int(148) array(0) { }

أرشيف المقالات

أهمية الرجوع إلى الأصول القديمة في كل علم

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
أهمية الرجوع إلى الأصول القديمة في كل علم
 
على طالب العلم والباحث أن يحرص على الرجوع إلى الكتب القديمة في كل علم؛ لأنه قد يحصل سوء فهم أو تصحيف في الكتب التي تنقل من الكتب القديمة، وهذه بعض الأمثلة التي تُبيِّن أهمية الرجوع إلى المصادر القديمة:
1- قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (ت سنة 852هـ): "علي بن يقطين، قتله الهادي على الزندقة سنة تسع وستين ومئة، ذكره ابن الجوزي في المنتظم" لسان الميزان (6/ 39)، وذكر نحوه الحافظ الذهبي رحمه الله (ت سنة 748هـ) في كتابه تاريخ الإسلام (4/ 282).
 
وسبب الخطأ أن ابن الجوزي رحمه الله (ت سنة 597هـ) فهِم كلام ابن جرير الطبري (ت سنة 310هـ) فهمًا خاطئًا، فقد قال ابن جرير رحمه الله في تاريخه (8/ 190): "في هذه السنة اشتدَّ طلب موسى [يعني: الخليفة العباسي الهادي] الزنادقة، فقتل منهم فيها جماعة، فكان ممن قتل منهم يزدان بن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بن يقطين من أهل النهروان، ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون، فقال: ما أشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر!".
 
فشيخ المؤرخين ابن جرير يقصد أن يزدان بن باذان كان كاتب يقطين، وكان أيضًا كاتب ابنه علي بن يقطين، وأنه من أهل النهروان، وهو الزنديق الذي شبه الحجاج بما شبههم به، ففهم ابن الجوزي أن يزدان وعلي بن يقطين كلاهما زنديق، وأن علي بن يقطين هو الذي قال ما قال عن الحجاج، قال ابن الجوزي في كتابه المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (8/ 309): "اشتدَّ طلب موسى للزنادقة، فقتل منهم جماعة، فكان فيمن قتل منهم كاتب يقطين وابنه علي بن يقطين، وكان علي قد حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون فقال: ما أشبههم ببقر يدوس في البيدر!".
 
والصواب أن علي بن يقطين لم يكن زنديقًا، وقد عاش إلى خلافة هارون الرشيد، وكان له مكانة عالية عند الخلفاء العباسيين، ومات سنة 182 هجرية في نفس اليوم الذي مات فيه القاضي أبو يوسف والشاعر مروان بن أبي حفصة كما ذكر ذلك الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي رحمه الله (ت سنة 277هـ) في كتابه المعرفة والتاريخ (1/ 173).
 
2- قال القرطبي رحمه الله (ت سنة 671هـ) في تفسيره (14/ 7) ما نصه: "وأنكره النحاس ورده، وقال الفرَّاء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة، الغلط فيها بَيِّن، منها أنه زعم أنه يجوز..." إلخ كلامه.
 
قلت: حاشا الفرَّاء أن يقول هذا، وحاشا القرطبي أن يكتب هذا، وهذا أقبح خطأ مطبعي أو تصحيف مرَّ بي، وأصل الكلام نقله القرطبي من كتاب إعراب القرآن للنحاس، قال النحاس رحمه الله (ت سنة 338هـ) في كتابه إعراب القرآن (3/ 179): "وللفرَّاء في هذا الفصل من كتابه في القرآن أشياء كثيرة، الغلط فيها بَيِّن"؛ ويُنظر: معاني القرآن للفرَّاء (2/ 319، 320).
 
3- قال القرطبي في تفسيره (7/ 288): "العجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، وهي مذمومة.
والسرعة: عمل الشيء في أول أوقاته، وهي محمودة"، والصواب ما قاله مكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ) في كتابه (الهداية إلى بلوغ النهاية) (4/ 2566): "العجلة: التقدُّم بالشيء قبل وقته، والسرعة: عمله في أقل أوقاته".
وكذلك ذكره على الصواب الماوردي (ت: 450هـ) في تفسيره النكت والعيون (2/ 263).
 
4- قال محيي السنة البغوي رحمه الله (ت سنة 510هـ) في تفسيره (2/ 335): (وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن، وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة، فكفاهم الله ما كانوا يخافون"، وقال الفخر الرازي رحمه الله (ت سنة 606هـ) في التفسير الكبير (16/ 23): "قال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين، وحملوا الطعام إلى مكة، وكفاهم الله الحاجة إلى مبايعة الكُفَّار"، وبالرجوع إلى تفسير مقاتل بن سليمان (ت سنة 150هـ) نجد أن البغوي وقع له تصحيف واحد، وأن الرازي وقع له تصحيفان، فنص عبارة مقاتل بن سليمان في تفسيره (2/ 166): "فأسلم أهل نجد، وجرش، وأهل صنعاء، فحملوا الطعام إلى مكة".
 
5- قال الواحدي رحمه الله (ت سنة 468هـ) في التفسير البسيط (10/ 384): "قوله تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ﴾ [التوبة: 31] قال أبو عبيد: الأحبار: الفقهاء"، قال محقق التفسير البسيط: "يغلب على الظن أنه وَهْم من المؤلف، فإن عبارة أبي عبيد في غريب الحديث نصها: (وأما الحبر من قول الله تعالى: ﴿ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ﴾ [التوبة: 34]، فإن الفقهاء يختلفون فيه؛ فبعضهم يقول: حَبر، وبعضهم يقول: حِبر، وقال الفرَّاء: إنما هو حبر، يقال للعالم ذلك)، فلعل المؤلف نظر نظرة عجلى إلى هذا النص وحسب أن كلمة (الفقهاء) فيه تفسير للأحبار، لا سيَّما أنه موطن اشتباه، والله أعلم"، ويُنظَر: (غريب الحديث) (1/ 87) لأبي عُبيد القاسم بن سلام (ت سنة 224هـ).
 
6- قال العلَّامة أبو حيان الأندلسي رحمه الله (ت سنة 745هـ) في تفسيره البحر المحيط (5/ 440): "قال ابن جبير: لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء مُتعفِّفين فخيرتهم بها كان أحب إلي".
 
في هذا النص تصحيفان كما يتبيَّن من الرجوع إلى تفسير ابن جرير (11/ 532) ففيه: "عن عطاء: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ﴾ [التوبة: 60] الآية، قال: لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك، ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعفِّفين فجبرتهم بها كان أحب إليَّ"، ففي البحر المحيط: ابن جبير، والصواب: عطاء، وفيه: فخيرتهم، والصواب: فجبرتهم.
 
7- قال الحافظ ابن كثير الدمشقي رحمه الله (ت سنة 774هـ) في تفسيره (4/ 410): "عن محارب بن دثار قال: كان عمر رضي الله عنه يأتي المسجد فيسمع إنسانًا يقول: اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السحر فاغفر لي"، والصواب ما في تفسير ابن جرير الطبري (13/ 347): "عن محارب بن دثار، قال: كان عَمٌّ لي يأتي المسجد، فسمع إنسانًا يقول: اللهُمَّ دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي"، ورواه على الصواب أيضًا الضبي رحمه الله (ت سنة 195هـ) في كتاب الدعاء (ص: 215), وسعيد بن منصور رحمه الله (ت سنة 227هـ) في تفسيره (5/ 410)، وابن أبي الدنيا (ت سنة 281هـ) في كتاب التهجد وقيام الليل (ص: 356).
 
8- روى الحافظ الكبير ابن حبان رحمه الله (ت سنة 354هـ) في صحيحه (647) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، وإن أولى الناس بي المتقون من كانوا، حيث كانوا، اللهم إني لا أحل لهم فساد ما أصلحت، وايم الله ليكفؤون أمتي عن دينها كما يكفأ الإناء في البطحاء)).
 
رواية ابن حبان حصل فيها تصحيف من بعض النُّسَّاخ، أو من بعض الرُّواة، فالحديث موجود في كتاب السُّنَّة لابن أبي عاصم (212) وفي المعجم الكبير للطبراني (241) وفي كتاب مسند الشاميين للطبراني (991) على الصواب بلفظ: ((لتكفأ أمتي على دينها)) أو ((لتكفأن أمتي عن دينها))؛ أي: إن الأمة هي التي ستترك دينها كما يسكب الإنسان إناء الماء في البطحاء، وهذا المعنى صحيح، وليس فيه الإشكال الذي في رواية ابن حبان، فرواية ابن حبان ظاهرها أن أهل البيت هم الذين يصرفون الأمة عن دينها، وهذا المعنى باطل، ويخالفه أدلة الشرع والواقع، فأهل البيت فيهم الكثير من أئمة الدين والعلم والعبادة والدعوة؛ كعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن عباس، والحسن والحسين، ومحمد ابن الحنفية، وعلي بن الحسين، ومحمد الباقر، وزيد بن علي، وجعفر الصادق وغيرهم، وفي كل زمان منهم علماء وفقهاء في جميع المذاهب الإسلامية، نعم ومنهم ظالم لنفسه مبين كما قال الله عن ذرية إبراهيم وإسحاق: ﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [الصافات: 113]، ويدل دلالة قاطعة على حصول التصحيف في رواية ابن حبان أنه رواه عن شيخه أبي يعلى الموصلي أحمد بن علي بن المثنى، وقد رواه أبو يعلى على الصواب كما في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري (3006)، والله الموفِّق وحده.
 
والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

شارك المقال