دولة بلا دين!؟
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
ما هذا الكلام الفارغ الذي نقرأه في بعض صحف مصر؟ فمن دعوة إلى حذف النص على دين الدولة من الدستور. ومن انتقاد للدولة الدينية، ومن أمثال ذلك تفيض به الصحف، وتنطلق به الأقلام؟ والعجيب أن هؤلاء الذين يأتون بهذا الكلام، لا يعرفون الإسلام، ولا يعرفون علوم العصر؛ فهم يقررون بأن مصر هي الدولة الوحيدة التي نص في دستورها على أن دينها الإسلام، مع أن المثقفين الثقافة القانونية يعلمون أن على ظهر الأرض اليوم تسع عشرة دولة قد اشتمل دستور كل واحدة منها على مثل هذا النص هي: السويد والنرويج والدانمارك وأيرلندا والأرجنتين وبارغواي وبوليفيا وكولومبيا وبيرو وكوستاريكا وبناما وإيران وبولونيا ورومانيا ونيكاراغوا والأفغان واليونان وبلغاريا وسيام، حتى أن منها من نص دستوره على مذهب معين كاليونان وبلغاريا (الأرثوذكسية الشرقية) وبولونيا (الكاثوليكية الرومانية)، ورومانيا (الأرثوذكسية الرومانية)، ونيكاراغوا وبوليفيا والأرجنتين وبارغواي (الكاثوليكية الرسولية الرومانية)، وإيران (الجعفرية الاثنا عشرية)، والسويد (الإنجيلية السليمة على الصورة التي رسمتها طائفة أوغسبورغ الطاهرية وأقرها مجمع أو بسال سنة 1593)، ونروج والدانمارك (الإنجيلية اللوثرية)، وأيرلندا وبيرو (الكاثوليكية الرسولية الرومانية)، وبناما (الكاثوليكية). ونحن نقول هذا لا لنكسب لقضيتنا دليلا، ونقيم على دعوانا بينة، بل لأننا نعلم أن هؤلاء الكتاب، الداعين إلى حذف النص على الدين من دستور مصر، لا يفهمون بالحجة والمنطق والبرهان، ولا يميزون بين الرأي والرأي، بمقدار ما فيه من حق وباطل، بل بالدمغة التي يقرؤونها عليه، فإن كان عليه دمغة أمريكا فهو عين اليقين، وإن كان عليه دمغة إنكلترا فهو حق اليقين فقط.
وإن كان عليه دمغة فرنسا فهو اليقين، أما إن كان مصنوعا في الشرق فليس فيه إلا البطلان! ولا تغرر كم أسماؤهم الكبيرة، فإنها طبول، وإنهم بلا عقول، أو إنهم لا يستعملون عقولهم.
إني أقول الحق ولله لست أريد السباب. وطالما ناظرت رجالا من هؤلاء فكنت آتيهم بكلمة معزوة لإمام من أئمتنا فيسخرون منها، فآتى بأخرى في معناها لعالم أو فيلسوف من أوربا أو أمريكا فيخضعون ويخشع ويسلمون. والذي يثبت لكم أن كلامهم تقليد بلا فهم، هو أنهم سمعوا الإفرنج يقولون بفصل الدين عن السياسة، فقالوا بذلك وكرروه حتى صار من الحديث المعاد والكلام المملول، ولم يفهموا إلى الآن ماذا يريد الإفرنج بلفظ الدين. الدين عند الإفرنج هو الذي يحدد صلة الإنسان بالله.
لذلك قالوا: الدين لله والوطن للجميع، وقصروا الدين على الكنيسة. ونحن لا ننازع في شيء من هذا، ولا نقول بأن للدين (بهذا المعنى) صلة بالسياسة، ولا نقول بأن له دخلا في الدولة، ولكن ماذا نصنع إذا كان الإسلام يختلف بطبيعته عن النصرانية وعن الأديان الأخرى، بأن كان فيه ما يحدد صلة الإنسان بالله وهو الدين (العبادات)، وكان فيه ما يحدد صلته بأهله وأسرته، (الأحوال الشخصية)، وكان فيه ما يحدد صلات الناس بعضهم بعض (المعاملات) وكان فيه حقوق عامة جزائية (العقوبات) ودستورية (أحكام البيعة وما يتصل بها من مباحث الفقه)، وكان فيه حقوق دولية عامة تحدد صلات الدولة بعضها ببعض، وخاصة تحدد صلات رعايا دولة بدولة أخرى، كل هذا في الإسلام وهو موجود في كل كتب الفقه، فهل يمكن أن نفصل بعضه عن الإسلام؟ هل يريد هؤلاء المجددون المقلدون أن نحذف سورة براءة مثلا من القرآن لأنها من الحقوق الدولية وليست من الدين، كما يفهم الإفرنج من كلمة الدين؟ نحن لا نريد أن ندخل الدين، الذي هو العبادات، أي - الصلاة والصوم - في الدولة، ولكن لا نستطيع أن نقيم دولة أو نضع قانونا، مخالفين أحكام الإسلام في إقامة الدولة، وفي موضوع هذا القانون. هذا كلام واضح صريح مفهوم، صرت أستحي من إعادته ونشره، لكثرة ما قلناه ونشرناه.
ولكن هؤلاء الناس لا يفهمونه أو هم لا يريدون أن يفهموه، وهو باطل في نظرهم وسيبقى باطلا إلى أن يقرؤوه باللغة الإنكليزية في مجلة تطبع في نيويورك أو سان فرنسسكو، أو في أي قرية من قرى أمريكا، هنالك يصير حقا ويهتفون له، ويعيدونه ويفخرون بأنهم كانوا منتسبين (بالمصادفة) إلى هذا الدين العظيم. وإلا فهل يمكن أن تكون دولة بلا دين؟ لا أقول لكم اقرؤوا كتبنا ومباحث علمائنا.
بل أحيلكم على العلامة دوركايم ليثبت لكم أن ذلك ضد طبيعة الإنسان. وماذا تكون حال مصر لو خلت لا سمح الله من الدين كما يتمنى هؤلاء (العقلاء)!؟ إنه لا يبقى إلا القانون وازعا، والقانون يمثله الشرطي، فإن أنت لم يرك الشرطي فقد جاز لك أن تسرق وتزني وتعمل السبع الموبقات.
وهذه كانت شريعة إسبرطة، كانت السرقة جائزة ما لم تكشف، فأين هذا من خوف الله وازعا؟ إن المؤمن له من إيمانه شرطي مرافق لا يفارقه، يمنعه من كل محرم.
فهل من المصلحة يا حضرات العقلاء الكبار جدا، أن تمحوا هذا الوازع من النفوس؟ وماذا يضركم أو يضر النصارى أو اليهود أو الإنس أو الجن إن كان دين مصر الرسمي الإسلام؟ هل أمر الإسلام يوما بظلم أحد من الموافقين والمخالفين أو أذن به؟ هل دعا إلى فاحشة؟ هل حارب ثقافة أو علما؟ هل عارض إصلاحا أو تقدما؟ إن ذنبه أنه يحرم الزنا والفسوق والقمار والربا وسائر الفواحش والنفوس تحب هذه الأمور، وتود الانطلاق إليها بحرية كحرية المجنون الذي ينزع سراويله ويكشف عورته ويدخل المسجد، لا تريد من يقيدها ويحجزها. إنها الخلاف بين الحرية المجرمة والقيد، بين الجنون والعقل فهل تريدون أن نترك العقل ونصير مجانين؟ ومن سيكون الضحية؟ نحن! لأن أكثر هؤلاء لا بيوت لهم ولا بنات ولا أخوات، وهم عزاب فساق يريدون أن نطلق لهم العنان، ليعيثوا في بناتنا وأخواتنا فسادا، فهل نكون رجعيين جامدين إن قلنا لهم: مكانكم إنا لا نستطيع أن نسمح لكم بهذا؟ إننا حين ندعو إلى الدين، وإلى الدولة الإسلامية، إنما ندافع عن أعراضنا وأموالنا، فهل علينا في هذا ملام؟ ثم إن الديمقراطية حكم الأكثرية، ونحن (المسلمين المتمسكين) الأكثرية في كل بلدان الشرق الأدنى، فهل تريد الأقلية المتجردة المنطلقة أن نحكمها فينا؟ أين الديمقراطية إذن؟ الديمقراطية مشتقة من ديموس باليونانية، وديموس هو الشعب، والشعب يريد الحكومة الإسلامية. فهل بعد هذا كلام؟! دمشق (ع)