أرشيف المقالات

وصف جميل لطلاب الآخرة لابن الحاج رحمه الله تعالى

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
وصف جميل لطلَّاب الآخرة لابن الحاجِّ رحمه الله تعالى

الحمد لله؛ وبعد:
فإن الله تعالى جعل الدنيا زادًا للآخرة، وميدانًا للتنافس في خيراتها، وسبيلًا للوصول منها لرضوان الله تعالى، وقد اختلف الناس في طرائقهم فيها، فمن واصلٍ بها للفردوس فضلًا من الله ومِنَّة، ومِن ساقط للدرك الأسفل خيبة وخذلانًا عياذًا بربنا تعالى من حال أهل النار.
 
فقد تعلو هِمَّةُ المؤمن في السباق لمعالي الآخرة حتى يكتفي بأمور الآخرة عن فضول دنياه، ويكتفي من الدنيا ببلغة تعينه على الطاعة، فيضع الدنيا حيث وضعها الله تعالى، ويرفع الآخرة حيث رفعها سبحانه، فمُحَرِّك الزهد في الدنيا هو تمام الرضا بالله، فإن العبد لما اكتمل رضاه بربِّه اكتفى به عمَّا سواه، ومن هنا كان الرضا بالله أعظم سبب في رفع الهِمَّة الصحيحة حقًّا، فالولوغ في السفساف ليس من الهِمَّة في شيء، والتخوُّض في المعاصي ليس منها؛ إذ حقيقة الهمة: السعي لتحصيل معالي الأمور، ووظيفة الرضا هنا: تصويب مسار البصيرة، ورفع سقف الرغبة، فأغمض عينيكَ بُرْهَةً كَيْمَا تتأمَّل حقيقتَكَ، وكن كما قيل: كيفَ يَرَى هؤلاءِ الذين لا يُغمِضُونَ عيونَهُم؟! والمهديُّ من هداه الله.
 

ولؤلؤتانِ فِي قَلْبِي
تَرَى مَا لا تَرَى الألْحَاظ

وبما أن الهمَّة مشتقة من الهمِّ - وفيه من الإزعاج والمشقَّة والثِّقل ما فيه- فإنَّ الرضا هو العقار المريح لقلق الترقُّب، فالقلب والجوارح يعملان بجدٍّ لتحصيل معالي الأمور، والمسارعة في أنواع القُرَبِ، والمنافسة على منازل الجنة العالية، والمسابقة لرضوان الله تعالى، والقلب في كل ذلك مطمئنٌّ بربِّه، ساكنٌ إليه وبه، راضٍ تمام الرِّضا بتقديره؛ لعلمه أن ما يختاره ربُّه له خير مما يختاره لنفسه؛ لأنه قد بذل وسعه في مرضاته ورضي به وعنه.
 

كَريمٌ لا يُغَيِّرُهُ صَباحٌ
عَنِ الخُلُقِ السَنِيِّ وَلا مَساءُ

وقد وفق الله تعالى ابنَ الحاجِّ رحمه الله لوصف أولئك السابقين الأفذاذ، فقال: "اعلم أنَّ القوم لمَّا وصلوا إلى ما وصلوا إليه لم يغتروا بدار الغرور، ولم تكن لهم رغبة إلا خوف فوات ما شوَّق إليه وعْدُ القرآن ووعيده من الخلود في دار النعيم أو دار الهوان، إن في هذا لبلاغًا لقومٍ عابدين.
 
إنما دعا إلى دار السلام مَن خَلَقَها وزيَّنها وجلَّاها، فخُض أيها المريد الغمرات شوقًا إلى نعيمها، وأجب الداعي الصادق الوفيَّ إلى ما وعد ودعاك إليه، فإنه قد حذَّرك نفسك وهواك، وأنذرك حلول دار سخطه.
 
فاجعل الموت ضجيعك، والزهد قرينك، والجدَّ سلاحك، والصدق مركبك، والإخلاص زادك، والخوف من الله على مقدِّمتك، والشوق إلى الجنة صاحب لوائك، والمعرفة على ميمنتك، واليقين على ميسرتك، والثقة على ساقتك، والصبر أمير جندك، والرضا وزيرك، والعلم مشيرك، والتوكُّل درعك، والشكر خليلك، ثم انفر إلى عدوِّك وصافِفْهُ بجميع ما ذكرتُ لك، وطب نفسًا عن دار الهموم والأحزان إلى دار البقاء والسرور مع الخيرات الحِسان، والله المستعان، والحمد لله رب العالمين ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحجرات: 18].
 
فلينظر العبد إلى الله تعالى في كل أمره، فإنه من نظر إلى نفسه أو إلى أحدٍ من المخلوقين بأملِ رجاء منفعته كان عُزُوبًا لقلبه عن الله، وكان منقوصًا عن منزلة الواثقين المؤَيَّدين، وقد قال الله عز وجل لداود عليه السلام: "يا داود، إني قد آليت على نفسي ألَّا أثيب عبدًا من عبادي إلا عبدًا قد علمت من طلبته وإرادته وإلقاء كنفه بين يدي أنه لا غنى له عنِّي، وأنه لا يطمئن إلى نفسه بنظرها وفعالها إلا وكلته إليها، أَضِف الأشياء إليَّ؛ فإني أنا مننتُ بها عليك"[1].
 
واعلم أنَّ العباد قد تفاوتوا وتباينوا، فباختيارهم نظر الله تعالى على اختيار أنفسهم زادهم ذلك سرعةً وقربًا من معونة الله تعالى لهم وصنعه وتسهيله عليهم، وبالسهو عنه واختيارهم أنفسهم على نظر الله تعالى زادهم ذلك بطئًا وبُعْدًا من معونة الله تعالى لهم وصنعه وتسهيله عليهم، فكن في نظرك إلى ربك ناظرًا بألَّا تُؤمِّل غير صنعه ولا ترجو غير معونته، واثقًا باختياره، فإن ذلك أقرب وأسرع في معونته لك.
 
فإن الذين قلَّدوا أمورَ ربِّهم ووثقوا به ولجأوا إليه قد أماتوا من قلوبهم تدبير أنفسهم، وجعلوا الأمور عندهم أسبابًا مع قيامهم بها والمحافظة عليها، فأولئك ذهبوا بصفو الدنيا والآخرة لسكون قلوبهم إليه، فوجدوا بذلك الرَّوحَ والراحة، فهم حماة الدين والعلماء بالله، قد فاقوا مَنْ سواهم باطمئنانهم به وسكونهم إليه، فأوجب لهم صنعه[2]، وأقام قلوبهم على منهاجه، فما تقلبوا فيه من الأمر فعلى الرضا والطمأنينة، ومَن سواهم من الخلق في مؤنة وتعب من أنفسهم؛ حيث اختاروها وتوكلوا عليها؛ فأورثتهم الهم والغموم.
 
وأما أهل العبودية لله فهم الذين قلَّدوه أمورهم وخرجوا عن طباع العباد لِمَا تبيَّن لهم من خطأ من اختار نفسه، فجعلوا اختيارهم الرضا بما صيرهم إليه مولاهم من أمورهم، فزالت الغموم عن قلوبهم؛ فأوجب لهم الصنع والتوفيق في أحوالهم، وأورثهم الغنى والعز في قلوبهم، وسد عنهم أبواب الحاجات إلى المخلوقين، وأتتهم لطائف الله من حيث لا يحتسبون، وقام لهم بما يكتفون به، ونزَّه أنفسهم عمَّا سوى ذلك إكرامًا لهم عن فضول الدنيا، وطهارة لقلوبهم عن التشاغُل بما أغناهم عنه، فحصَّنهم من كل دنس، وأمشاهم في طرقات الدنيا طيِّبين موالين له، فهم في السموات أشهر منهم في الأرض، ولأصواتهم هناك دويٌّ ونور يُعرفون به ويحيون عليه، قد رفع أبصار قلوبهم إليه[3]، وحببهم إلى ملائكته وسائر خلقه.
 
فهؤلاء قد ملأ الله أسماعهم وأبصارهم وجوارحهم من حبه، فأدَّبُوا أنفسهم بالعبودية له والدخول في محبَّتِه، وذلك أن تأديب الرجل نفسه في مطعمه ومشربه وملبسه يزيد في صلاح قلبه، وتنقاد جوارحه لقلبه، ويقوى عزمه ويقهر هواه، فيقوم عند ذلك مقام أهل القوة، إلى أن يرفعه الله إلى منزلة فوقها حتى يستوي عنده الأخذ والترك، فلا يأسفون على ما فاتهم ولا يفرحون بما آتاهم للغنى الذي وَقَر في قلوبهم، يزدادون له محبَّةً ومودَّةً وشكرًا له في العلم به والمعرفة به، فعند ذلك رقَّت قلوبهم وانقادت أهواؤهم إلى ما قلَّ من الدنيا وكفى، فهي لا تتطلَّع إلى غير ذلك، ناظرين إلى ربهم في أمورهم كلها لا إلى الأسباب، نظرهم من غير تفريط في إقامة الأسباب الخالصة من أعمال البر، فإن لبسوا خشنًا أو ليِّنًا أو حسنًا أو قبيحًا أو أكلوا طيبًا أو كريهًا أو حلوًا أو مرًّا أو حامضًا أو قليلًا أو كثيرًا لم يغير ذلك من قلوبهم عن الحال التي هي عليها من ذكر ربِّهم وتعظيمه؛ وذلك أن قلوبهم عامرةٌ من ذكر الخالق وليس لشيء سواه في قلوبهم ثبوت إلا بالخاطر من غير أن يرسخ أو يثبت، فلم يقم الناس مقامًا أشرف من أن يعلقوا قلوبهم بربِّهم، ولا أَولى بهم من ذلك؛ لأنهم أشد الناس محافظة على جمع همومهم في صلاتهم، وجمع ما يتقرَّبون به من ربِّهم.
 
إن قاموا عرفوا بين يدي من هم قيام له، وكذلك إن ركعوا أو سجدوا أو تلوا القرآن أو دعوا ربَّهم، لا تعزب قلوبهم عن ذلك، فبه زكَتْ أعمالُهم وصوّبت عقولهم، فهو يتعاهدهم بلُطْفه ويسُوسُهم بتوفيقه؛ فقلَّ عند ذلك خطؤهم وكثُر صوابُهم، فمن كان يريد الدخول في محبَّة طاعة الله فلا يكن له ثقة إلا الله، ولا غنًى إلا به، ولا أمل غيره، يرجوه ويتخذه وكيلًا في أموره كلها، راضيًا بقضائه فيما نقله إليه من أموره، راضيًا باختيار الله له، متهمًا رأيه ولِما تسوِّل له نفسه، مسلِّمًا راضيًا عن الله، غير متجبر ولا مُتملِّك فيما أحدث الله من مرض أو صحة أو رخاء أو شدة مما أحَبَّ أو كرِه.
 
وليكن قلبه بذلك راضيًا لموضع الثقة بربِّه وحُسْن الظَّنِّ به، فإذا كان العبد كذلك ورث قلبُه المحبَّة له والشوق إليه، وصار إلى منزلة الرِّضا بما كفاه وحماه من الدنيا وإن قَلَّ، وأخرج من قلبه مطامع المخلوقين، فاستغنى بالله فجعله الله من أُولي الألباب، ثم ألهمه مولاه علمًا من علمه فعرَّفه ما لم يكن يعرفه، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، فعن الله أخذ علمه، وبأمر الله جلَّ ذكره، تأدَّب فطهرت أخلاقُه لمَّا آثر أمر الله ولجأ إليه، فتمَّت عليه نعمةُ الله في الدنيا والآخرة.
 

إذا أذِنَ الله فِي حَاجَةٍ
أتاكَ النَّجَاحُ بها يرْكُضُ

فأولئك المحبوبون في أهل السماوات المعروفون فيها، خفي أمرُهم على أهل الأرض، وظهر أمرُهم لأهل السماوات، لكلامهم هناك دويٌّ، ولبكائهم حنين تقعقع له أبوابُ السماء من سرعة فتحها إجابةً لدعائهم، فأعْظِمْ بهم عند الله جاهًا ومنزلةً! وأعظم بهم خوفًا من الله وحسن ظن به! فهم مسرورون بربهم، قريرة أعينهم طَرِبَة قلوبهم بذكره مشتاقة ساكنة مطمئنة إليه، تقدموا الناس وانقطع الناس عنهم، وأشرفوا على الناس، واشتغل الناس عنهم، فعجبوا من الناس وعجب الناس منهم!
 
انقطعوا إلى الله بهمومهم وأهوائهم وتعلَّقوا به، ولجئوا إلى الله لجأ المستغيثين به المتوكلين عليه، قد تخلَّصت إليه عقولهم بالمودَّة، فأنزلوا نسيانه معصية محرمة عليهم، فقبلهم واجتباهم ونعَّمَهم وخصَّهم وكفاهم وآواهم وعلَّمهم وعرَّفهم[4]، وأسمعهم وبصَّرهم، وحجبهم عن الآفات وحجب الآفات عنهم، وأقامهم مقام الطهارة، وأنزلهم منازل السلامة، وأقام قلوبهم بذكره، فلم يريدوا به بدلًا ولا عنه حِوَلًا، صيانة لديه، وطربًا واشتياقًا إليه، قد أذاقهم من حلاوة ذكره، ليس لهم مسكن غيره، تضطرب قلوبهم عند فقده حتى ترجع إلى موضع حنينها.
 
ولهم في كل يوم وليلة منه هدايا مجددة، فتارة يغلب على قلوبهم تعظيم ربهم وجلاله، وتارة يغلب على قلوبهم قدرته وسلطانه، وتارة يغلب على قلوبهم آلاؤه ونعماؤه، وتارة يغلب على قلوبهم تقصيرهم عن واجب حقِّه، وتارة يغلب على قلوبهم رأفته ورحمته، ولهم في كل تارة دمعة ولذة، وفي كل دمعة ولذة فكرة وعِبرة، وقلوبهم مستقلة به عمَّا سواه، فهم يُسقون من كل تارة مشربًا سائغًا يذيقهم لذته، ولهم في كل مقامِ علمٍ زيادةٌ يعرِّفهم ما يحدث لهم في قلوبهم من الزيادة، فلو رأيتهم وقد انقطعت آمال الخلق عنهم، وأفضوا إلى الله جل ذكره بجميع رغباتهم، وانزاحت الأشياء الشاغلة عن قلوبهم، فصُمَّت عنها أسماعُهم، وانصرفت أبصار قلوبهم إليه، حتى إذا جنَّهم الليل وزجرهم القرآن بعجائبه من وعده ووعيده وأخباره وأمثاله شربوا من كل نوع كأسًا من الزجر والتحذير والأخبار والأمثال والوعد والوعيد، ووجدوا حلاوة ما شربوا حتى إذا صفا يقينهم ارتفعوا إلى عظمة سيدهم وجلال مولاهم، فخضع كل عضو منهم لله، وخشعت كل جارحة منهم لسكونها إليه، غير منتشرة عليهم همومهم، بل كل ذلك لذاذة لاستماعه، فقد كشف لهم القرآن عن أموره، وكشف لهم عن عجائبه فيفهمونه.

 
فهم يزدادون لله ذكرًا ومودةً ومحبةً في كل ما امتحنهم به من أمر الدنيا والآخرة، فقد أعرضوا عن كل نعيم عاجل أو آجل، واشتغلوا عن النعيم بذكر مولاهم، وكل ذلك مِنَّةٌ منه وتفضُّلٌ عليهم، فهم أدِلَّاء لعباده، وأعلامٌ في بلاده، فهم بركةٌ بين ظهرانينا، يحبُّون الله ويحبون ذكره، أقاموا مشيئتهم فيما وافق محبة ربهم، يغضبون لغضبه، ويُحبون لمحبته.

 
خفَّتْ عليهم مؤنة الدنيا فلم ينافسوا فيها أحدًا، فتلك حالاتهم في المطعم والملبس ما تهيَّأ أكلوه ولبسوه، ورثوا نور الهدى فأبصروا مواضع حيل إبليس ومكره، فكسروا عليه كيده، ودلُّوا الناس على مواضع مكره، فهم نصحاء الله في عباده، وأمناؤه في بلاده، ثم أسكن محبتهم في ملكوت السماوات في عِليِّين، فأحبهم وحببهم إلى ملائكته"[5].

 
‏وقال بعض العلماء: "من أعظم ما مُدحت به الجنة قوله تعالى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ﴾ [الكهف: 108]؛ لأن الإنسان لو هَيَّأ قصرًا في الدنيا من ذهب وجمع فيه كل ما يحبُّه ويملأ عينه ويسرُّ قلبه، وأقام في ذلك المكان بعينه مدة؛ فإنه يملُّه ويودُّ لو انتقل إلى هيئة أخرى من التلذُّذ، إلا منزلته في الجنة؛ فإنه لِفَرْطِ ما هو فيه من النعيم الذي لا يُمل ولا يُبلى، والسرور الذي لا يُسأم ولا يفنى، فإنه لا يبتغي عن منزلته حِولًا، ولا عنها بدلًا"[6].
 
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله ومن تبعه بإحسان.


[1] المحبة لله لأبي إسحاق الختلي (1/ 106) (248) وهو من أحاديث بني إسرائيل.

[2] أي: فضله ومنَّته.

[3] وهي البصائر، والغالب إطلاق البصر لما في الرأس، والبصيرة لما في القلب.

[4] ذكر العلم بالله والمعرفة به وكلاهما بمعنى واحد إن افترقا، والجادَّةُ استعمال لفظ العلم، وهو مُغْنٍ كافٍ شافٍ، ولا بأس بلفظ المعرفة، وقد ورد في السُّنَّة فلا إشكال فيه.
وعليه؛ فعند أهل السلوك أنَّهما إن اجتمعا فيُراد بلفظ العلم بالله العلم بأسمائه وصفاته وأفعاله تبارك وتعالى، ويُراد بالمعرفة به سلوك القلب مع ربه وأدبه وحاله معه، فالعلم هنا قول القلب، والمعرفة عمله، والله أعلم.

[5] المدخل لابن الحاجِّ (3 / 32 -39) مختصرًا.

[6] انظر: تفسير القرآن العظيم للسخاوي (1/ 504).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢