان أن يدعوَه إلى عبادة الله - عز وجل - وشكرِه وشكرِ نِعمه ومِنَنه، وتلك هي الحكمة في أخصِّ وأنقى معانيها؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12]، وهي الآيةُ الوحيدة في القرآن التي جاء فيها ذِكر الحِكمة مطلقة منفردة، وفيها تفسيرُ الحكمة، وهي شُكر الله - عز وجل - والدعوة إلى توحيده، وعدمُ الشِّرك به، بدليل: (أن) في الآية، وهي: (أن المُفسِّرة)؛ أي: إن الحِكمة شُكر الله، والدعوة إلى شكره، وكان البدءُ بالابن، وهو الأقربُ والامتدادُ الطبيعي والأوحدُ للإنسان؛ حيث جاء بعد الآية السابقة قولُه تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
وتبيَّن من ذلك أن البَدْء يكونُ بالأقرب فالأقرب؛ ولهذا نجدُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا أولَ مَن دعا زوجتَه خديجة رضي الله عنها، ثم صديقَه المقرَّب أبا بكر رضي الله عنه، ثم قال الله تعالى له: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، وهكذا الدعوةُ تنطلقُ من الداخلِ إلى الخارج؛ يقول الإمامُ الرازي: (الآية السابقة حيث قال: ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 213]، ثم أمَره بدعوة الأقرب فالأقرب؛ وذلك أنه إذا تشدَّد على نفسه أولاً، ثم بالأقرب فالأقرب ثانيًا، لم يكُنْ لأحدٍ فيه طعنٌ ألبتةَ، وكان قولُه أنفعَ، وكلامُه أنجحَ...)[4].
بَيْدَ أن الداعيَ يحتاج إلى مَن يسانده ويؤازره، فإذا آمَنَت عشيرتُه، كانت سندًا له وظهرًا يحميه ويمنَعُه من أعداءِ الدعوة المتربِّصين به، أما إذا كذَّبَتْه عشيرتُه ولم يجد له ظهرًا ولا سندًا، فيبحث عن أنصار ينصُرونه ويمنَعونه من خارج وطنِه وعشيرته، وله أن يتركَ أرضه وداره إذا كان أهلُها ظالمين قاهرين لأصحاب الدعوة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرِضُ الإسلامَ على قبائل العرب الوافدين إلى مكةَ في المواسم والأسواق؛ قال ابن إسحاق: (وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس، قال: سمعتُ ربيعة بن عباد، يحدِّثه أبي، قال: إني لغلامٌ شاب مع أبي بمنًى، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقفُ على منازلِ قبائل من العرب، فيقول: ((يا بَني فلان، إني رسولُ الله إليكم، يأمُرُكم أن تعبدوا اللهَ ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تخلَعوا ما تعبدونَ من دونِه من هذه الأنداد، وأن تؤمِنوا بي وتمنَعوني وتُصدِّقوا بي؛ حتى أبيِّنَ عن الله ما بعثني به))، قال: وخَلْفَه رجلٌ أحولُ وضيءٌ له غديرتانِ - ذؤابتان من شعر - عليه حُلَّة عدنيَّة، فإذا فرغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من قولِه وما دعا إليه، قال ذاك الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم أن تسلَخوا اللاتَ والعُزَّى من أعناقِكم إلى ما جاء به من البِدعةِ والضلالة؛ فلا تُطيعوه ولا تسمَعوا منه، قال: فقلتُ لأبي: يا أبتِ، مَن هذا الذي يتبعه ويرُدُّ عليه ما يقول؟ قال: هذا عمُّه أبو لهبٍ، قال ابن إسحاق: فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك مِن أمرِه، كلما اجتَمَع له الناسُ بالمَوسم، أتاهم يدعو القبائلَ إلى الله، وإلى الإسلام، ويعرِضُ عليهم نفسَه، وما جاء به من الهُدى والرَّحمة، وهو لا يسمَعُ بقادمٍ يقدَمُ من مكةَ مِن العرب، له اسمٌ وشرَف، إلا تصدَّى له، فدعاه إلى اللهِ، وعرَض عليه ما عنده)[5]، وظل هكذا عليه الصلاةُ والسلام حتى بايَعه الأنصارُ، وهاجَر إلى المدينة هو وأصحابُه فَارِّين بدِينهم، تاركين أرضَهم وديارَهم من أجلِ عقيدتِهم.
أما إذا لم يجدِ الداعي أرضًا يُهاجِر إليها ويأمَنُ فيها على نفسِه ودِينه، ولا أنصارًا ينصرونَه ويُؤازِرونه، فعليه أن يدعوَ ويصبِرَ، (يدعو الله عز وجل، ويدعو إلى اللهِ تعالى ويصبِرُ)!
من كتاب: "البصيرة في الدعوة إلى الله"
[1] أصول الدعوة؛ د.
عبدالكريم زيدان، ص 319.
[2] المرجع السابق ص 319.
[3] تفسير الطبري، جزء 17، ص 126.
[4] مفاتيح الغيب، جزء 12، ص 175، دار الفكر العربي.
[5] السيرة النبوية؛ ابن هشام، جزء 2، ص 24، 26.