هذه الثورة. . من صنعها
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
للأستاذ محمد سعيد العريان
ليس الأدب بمعزل عن السياسة، وما ينبغي أن يكون عنها بمعزل؛ فإن الأدب بمعناه الرفيع، هو الذي يوجه الإنسانية المعاصرةإلى مثلها العليا، ويسددها إلى أهدافها البعيدة، ويرسم لها الطريق إلى الحياة الفاضلة التي يجب أن تكون. والسياسة بمدلولها العام هي معنى قريب من ذلك؛ لأنها - فبما يزعم أهلها - هي التي توجه الناس أو توجه حياة الناس الوجهة التي تتحقق بها مثلهم العليا ويبلغون أهدافهم البعيدة، وتمهد لهم الطريق إلى الحياة الفضلى؛ فليس الأدب والسياسة إذن في الاصطلاح الحديث إلا كلمتين تقعان على معنى واحد أو معنيين متقاربين في الوسيلة متحدين في الغاية.
وقد مضى العصر الذي كان يقال فيه لبعض المشتغلين بالأدب، أو لبعض المشتغلين بالسياسة: هذا من الأدب وهذا ليس منه.
فقد كان ذلك في زمن لم يكن الأدب فيه إلا فناً من فنون القول لا من فنون التوجيه.
أما اليوم فان الأدب هو الذي يوجه الساسة قبل أن يوجه الجماهير؛ لأنه يصنع للساسة برامجهم التي يقودون باسمها الجماهير.
تلك حقيقة مؤكدةلا سبيل إلى نقضها، وفي السياسة العربية المعاصرة آلف دليل عليها؛ فقد تغني أدباؤهم بالحرية قبل أن يهب في البلاد العربية كلها زعيم واحد للدفاع عن الحرية، فلما صار غناهم بالحرية وجداناً يتجاوب في ضمائر الجماهير، أوجد ذلك الوجدان زعماء الدعوة إلى الحرية. وقد تغني أدباؤهم بالوحدة العربية قبل أن يجرؤ زعيم عربي واحد أو يخطر على باله أن يدعو لوحدة عربية؛ فلما جرت أغنيتهم بالوحدة مجرى الدم في نفس كل عربي بين ساحل الأطلسي وجبال الكرد، نشأ الزعيم، أو نشأ الزعماء الذين يدعون إلى وحدة عربية. وكانت الدعوة إلى المساواة وإلى رعاية حق الفقراء في ثروات الأغنياء، هتافاً أدبياً ينظمه الشعراء ويتحدث عنه الأدباء ويقصه أهل القصة، قبل أن يكون مذهباً سياسياً يتمثل في قوانين ولوائح وبرامج أجزاب سياسية. وما تزال على ألسنة الأدباء وعلى أطراف أقلامهم، دعوات إنسانية أخرى، لم تتبلور بعد معانيها أو تتخذ مدلولاتها لتخرج من نطاق الشعر والقصة والمقال المكتوبة والأغني الهازجة، إلى أن تكون برنامجاً من برامج الإصلاح لحزب سياسي جديد او حزب قديم متجدد، ولكنها ستبلغ هذه الغاية يوماً، فتضيف الأحزاب السياسية إلى برامجها مواد جديدة لم تزل اليوم فصلاً من كتاب أو رواية من قصة أو مقطعا من أغنية. آمنت بهذه الدعوة منذ كنت، ويؤمن بها معي المئات أو الآلاف من كل ذي رأي وذي بيان؛ وما أرى أحداً غير هؤلاء المئات أو هؤلاء الآلاف حقيقاً بأن يسمى أدبياً، لأن الأدب إن لم يكن توجيهاً فهو ليس إلا ببغاوية خرساء، لها صوت وليس لها صدى.
والآن إذ تقررت هذه الحقيقة فإني أدعو إلى الكلمة التي جعلتها عنواناً لهذا المقال، فأسأل عن هذه الثورة التي نعيش في أحداثها المتتابعة منذ 23 يولية الماضي.
من الذي صنعها؟.
قبل مولد الصبح من يوم الأربعاء الثالث بعد العشرين من شهر يوليو، كان بضعة نفر من خيار المصريين على صهواتهم، أو على دباباتهم، يريدون أن يقتحموا حصناً منيعاً من حصون التاريخ.
فلم يكد يشرق صباح ذلك اليوم حتى كان كل منهم على باب من أبواب ذلك الحصن يقرعه قرعاً متصلا، فلم تلبث مغاليقه أن تحطمت، فإذا هم وقوف في ساحة الحصن ترفرف على رءوسهم الراية التي لم ترفرف على رأس مصري منذ انهارت مقاومة طومان باي في وجه الغزاة العثمانيين منذ أربعة قرون ونصف قرن؛ وبدأ الزمن من يومئذ يكتب صفحة جديدة في تاريخ مصر، وما زال من يومئذ يكتب كل يوم فصلاً جديداً.
كان من صباح الأربعاء الثالث بعد العشرين من يولية الماضي، فهل يكون يوم الأربعاء ذاك، وهو أول تاريخ تلك الثورة، أو مولد تاريخها؟.
هذا هو السؤال في صورة أخرى.
ولكن المصريين في ذلك اليوم لم يكونوا بمعزل عن تلك الحركة التي كانت هي أول الثورة في عرف المؤرخ الواقعي؛ فقد كان في نفس كل مصري من الملايين العشرين ثورة تضطرم، فما كاد يرتفع هتاف أولئك النفر من خيارهم حتى رجعت صداه تلك الملايين، فإذا هي ثورة شعب كامل لم يتخلف عن موكبها فرد منه.
فهل كان أولئك الملايين العشرون شركاء في التدبير وفي رسم الخطة وفي السعي على ذلك الطريق المظلم قبل مشرق الصبح بساعات إلى أبواب ذلك الحصن المغلق؟ وهل كانوا على علم بصير بالمنهج وبالقيادة وبالنتائج قبل أن ينكشف شئ من ذلك للعيان؟ هذا افتراض تأباه طبائع الأشياء؛ فلم يكن لأولئك الملايين العشرين شأن في التدبير، ولا مشاركة في رسم الخطة، ولا صحبة على ذلك الطريق المظلم، ولا علم بصير أو علم مستنبط بالنهج والقيادة والنتيجة؛ ولكنهم مع ذلك كانوا مؤمنين بأنهم هم الثائرون، الساعون إلى حصن الظلم والظلام لتحطيمه ودك بنيانه.
وكان الهتاف والفرح فرحهم؛ لأن الفوز كان منسوباً إليهم جميعاً لا إلى بضعة نفر منهم؛ فهل يكون ذلك إلا دليلاً على أن هذه الثورة التي بدت طلائعها للعيان في ذلك الصباح، ولم يكن ذلك الصباح أول ميلادها، لأنها كانت مولوداً نامياً من قبل ذلك التاريخ بأمد بعيد!.
وإذن فمتى كان ميلادها الحقيقي؟.
هذا هو السؤال في صورة ثالثة.
إنها ثورة، وهي ثورة عارمة انبثقت من إحساس الملايين، وهي بعيدة الميلاد الحقيقي عن اليوم الثالث بعد العشرين من شهر يولية؛ كالبذرة الحية في الأرض الخصبة تغطيها طبقات من التراب، ويتعاورهاالحر والبرد، ويتعاقب عليها الجفاف والمطر، وتتقلب عليها رياح الشمال ورياح الجنوب؛ ولكنها لا تنبت إلا حين يحين موعد نباتها؛ فليس أول تاريخها هو اليوم الذي نجمت فيه على سطح التربة، لأنها ذات تاريخ قديم تحت التراب؛ وإنما أول تاريخها يوم حفر لها غارسها في الأرض ثم قال لها انتظري حتى يحين موعد نباتك؛ فمن الذي أودع بذرة تلك الثورة هذه الأرض الخصبة وقال لها انتظري يوماً مثل يوم 23 يولية؟ هذا هو السؤال في صورة رابعة، وهو هو السؤال الذي جعلته عنواناً لهذا المقال!.
إنما أودع تلك البذرة هذه الأرض، أحرار الفكر وأصحاب البيان وذوو الأقلام والألسنة، منذ كان في مصر خطيب وقاص وشاعر وكاتب وذو بيان.
أولئك الأدباء الأحرار الموجهون، هم صانعو تلك الثورة؛ لأنهم هم، ولا أحد غيرهم، الذين أودعوا الأرض تلك البذرة التي استكنت إلى موعدها؛ فلما حان موسم النبات انطلق أولئك النفر الأخيار على صهواتهم، أو على دباباتهم، ليقتحموا ذلك الحصن المنيع من حصون التاريخ؛ فاقتحموه.
وكان انطلاقهم كهبوب نسيمات الربيع على الأرض الخصبة، أذاناً بحلول موسم الإنبات؛ فانفرق التراب عن النواة، وانفلقت النواة عن الشجرة، ثم كانت الزهرة والثمرة، واستكملت الثورة مظاهرها.
ادرسوا أدب ما بين الحربين، واقرءوا كل حرف وكل كلمة وكل نغمة مما كتب الكاتبون أو نظم الناظمون أو قص القصاص أو غنى المغنون خلال تلك الفترة، تعرفوا على وجه اليقين من الذي صنع هذه الثورة.
بلى إنها ثورة سياسية بعيدة المدى، ولكنها قبل أن تبدو طلائعها بسنين، كانت ثورة مفكرين أحرار! مفكرونأحرار، أودعوا بذرتها هذه الأرض الخصبة ثم تواروا فما يكاد يذكرهم أحد؛ أو لعلهم يذكرون، ولكن بغير ما يجب لهم من التوقير وعرفان الجميل؛ لأنهم تحت مجهر الثورة أقزام بجانب العماليق الضخام من أعلام السياسة.
.
ولكل عصر موازين! محمد سعيد العريان