الإعداد الشامل والمتوازن للدعاة
مدة
قراءة المادة :
17 دقائق
.
من قواعد إعداد الدعاة:أن يكون إعداد الدعاة شاملاً متوازناً
إعداد الداعية لا بد أن يكون شاملا ًلمقومات البناء الأساسية في شخصية رجل الدعوة، ليكون سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، مثقف الفكر، قوي الجسد، نافعا لنفسه ولغيره، إلى آخر هذه المقومات[1].
فالدعاة إلى الله هم حملة مبادئ الإسلام إلى الناس، وهم صنف متميز قد اختارهم الله لحمل أمانة الرسالة، فليس كل إنسان مهيأ للقيام بعبء الدعوة[2]، وهذا يتبين من اصطفاء الله تعالى لرسله، وتكليفهم بالدعوة إلى سبيله، كما في قوله تعالى ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ﴾ [3].
والنبي صلى الله عليه وسلم هو إمام الدعاة إلى الإسلام، يسيرون بسيرته، ويقتدون بهديه، قد ربى أصحابه وأعدهم لحمل الرسالة، وتحمل مشاقها، وأعدهم ليكونوا قدوة لمجتمعهم بسلوكهم وبذلهم وتضحياتهم، وبدأ بإعدادهم أول مبعثه في دار الأرقم بن الأرقم[4] رضي الله عنه، ثم تعهدهم بالتربية وغرس الإيمان في قلوبهم طوال سني العهد المكي.
ولم ينته دوره في مكة حتى أكمله في المدينة، فأخرجت مدرسة النبوة للناس أجيالاً من أرفع المستويات من الدعاة المدافعين عن الإسلام، الواثقين بطريقهم المعتزين بدينهم، ونشروا مع النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام حتى أخضعوا جزيرة العرب له، ثم التحق بالرفيق الأعلى وقد أعد أصحابه وراءه لحمل الدعوة إلى خارجها، وأتم خلفاؤه الراشدون ما بدأه صلى الله عليه وسلم.
ومما لا شك فيه أن هذه الصفوة من الدعاة[5]، هم خلاصة الجهود المضنية التي بُذلت طيلة ثلاثة وعشرين عاماً من عمر الدعوة، وقد رسمت منهجاً تناقلته أجيال الدعاة، وسبيلاً يسلكونه على هدى وبصيرة من الله، وهذا المنهج الرباني يسع الدعاة مهما ترامت أمداء الزمان والمكان، إذا فقهوا هذا المنهج وأحسنوا تطبيقه، (فاكتشاف المنهج الدعوي الأمثل هو نصف المطلوب، أما النصف الثاني فيتمثل في فهم الأساليب والوسائل والخطط والآليات، التي يجب استخدامها في نشر الدعوة)[6]، وذلك يستلزم إعداداً متميزاً للدعاة كي تحصل لهم هذه الأهلية.
وفيما يلي هنا وفي بعض المقالات القادمة: قواعد وأسس مستلهمة من سمات المنهج النبوي في إعداده للدعاة على ضوء غزوة الفتح، لعلها توضح الطريق الملائمة لأعداد الدعاة إلى الله:
يجب أن يكون إعداد الدعاة شاملا متوازنا:
إن كل داعية يعد لبنة مهمة في الصرح الدعوي وفي المجتمع الإسلامي، فإذا تلقى إعداداً شاملاً بدنياً ونفسياً وعقلياً وخلقياً، إلى غير ذلك من الجوانب التي تحقق التوازن في شخصيته، يكون قد خطى خطوة لا بد منها في إقامة صرح الأمة على أساس متين، ويكون عضوا نافعا لنفسه ولأهله ولأمته، قادراً على الاضطلاع بالأعباء التي تناط به[7].
والإعداد الشامل المتوازن هو الذي يعطي لكل شيء حقه، فلا ينزع إلى تمجيد جانب على جانب آخر، أو يطغى عليه، أو يحصر الدعاة في ركن معين، فيصبح بالتالي ذلك هو هدف الدعاة ورسالتهم التي يدعون لها مما يخل بشمولية الدعوة الإسلامية، وذلك كأن يركز على القلب فقط فيهتم بإخراج دعاة عندهم رقة بالغة ومواعظ مؤثرة، لكنه في الوقت ذاته أغفل جانب العلم والعقل، فلم يفقههم إلا بالنزر اليسير من الدين، وأهمل أجسادهم فهي ضعيفة هزيلة، ولم يهتم بأخذ العدة لجهاد الكفار، فالإعداد الشامل المتوازن يعطي كل جزء من الإنسان ما يستحقه من العناية والرعاية، لأنه نابع من شمولية الدين الذي يدعو إليه، ومن صفات هذا الدين أنه شامل متكامل ليس دين عقل أو روح أو جسد فقط، بل أنه يتعامل مع الإنسان المكون من كل ما سبق[8].
وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ورأى ضرورة أن يعدوا إعدادا شاملا، فتراه يعزز الجانب الإيماني الروحي عندهم، حين يقوي رابطتهم بالله تعالى الذي نصرهم وأعزهم، فيرجع الفضل كله إليه.
كما يريهم القدوة في نفسه فيصلي لله شاكرا حامدا بعد إتمام الفتح، ويعيش بدعوته كل لحظات حياته- وذلك من أهم مقتضيات الدعوة- إذ يحقق الانشغال بالدعوة من خلال انشغاله بالله تعالى، تسبيحا واستغفارا وصلاة، فذكر الله تعالى يحقق الاطمئنان القلبي للداعية، وهو ضروري لمواجهة الشدائد التي تنتظره في الطريق، كما قال تعالى ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [9] [10].
كما يهتم برعاية الجانب العقلي المعرفي، وذلك بتركيزه على أهمية نشر العلم، وأمره لمن سمع كلامه وفقهه، أن يبلغه لمن لم يسمع، فيقول بعد خطبته ثاني أيام الفتح: ((وليبلغ الشاهد الغائب))[11]، ويأمر بكتابة ما علمه للناس لأحد أصحابه حين سأله أن يكتب له ما قال، ليحمله إلى من وراءه من قومه في اليمن، فقال: ((اكتبوا لأبي شاه))[12].
ولا شك أن تسلح الداعية بالعلم من الأمور الضرورية، لأن من تصدى للدعوة دون أن يتسلح بالعلم، يُخشى عليه أن يجادله أحد خصومه، فتضيع حجته فيهلك، فلا بد أن يكون عنده من العلم ما يدفع به الشبهات، ويفحم به الخصم، وذلك لا يكون إلا بمعرفة ما هو عليه من الحق، وما عليه خصمه من الباطل، ليتمكن من دحض حجته[13].
إلى جانب عنايته صلى الله عليه وسلم بالجانب الروحي والعقلي فإنه لا يغفل الجانب البدني، فلا يكلف صحابته فوق طاقتهم، فلا يحملهم على الصيام في السفر، بل رخص لهم بالفطر لما رأى المشقة التي أصابتهم، ثم ينكر على من خالف وأجهد جسده[14]، في الوقت الذي تحتاج فيه الدعوة إلى المجاهدين الأشداء بكامل قواهم، ليدفع بهم في نحور المشركين، ثم أمره للصحابة بإظهار قوتهم البدنية وبأسهم للأعداء، عندما خالف بعض أهل مكة شروط الأمان، وقاتلوا المسلمين، فقال للأنصار: ((احصدوهم حصدا))[15].
ويولي صلى الله عليه وسلم عناية فائقة للناحية النفسية، في إعداده للصحابة، ويتجلى ذلك في إكرامه لهم، ورفع روحهم المعنوية، بحسن تقديرهم والأخذ برأيهم، ومشاركتهم السراء والضراء، مثل تبديده لمخاوف الأنصار يوم أتم الفتح، وظنهم أنه قد يميل إلى البقاء بمكة بعد فتحها، فيضحي بأمر حبيب إلى نفسه، إكراما لهم، ويعلن بقاءه معهم حتى يتوفاه الله، ويقول: ((معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم))[16].
كما يظهر تكريمه لأصحابه في قبوله شفاعتهم، لما شفع بعضهم لمن صدر في حقهم حكم الإعدام، فيقبل شفاعة عثمان رضي الله عنه في أخيه من الرضاعة عبد الله بن أبي السرح رضي الله عنه، ويقبل شفاعة أم حكيم رضي الله عنها، ويعطيها الأمان لزوجها عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، ويصدر عفوه عن صفوان بن أمية، رضي الله عنه، حين سأله عمير بن وهب ذلك، وأعطاه عمامته علامة على الأمان[17].
ويظهر تكريمه ومراعاته لنفسياتهم في اعتبار آرائهم والأخذ بها، كإعطائه أبا سفيان فخر الأمان لأهل مكة ومساواة بيته لبيت الله الحرام في الأمان يومها، نزولا عند رأي العباس رضي الله عنه، كذلك أخذه برأي الصحابة وتغييره لأحد قادته -وهو سعد بن عبادة رضي الله عنه - لما قالوا خشية منه على قومهم : ما نأمن أن تكون له صولة في قريش[18].
ومن الجوانب المهمة في إعداد الدعاة الجانب الأخلاقي، وكثيرة هي الآيات والأحاديث الحاضة عليه، والدالة على آثاره الحسنة في قبول الدعوة، فكذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يوجه أحد مسلمة الفتح - وهو السائب بن عبدالله رضي الله عنه - إلى الاستمرار على ما كان عليه من التخلق بالأخلاق الحسنة وبذل المعروف والبر والصلة التي كان عليها في الجاهلية، فيقول له: ((ياسائب، انظر أخلاقك التي كنت تصنعها في الجاهلية، فاجعلها في الإسلام، أقر الضيف، وأكرم اليتيم، وأحسن إلى جارك))[19].
ولا يغفل الجانب الاقتصادي، بل يرعاه بما يكفل الحياة الإنسانية،والقدرة على القيام بأعباء المسئولية المناطة به، فقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ولىّ عتّاب بن أسيد رضي الله عنه إمرة مكة، جعل رزقه كل يوم درهماً، فقام فخطب الناس فقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهماً كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد[20].
ولا يغفل النبي صلى الله عليه وسلم الجانب المظهري، فيحرص على حسن مظهر المؤمن الداعية، ومن أهم ما يتميز به هذا المظهر، النظافة والحرص على الاغتسال، وقد يظن البعض أن إهمال المظهر العام دليل على التواضع والزهد، وحقيقة الأمر أن الداعية يحتاج إلى الظهور بالمظهر اللائق المتميز أمام المدعوين فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جميل يحب الجمال)[21]، وقد روي اغتساله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح أكثر من مرة فقد ذكرت أم هانئ رضي الله عنها:( أنه يوم الفتح اغتسل في بيتها ثم صلى ثماني ركعات)[22]، ولما ذهبت إليه تشكو أخاها علياً - لما أراد قتل رجلين قد أجارتهما - وجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره[23].
ومن حرصه صلى الله عليه وسلم على تميز شخصية أصحابه توجيههم بأن يكونوا بين الناس أحسنهم هيئة وزياًّ فقال: ((إنكم قادمون على إخوانكم فاصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة بين الناس))[24].
وكذلك يحرص على تميز مظهرهم - كمسلمين - بأمرهم بتغيير الشيب فقد (أُتي بأبي قحافة - يوم فتح مكة - ورأسه ولحيته كالثغامة[25] بياضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غيروا هذا الشيء واجتنبوا السواد))[26].
والأصل في ذلك مخالفة اليهود والنصارى ففي الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))[27].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة، ولهذا كان الإمام أحمد ابن حنبل وغيره من الأئمة يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة، وقال الإمام أحمد ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب، ولا يتشبه بأهل الكتاب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود))[28].
والخلاصة أن إعداد الداعية لا بد أن يكون شاملا لمقومات البناء الأساسية في شخصية رجل الدعوة، ليكون سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، مثقف الفكر، قوي الجسد، نافعا لنفسه ولغيره، إلى آخر هذه المقومات[29].
[1] بتصرف، طريق الدعوة: مصطفى مشهور ص 27، دار الطباعة والنشر الإسلامية القاهرة ط: بدون 1399هـ 1979م.
[2] بتصرف، فصول في الدعوة والثقافة الإسلامية: د.
حسن عيسى عبدالظاهر ص 201، دار القلم الكويت، ط:1، 1401هـ 1981م.
[3] سورة الحج جزء من آية 75.
[4] كان اسمه قبل الإسلام عبد مناف بن أسد بن عبدالله المخزومي، من السابقين للإسلام قيل: أسلم بعد عشرة، كانت داره على الصفا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيها، حتى تكاملوا أربعين رجلا مسلما خرجوا منها، وكان آخرهم إسلاماً عمر رضي الله عنه، شهد المشاهد كلها، وتوفي رضي الله عنه في خلافة معاوية سنة 55هـ.
[5] مقصود الباحثة بالدعاة في هذا المبحث، نوعين منهم: النوع الأول: قدوة الدعاة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك باستخلاص الدروس المستفادة من إعداد الله تعالى له لحمل رسالته، والداعية الحصيف إذا سمع أمرا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم علم الخير فيه، فالتزمه وتأسى بالنبي في ذلك.
النوع الثاني: هم صحابته الكرام، وذلك باستخلاص الدروس من إعداد النبي صلى الله عليه وسلم لهم وتربيتهم للقيام بحمل الدعوة في حياته وبعد مماته، ودعاة اليوم يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبصحابته، فهم كالنجوم للسائر في الظلام.
[6] مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي ص 186.
[7] بتصرف، دعوة الإسلام: سيد سابق ص 45.
[8] للاستفادة انظر الخصائص العامة للإسلام ص 99- 118.
[9] سورة الرعد آية 28.
[10] بتصرف، حكمة الدعوة: رفاعي سرور ص 40، مكتبة وهبة القاهرة ط: بدون.
[11]صحيح البخاري كتاب العلم باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب 1/35.
[12] سبق تخريجه ص 145.
[13] بتصرف، شرح كشف الشبهات ص 70.
[14] سبق تخريج الحديث ص 111.
[15] سبق تخريجه ص 125.
[16] سبق تخريجه ص 125.
[17] بتصرف، القيم الخلقية والإنسانية في الغزوات ص 180- 182.
[18] سبق تخريجه ص 118.
[19] رواه الإمام أحمد في المسند 3/425 عن السائب بن عبد الله.
[20] بتصرف، نور اليقين في سيرة خير المرسلين: الشيخ محمد الخضري بك ص 216، دار الكتب العلمية لبنان ط:5.
[21] صحيح مسلم كتاب الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه 1/93 ح 91.
[22] صحيح البخاري كتاب المغازي باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح 5/94.
[23] سبق تخريجه ص 139.
[24] سنن أبي داود كتاب اللباس باب ما جاء في إسبال الإزار 4/57 ح 4089، ومسند الإمام أحمد 4/180 عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه، ولم يذكر تحديد زمن قوله صلى الله عليه وسلم.
وقال محقق جامع الأصول: إسناده حسن 2/588.
[25] هو نبات أبيض الزهر والثمر، وقيل هي شجرة تَبْيَّض كأنها الثلج.
بتصرف النهاية في غريب الحديث 1/214.
[26] صحيح مسلم كتاب اللباس والزينة باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة، وتحريمه بالسواد 3/1633 ح 2102، ومسند الإمام أحمد 3/160.
[27] صحيح البخاري كتاب اللباس باب الخضاب 7/57، وصحيح مسلم كتاب اللباس والزينة باب في مخالفة اليهود في الصبغ 3/1663 ح 2103.
[28] سنن الترمذي كتاب اللباس باب ما جاء في الخضاب 4/232 ح 1752، وقال: حديث حسن صحيح.
[29] بتصرف، طريق الدعوة: مصطفى مشهور ص 27، دار الطباعة والنشر الإسلامية القاهرة ط: بدون 1399هـ 1979م.