int(1462) array(0) { }

أرشيف المقالات

البدء بالأولويات والمهمات في عرض الدعوة

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
من الأمور المهمة التي يجب أن يعيها الدعاة
البدء بالأولويات والمهمات
والتمييز بين التدرج في الدعوة والتدرج في التشريع

البدء بالأولويات والمهمات في عرض الدعوة:
وذلك بأن يبدأ الداعية بتقديم الأهم والأولى في العرض على غيره، فذلك أدعى لحدوث الأثر المرجو، ولقبول المدعوين للحق، وذلك يستلزم أن يجزئ الدعوة للناس، فلا يقدمها لهم جملة واحدة فتثقل عليهم[1]، بل يعرض أساس الدين، وهو عقيدة التوحيد، وإثبات الرسالة (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله)، ثم يأتي على ما يليها من التعاليم من أمور العقيدة والشريعة والسلوك، وهذا يقتضي تفهم الداعية لشمولية الدعوة الإسلامية، ليعرف وليقدر تماما بماذا يبدأ في دعوته، كما يقتضي تفهمه لطبيعة الناس وعقائدهم، فيبدأ في تقديم ما يمس قلوبهم، ويرهف أسماعهم لدعوته.
 
وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ بعد ظهوره على أهل مكة، بإزالة الأوثان والأرباب الزائفة التي صنعها المشركون حول الكعبة، لتزول الأوهام من قلوب قريش وعقولها، ثم بعد ذلك أعلن أولا عقيدة التوحيد، ثم تلا ذلك ذكر بعض التشريعات الإسلامية.
 
ومما يدل على أهمية البدء بالأوليات في أمور الدين، ما حدث مع وفد قوم عمرو بن سلمة رضي الله عنه مؤمنين، قد أسلموا لله وآمنوا برسوله، بدأهم بالأهم، فعادوا إلى قومهم، وقد زاد يقينهم بالإسلام، وهم يحملون معهم من الشرائع عماد الدين: (الصلاة)، فقال أبو عمرو لهم: (جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقا، فقال: ((صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا))[2].
 
كذلك بدأ بأساسيات الدين لمن جاء يبايعه على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد))[3]، فإذا أسلم لله واتبع رسوله، والتزم شرائع الإسلام قوي إيمانه، فانطلق مجاهدا في سبيل الله، فينال بذلك أجر الهجرة بسبب نيته الصادقة.
 
فعلى الداعية ترتيب الأمور التي ينبغي البدء بها تبعا لأهميتها، ولمناسبتها للظرف الواقع وقت عرض الدعوة، ووضع المسائل في موضعها الصحيح، الذي تقتضيه الحكمة النابعة من التقيد بالكتاب والسنة، فلا يضخم القضايا الفرعية، ويغفل في ذات الوقت عن القضايا الأساسية، أو يقدم المهم على الأهم، أو يدعو إلى المندوب قبل الواجب، فيسبب بذلك تزاحم المصالح أو تعارضها، وهذا يحتاج إلى نظرة عميقة متكاملة للأمور، فيتمكن من وضع كل شيء في موضعه المناسب، وعرض كل قضية في وقتها الملائم[4].
 
التمييز بين التدرج في الدعوة والتدرج في التشريع:
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشريعة السمحة الموافقة للطبيعة البشرية، المراعية للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومن مظاهر سماحة الإسلام، التدرج في كثير مما شرع لهم، سواء فيما فرض عليهم، أم فيما نهاهم عنه، أو في تبليغهم الدعوة، فكانت الدعوة الإسلامية تنتقل بالناس من مرحلة إلى مرحلة أخرى متقدمة في الدين، حتى تستقر في قلوبهم، وتستجيب نفوسهم، للبلوغ إلى الغاية المنشودة، حتى اكتمل الدين[5]، وتمت الحجة.
 
ومن المفاهيم المهمة التي على الدعاة وعيها، التمييز بين التدرج في الدعوة إلى الله، وبين التدرج في أمور الشريعة، لأن الأول مجال للاجتهاد، ما دام ضمن طرق مشروعة، أما الثاني فقد استقرت الأحكام وكمل الدين، ومصلحة الدعوة الحقيقية، في استقامتها على المنهج الذي تركه لها الرسول صلى الله عليه وسلم دون انحراف[6]، وفي تبليغ أحكام الله التي شرعها.
 
وهذا المفهوم يدور حول محورين:
المحور الأول: فقه حكمة التدرج في أحكام الدين، في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى لم يشأ أن ينزل التشريع جملة واحدة، بل (كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا، ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة)[7]، وخاصة في القضايا التي ضربت جذورها في أعماق النفوس، وكانت من أعراف الجاهلية، كشرب الخمر والزنا والتعامل بالربا، فهذه أمور أدمن الناس عليها، ولا سبيل للانفكاك عنها في لحظة عابرة، وفي خطوة واحدة، بل عالجها بتأن وتمهل.
 
وقد عبرت أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما عن ذلك أحسن تعبير، فقالت: (إنما أُنزل أول ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا لا ندع الزنا أبدا..)[8]، وذلك لتخلص القلوب لله أولا، وتعلن عبوديتها لجلاله وحده، وتقبل عن حب ورغبة شرعه تعالى، وتنكر كل سلطان بشري يريد أن يفتنهم عن هذا الصراط المستقيم[9].
 
وفي فتح مكة لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم التدرج فيما يتعلق بالعقيدة، فهي أول قضية تصدى لها الإسلام منذ بدء الرسالة بكلمة التوحيد، فأزال معالم الشرك، وأعلن وحدانية الله تعالى، وتطبيق حكمه وشرعه.
 
كما أنه لم يتدرج مع أهل مكة في إنكار الأمور المحرمة، كالسرقة، فأقام الحد على السارق، وكالقتل بأن شرع الدية والقصاص، وكتحريم بيع الخمر والخنزير والأصنام.
 
المحور الثاني: التدرج في أسلوب الدعوة، وكيفية تبليغها وعرض الأولويات المهمة فيها، وذلك بتقديم ما هو أصل على ما هو فرع، والتدرج في الأمر من السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب، ومن الهدف القريب إلى الهدف البعيد..
وهكذا، فإن التكاليف ثقيلة والطريق طويل، ولو أراد قطعه في نفس واحد، مرة واحدة، لكان الانقطاع، وبالتالي القعود أو الفتور والتواني[10].
 
وقد وعى السلف الصالح رضي الله عنهم ذلك، فقد قال عبدالملك[11] بن عمر بن عبدالعزيز رحمهما الله لأبيه[12]: مالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق.
فقال عمر رحمه الله مقالة الخبير بنفوس البشر وطبائعهم: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة[13].
 
وهكذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته أهل مكة، فدعاهم إلى التوحيد، وذكر من أمور الشريعة ما وافق عقيدة القوم، كتحريم مكة، أو عدَّل ما ألفوه من قبل: كالديات، وذلك قبل الانتقال بهم إلى الجديد الذي لا يعرفونه من الأحكام الإسلامية.
 
ومن تدرجه مع قريش عدم نقضه بناء الكعبة لإصلاحه، فلم يغفل صلى الله عليه وسلم الواقع القائم، واكتفى بإثبات الحق قولا، وأظهر رغبته في تعديل البناء، وأرجأ تحقيقه عملا، مراعاة للواقع، ولما قد يترتب على التحقيق الفعلي من الأضرار على الدعوة الإسلامية[14].
 
كذلك تدرجه في إزالة المشاعر والطقوس الوثنية التي ألفها الناس في حجهم للبيت الحرام، فتطهير مكة من الأصنام، ودخول أهلها في الإسلام كان تمهيدا لإزالة الشرك ومعالمه وطقوسه، التي يؤديها العرب في الحرم، وكان الإلغاء الكامل لها بإعلان سورة براءة في موسم الحج الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه بالناس[15]، وذلك في السنة التاسعة للهجرة[16]، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:( بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين، بعثهم يوم النحر، يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان...
ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة)[17].
 
ومن الأمور التي يتدرج فيها الداعية، الاحتساب، فيبدأ بالإنكار بالأسهل، فإن لم ينفع انتقل إلى الأصعب، قال الإمام القرطبي رحمه الله: (فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل)[18].
 
فعلى الدعاة مراعاة سنة التدرج في تحقيق ما يريدون من أهداف دعوية، آخذين في الاعتبار سمو الهدف، ومبلغ الإمكانات وكثرة المعوقات[19].



[1] بتصرف، الدعوة الإسلامية، أصولها ووسائلها ص 429.


[2] سبق تخريجه ص 165.


[3] سبق تخريجه ص 136.


[4] للاستفادة انظر منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير ص 61.


[5] بتصرف، مقال بعنوان: التدرج بين التشريع والدعوة: د.
يوسف محيي الدين أبو هلالة ص 62 ضمن بحوث دراسات في الدعوة والإعلام، إصدار كلية الدعوة والإعلام بالرياض العدد الأول 1412 هـ.


[6] بتصرف، المرجع السابق ص 71.


[7] الموافقات 2/93.


[8] صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن باب تأليف القرآن 6/101.
وللاستفادة انظر تاريخ الفقه الإسلامي: د.
عمر سليمان الأشقر من ص 48- 52، دار النفائس الأردن، ومكتبة الفلاح الكويت، ط:3، 1413هـ 1991م.


[9] بتصرف، الدعوة الإسلامية في عهدها المكي ص 546.


[10] بتصرف انظر منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير ص 68.


[11] عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز بن مروان، أمير أموي عاش ملازما أباه، ومات قبيل وفاته، وكان من أحب الناس إليه، وكان عونا له على الحق، توفي رحمه الله سنة 101.
بتصرف، الأعلام 4/ 161.


[12] هو عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، ولد بالمدينة زمن يزيد، كان إماما فقيها مجتهدا قانتا لله، ضرب به المثل في عدله وزهده بعد استخلافه، عده الإمام الشافعي خامس الخلفاء الراشدين، مات رحمه الله سنة 101 وعمره 40 سنة.
بتصرف، حلية الأولياء 5/253، وتذكرة الحفاظ 1/118، وتهذيب التهذيب 7/475.


[13] بتصرف، الموافقات 2/94، وعلق الإمام الشاطبي على قوله فقال:( وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي، فكان ما كان أجرى بالمصلحة، وأجرى على جهة التأنيس، وكان أكثرها على أسباب واقعة، فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما، وجزئية جزئية، لأنها إذا نزلت كذلك لم ينزل حكم إلا والذي قبله قد صار عادة، واستأنست به نفس المكلف...
فإذا نزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد له، ثم كذلك في الثالث والرابع)، وروى في المصنف: ابن أبي شيبة، 13/467 ح 16941، وقال فيه: يا بني، لو بدأت الناس بالذي تقول، لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها لم أجد بُدا من السيف، ولا خير في خير لا يأتي إلا بالسيف.


[14] بتصرف، د.
محيي الدين أبو هلالة: التدرج بين التشريع والدعوة ص 79.


[15] بتصرف، المنهج الحركي للسيرة النبوية 3/195.


[16] الحديث رواه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب حج أبي بكر بالناس في سنة تسع 5/115.


[17] صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن باب سورة براءة 5/202.


[18] الجامع لأحكام القرآن 4/49.


[19] بتصرف، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: د.
يوسف القرضاوي ص 105، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية قطر، ط:1، 1402هـ.

شارك المقال

فهرس موضوعات القرآن