أرشيف المقالات

المسافة بين القول والعمل - سلمان بن فهد العودة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
بل إن شئت فقل: هي المسافة بين الدعوى والعمل، فإن القول الصادق، القول الجاد، هو جزء من العمل، هو عمل اللسان ، وهو أول عمل شرعي حسي يقوم به المكلف حين ينطق بالشهادتين، معلناً الدخول في الإسلام.

وهذا العـنوان مقتبـس من قصيدة الطغرائي الشهيرة (لامية العجم) حيث يقول:

 
غاض الوفاء ، وفاض الغدر، وانفرجت *** مسافة الخلف بين القول والعمل

لكن الشيء الذي أعنيه تحديداً الآن هو أهمية العمل كقيمة أساسية في الإسلام، لحفظ الدين، وعمارة الدنيا ، وأن وجوب العمل قاعدة ضخمة مستقرة، تحتشد حولها مئات النصوص القرآنية والنبوية. 

العمل أساس نجاح الفرد، أو فشله، وأساس قوة المجموع أو ضعفه، وأساس السعادة الدنيوية، وأساس النجاة الأخروية.
وبالتعبير الشرعي، فـ (العمل الصالح) هو القيمة المعتبرة، والتي تترتب عليها آثارها المحمودة في العاجل والآجل.

وهذا العمل الموسوم بالصلاح، هو الذي تتحقق فيه الشروط الضرورية، والتي جملتها:

أ- صلاح النية، وحسن المقصد، وهو ما يعبر عنه بالإخلاص.
ب- موافقة السنة، والتزام الشرع، وهو ما يعبر عنه أحياناً بالمتابعة أو بالصواب.
وهما مجتمعان في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: من الآية 2].

فحسن العمل يدور على هذين القطبين، أي: أكثر إخلاصاً لله، وأكثر إصابة للشريعة، والتزاماً بالمنهج، ولهذا لم يأت في النص القرآني التعبير بـ: أيكم أكثر عملاً..وكلمة الفـضيل بن عياض في هذا الباب معروفة، قال في تفـسير آية الملك: {أَحْسَنُ عَمَلًا}: أخلصه وأصوبه ؛ فإن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صـواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً (انظر: العبودية لابن تيمية).

ولقد حاولت أن أحصي المواضع التي وردت فيها كلمة (العمل الصالح) في القرآن الكريم ، بتصريفاتها، مع المحافظة على اللفظين، فوجدتها نحواً من تسعين موضعاً.
أما كلمة (العمل) مع وصف آخر غير الصلاح، أياً كان، أو مطلقة غير موصوفة، فهي أكثر من ذلك بكثير، إنها حسب إحصاء سريع...
نحو من ثلاثمائة وستين موضعاً، ولا يخلو سرد تصريفاتها من فائدة: عمل، يعمل، يعملون، اعمل، اعملوا، عامل، عاملون، عاملة، عمل، أعمال...
الخ (انظر: معجم ألفاظ القرآن، إخراج مجمع اللغة العربية [2 / 249 – 252]).

إنها إشادة صريحة بأهمية العمل وقيمته وضرورته للحياة، بل وللموت أيضاً، حتى الموت هو عمل يتدخل فيه جانب الإرادة، ولهذا قال سبحانه: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة:132].

ولقد قامت في مدارس الفلسفة الغربية -والأمريكية منها على وجه الخصوص- سوق رائجة حديثاً للاتجاهات التي تهتم بالعمل والإنجاز والأداء، وتعتبر هذه فلسفة الحياة الحقيقية، دعك من الفلسفة التي يسمونها "براجماتية" وهي النفعية الواقعية التي تعتبر أن مقياس الحقيقة في المعرفة هو وجود نتائج عملية ملموسة لهذه المعرفة، أي: أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة المفيدة للممارسة، وليست المعرفة النظرية المجردة، المقطوعة الصلة بالواقع (انظر: قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سامي ذبيان وآخرون، ص 85).

إن تلك الإشادة الربانية بقيمة العمل تحمل تسفيهاً مباشراً، لاتجاهين جائرين عن المحجة:

أولهما: الاتجـاه العـامل على غير هـدى ولا بصيرة، والذي لا معرفة له بالأسباب الشرعية والطبعية، أولئك الذين يوصف عملهم بأنه سيء، أو شر، أو حابط، أو خبيث، أو خاسر..
فإن كان هذا العمـل دينياً لم يقبـل، ولم يرفع، ولم تحصل به نجاة في الدار الآخرة .

وإن كان دنيوياً لم يؤت ثمرته المطلوبة، ولم يحقق نتيجته المرقوبة، لأنه لم يكن مبنياً على نظر صحيح، أو تجربة صادقة.

ولهذا قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ .
عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ .
تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً .
تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}
[الغاشية:2-5] وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف:103].

ويندرج في هذا التيار كل نحلة أو مذهب أو طريق يضلّ عن صراط الله، فيعبد الله على جهل وضلال، كالمتعبدين والعاملين الناصبين من أهل البدع ، خوارج كانوا، أو صوفية، أو غير ذلك.
كما ينـدرج أصحـاب المدارس المنهجية التغييرية التي لم تحسن قراءة النواميس والسنن الإلهية، فبنت أسلوبها في العمل والحياة على تلك القراءة الفاسدة، فكان أمرها كما قال الله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّـهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل:26].

وأجلى صـورة معاصرة لذلك الشـيوعية بقاعدتها الفلسفية، وبنائها السياسي والحـضاري، الذي تهاوى بطريقة لم يـكن يتوقعها أكثر المتفائلين، وعادت إنجازاته عبئاً عليه...كيف يتخلص منها، كيف يوقف تراجعها السريع، كيف يحافظ على الحد الأدنى منها؟....
الخ.

أما الاتجاه الآخر فهو الاتجاه الراكن إلى القـعود، وترك العـمل، والإخلاد إلى الدعة، الاتجاه الغافل عن سنـن الله، فهو يريد أن تأتيه أمانيه طوعاً بلا كدٍ ولا تعب، وهذا، وإن كان صعب التحقق لما في طبع الإنسان من الحركة والفاعلية، إلا أنه متحقـق من وجوه أخر، تبدو في أولئك المسـترسلين وراء كل شهوة أو رغبة، المتقنعين تحت اسم أو شعار ظنوا أنه يكفيهم.

فاليهود كانوا يقولون: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة.
ثم جاء النصارى فقالوا مثل قولهم، وادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: من الآية 169]، نعم؛ كانت الآية لليهود والنصارى لكنها للمسلمين واجبة أيضاً؛ إذ السنة واحدة، وكما قال حذيفة رضي الله عنه: "نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم الحلو، ولهم المر".

كما أنه متحقـق في أولئـك الذين لا هدف لهم، ولا غاية يسعون إليها، فهم أسرى للصـروف، والظروف، والأعـمال التفصـيلية، والمجـريات اليومية والأحـداث الآنيـة، لا ينتـظم سلوكَهم منهجٌ، ولا يربط بين أعمالهم رابطٌ غارقون في أعمال ليس لها معنى، فأحدهم يعمل في الوظيفة ليسدد أقساط البيت ويسكن في البيت لينام ويأكل ويشرب، ويشرب ويأكل وينام ليستقوي على أداء العمل!، دوامة آلية ليس لها روح، ولكن الغارق فيها قد يلهو حتى عن إدراك الخلل، بل الخواء الذي يكتنفه.
وأبعد من ذلك مهوى، أصحاب المدارس الفلسفية الخاوية، كالسفسطائية من المتقدمين، والعدميين من المتأخرين، الذين يرون ألا قيمة للعقل، ولا قدرة له على المـعرفة، وما يعده الإنـسان وجوداً هو في الحقيـقة لا شيء، ويرفضون القيم الأخـلاقية، ويَسْعَوْن للهدم دون أن يمتلكوا البديل الصالح، ولقد كانت العدمية هي الأيديولوجية السياسية لحزب روسي نشأ عام 1870م، وكان هدفه تحطيـم النـظام الاجتـماعي القـائم، دون أن يكون في نيته إحلال أي نظام آخر محله...
وقد اشتهرت فلسفة العدمية بربطها بهذا الحزب.

وكثيرون يتبرمون من واقع معين، ويسعون في تدميره، ولا يعنيهم أن يكون البديل عنه هو الفوضى، وعلى حد قول القائل: "عليّ وعلى أعدائي" أو قول الشاعر العربي:

 
رُبَّ يومٍ بكـــــــيت منه فلما *** صِرْتُ في غيره بكيت عليهِ

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير