لماذا الاحتساب ؟
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
لماذا الاحتساب؟الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
الحسبة، الاحتساب، المحتسب،...
إلخ، كلمات لها مدلولها اللغوي، ومعناها الاصطلاحي، وفحواها العمَلي، ولسْنا في صدد الحديث عن هذه الأمور، ولكننا سنُحاوِل - إن شاء الله - في هذه العجالة أن نتطرَّق إلى زاوية مهمة؛ علَّنا أن نُبين أهمية وفضل ومكانة هذه الشَّعيرة الطيبة في الأمة، ولماذا كان هذا الاهتمام الكبير والتنبيه على هذه الشعيرة العظيمة في ديننا الإسلامي الحنيف، فنقول:
الحسبة ولاية من الولايات الدينية، وظيفتُها القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل ما ورد من النصوص في الكتاب والسنَّة المتعلِّقة بالمعروف أو المنكر، فإنما يعني القيام بالحسبة أمرًا ونهيًا، طلبًا وتركًا.
والحسبة هي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركُه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فِعله[1]، وذلك باحتساب الأجر عند الله -تعالى- في القيام بالأعمال الصالحة، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعدُّ صمام أمان المجتمعات، وإذا لم يَحتسب فئات من الناس للقيام بهذا الأمر فإن الدنيا ستُصبح فوضى، وبسبب ترك الأمر والنهي الشرعي يَنتشِر الفساد في الأرض، ولهذا لا تستقيم خيرية هذه الأمة إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا حقَّقت الأمة هذا الأمر في أي زمن، دلَّ ذلك على حياة المجتمعات، وإذا سكت الناس عن الشرور، فإن ذلك منذر بشرٍّ - والعياذ بالله من كل شر.
وقد جاءت الآيات القرآنية تُرغِّب في احتساب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، وعلَّق الله خيرية الأمة المحمدية بهذا الأمر فقال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].
ولعَن الله بني إسرائيل بسبب المجاملات والمداهنات وترك الاحتساب؛ فقال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].
وبيَّن الله -تعالى- أنَّ الاحتساب من وظائف المجتمع المسلم؛ فقال: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71].
من خلال هذه المقدمة البسيطة عن الاحتساب، نستطيع أن نقول، أو كما يسأل البعض من الناس عن الاحتساب، لماذا الاحتساب؟ وما هي الفوائد التي سنجنيها من هذا الأمر؟
الاحتساب له مكانته في الدين، ولا يُنكرها إلا جاحد أو معاند، وليس المقام مقام ذكر فضل هذه العبادة، وأما عن الفوائد التي سنَقتطفها من هذه العبادة، فهي كثيرة ومتعددة ومتعدية؛ ومنها:
أولاً: شعيرة الاحتساب مما ندَب الله، ورغَّب فيها والقيام بها وعدم تركها والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقال: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، فالأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكَر من أعظم واجبات الشريعة المطهَّرة، وأصلٌ عظيم من أصولها، وركنٌ مشيد من أركانها، به يَكمل نظامها ويرتفع سنامها؛ لما فيه من المصالح العظيمة، قال الطبري عند هذه الآية:
"قال أبو جعفر: يَعني بذلك - جل ثناؤه -: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ ﴾ أيها المؤمنون ﴿ أُمَّةٌ ﴾، يقول: جماعة ﴿ يَدْعُونَ ﴾ الناس ﴿ إِلَى الخَيْرِ ﴾، يعني إلى الإسلام وشرائعه التي شرَعها الله لعباده، ﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، يقول: يأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي جاء به من عند الله ﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ يعني: ويَنهون عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد وبما جاء به من عند الله، بجهادهم بالأيدي والجوارح، حتى يَنقادوا لكم بالطاعة، وقوله: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾، يعني: المُنجحون عند الله الباقون في جناته ونعيمه"[2].
وجاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كذلك الندب والحث على هذه الشعيرة؛ فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمُرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المُنكر، أو ليُوشِكنَّ الله أن يبعَث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم))[3].
ثانيًا: الاحتساب يُمثِّل خيرية هذه الأمة المحمدية، ولهذا قال الحق - جل جلاله -: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، قال البخاري - رحمه الله - عن أبي هريرة رضي الله عنه: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ قال: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام"[4].
ثالثًا: الاحتساب صمام أمانٍ لهذه الأمة، ووقاية لها؛ فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمُرن بالمعروف ولتنهون عن المُنكر، أو ليُوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم))[5].
"ففي هذا الحديث أنه إذا لم يُنْكَر المنكر عمَّ شؤمه وبلاؤه بجَوْر الولاة أو تسليط الأعداء، أو غير ذلك"[6].
"والمعنى: والله، إن أحد الأمرَين واقع: إما الأمر والنهي منكم، وإما إنزال العذاب من ربكم، ثم عدم استجابة الدعاء له في دفعه عنكم"[7].
رابعًا: ترك الاحتساب سبب للعن من الله، والطرد من رحمته، كما وقع مع بني إسرائيل، فحين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استحقوا اللعن من الله - عز وجل - قال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 78]، وهذا اللعن هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة، والسبب لهذا تُبيِّنه الآية التي تليها: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 79].
" قال العوفي عن ابن عباس: لُعنوا في التوراة، وفي الإنجيل، وفي الزبور، وفي الفرقان، ثم بيَّن حالهم فيما كانوا يَعتمدون في زمانهم، فقال تعالى: ﴿ كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ أي: كان من دأبهم ألا ينهى أحد أحدًا عن منكر يقترفه مهما قَبُح وعَظُم ضرره، فيشترك بذلك المباشر والساكت عن النهي وعن المنكر، وذلك يدلُّ على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه، وإنما كان السكوت عن المنكر مع القدرة موجبًا للعقوبة لما فيه من المفاسد العظيمة التي منها أن مجرَّد السكوت فعل المعصية، وإن لم يُباشر الساكت، فإنه كما يجب اجتناب المعصية، فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبِه؛ وذلك أضعف الإيمان))[8]،[9].
خامسًا: الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين، ولهذا قال المولى - جل وعلا -: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]، وقال أيضًا: ﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 114]، فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المُنكر فَرقًا بين المؤمنين والمنافقين، فدلَّ على أن أخصَّ أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه[10]، يقول سيد قطب: "وهي صورة وضيئة للمؤمنين من أهل الكتاب؛ فقد آمنوا إيمانًا صادقًا عميقًا، وكاملاً شاملاً، وانضمُّوا للصف المسلم، وقاموا على حراسة هذا الدين..
آمنوا بالله واليوم الآخر، وقد نهضوا بتكاليف الإيمان، وحققوا سمة الأمة المسلمة التي انضمُّوا إليها - خير أمة أخرجت للناس - فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وقد رغبت نفوسهم في الخير جملة، فجعلوه الهدف الذي يُسابقون فيه، فسارعوا في الخيرات، ومِن ثَمَّ هذه الشهادة العلوية لهم أنهم من الصالحين، وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يُبخسوا حقًّا، ولن يُكفروا أجرًا، مع الإشارة إلى أن الله - سبحانه - علم أنهم من المتقين، وهي صورة تُرفع أمام الراغبين في هذه الشهادة، وفي هذا الوعد؛ ليُحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير"[11].
أخيرًا: الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة حين يحق العذاب؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 165].
"قال أبو جعفر: يقول تعالى ذِكرُه: فلما تركت الطائفة التي اعتدت في السبت ما أمرها الله به من ترك الاعتداء فيه، وضيَّعت ما وَعظتْها الطائفة الواعظة وذكَّرتها به، من تحذيرها عقوبةَ الله على معصيتها، فتقدَّمت على استحلال ما حرم الله عليها - أنجى الله الذين ينهون منهم عن "السوء"؛ يعني: عن معصية الله، واسْتحلال حرمه، ﴿ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ يقول: وأخذ الله الذين اعتدوا في السبت، فاستحلوا فيه ما حرَّم الله من صيد السمك وأكله، فأحلَّ بهم بأسَه، وأهلكهم بعذاب شديدٍ بئيس بما كانوا يخالفون أمر الله، فيخرجون من طاعته إلى معصيته، وذلك هو "الفسق"[12].
هذا غيض من فيض، وبعض الآثار والثمرات التي تَجنيها المجتمعات التي تحيي هذه الشعيرة العظيمة في واقعها، ولولا الإطالة لذكرنا الكثير من فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكفي من فضائل هذه الشعيرة أنها وظيفة الأنبياء عليهم السلام، ويا لها من فضيلة، وهي سَير على طريقهم!
أسأل الله العظيم أن يُحيي هذه الأمة، وأن يردَّها إلى دينه مردًّا جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين.
[1] هذا تعريف الحسبة عند الماوردي, وهو أول من ألّف فيها وأفضل من عرَّفها؛ انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 240).
[2] تفسير الطبري (7 / 90).
[3] سنن الترمذي (2169).
[4] صحيح البخاري (4557).
[5] سنن الترمذي (2169)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (5140).
[6] تطريز رياض الصالحين (1 / 157).
[7] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (15 / 11).
[8] رواه مسلم (49).
[9] الأنوار الساطعات لآيات جامعات (1 / 271).
[10] تفسير القرطبي (4 / 47).
[11] في ظلال القرآن (1 / 420).
[12] تفسير الطبري (13 / 199).