أرشيف المقالات

هل من سبيل إلى عودة العرب إلى مثل الإسلام

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
العليا؟ للأستاذ خليل الخوري قرأت جميع المقالات التي نشرت في العدد الممتاز من مجلة (الرسالة) الغراء، الصادر في 7 يناير.
وأعدت قراءتها المرة بعد المرة، فخرجت من دراستها والتأمل فيها بأمرين خطيرين: الأول: أن الإسلام هو الذي أضرم في قلوب العرب الجذوة المؤججة من نار الحماسة القومية والروحية، فبعثهم من صحرائهم واندفعوا في جميع الجهات وتمكنوا - وهم فئة قليلة - بما كان لهم من الأيمان الوطيد من تدويخ الإفطار والأمصار، ومن القضاء على الإمبراطوريتين العظيمتين الفارسية والرومانية اللتين كانت تسيطران على دنيا ذلك الزمان.
ولما استكملوا الفتوحات واستتب لهم الأمر، أساور في سبيل الحضارة والعلوم، فقطعوا في مضمارها أشواطاً، بزوا فيها جميع الأولين.
والثاني: أن العرب ما تخلفوا عن قافلة الحضارة إلا لما تخلوا - بل لما تخلى زعمائهم - عن المثل العليا التي فرضها لهم دينهم العظيم مبعث كل حق ومصدر كل عدل، فتكالبوا على الدنيا وحطامها. ذانك الأمران حقيقيان لا ريب فيهما: الحقيقة الأولى: تبعث في نفوسنا شعور الفخر بأجدادنا الغطاريف، والأمل بأن تعود سيرتهم الأولى فنرد شيئاً من مجدنا الضائع.
والحقيقة الثانية: تحدث لنا شجناً وحزناً بليغاً، بل يأساً من هذا التخاذل والزيغ الذي صرنا إليه بسبب هجرتنا لمبادئنا العليا، بل بسبب مروق زعمائنا وحكامنا من مهيع الهدى، وسيرهم في سبيل الضلال والأنانية والأثرة هذا هو داؤنا الوبيل، وكلنا نعرفه ونشكو منه، وكلنا العلماء والجهلاء يعرفون هذا الداء ويصفون الدواء أيضاً، فيناشدون الزعماء والحكماء بأن يعودوا إلى مثل الإسلام العليا، ويقتدوا ولو اليسير بأجدادنا العظماء في صدر الإسلام - كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب - ويروي التأريخ أن أبا بكر دعا ابنته عائشة وهو على فراش الموت وقال لها: (اعلمي يا بنيتي أني لم آخذ من أموال المسلمين وأفيائهم شيئاً، وإنما أكلت من جريش طعامهم وارتديت من خشن ثيابهم، وليس لي من أموالهم سوى هذه القطيفة وهذه البغلة وهذا العبد، فإذا مت فخذي هذا كله وسلميه إلى عمر).
ثم توفى أبو بكر فأخذت ما أوصى به وسلمته إلى عمر، فأعتق عمر العبد وأرسل القطيف بيت المال، أما البغلة فقال: (إن ركبتيك يا عمر ينبغي أن تحملاك من بيتك إلى دار الحكم) وردها إلى بيت المال، هكذا كان يفعل حكامنا الأولون. ما السبيل للعود إلى مثل الإسلام العليا؟ إن السبيل الوحيد هو تولى الصالحين الذين يتقون الله، المناصب العليا والصغرى في الدولة، وتمكينهم من الجلوس على مقاعد النيابة، فيكون ولاة الأمور وأصحاب البسط والقبض من العلماء والكتاب والفضلاء المعروفين بالتقوى والصلاح والزهد، والرغبة عن حشد المال وعن الإثراء باستغلال الوظائف. إننا نعلم أن الأمة العربية لا تخلو من الأبرار الصالحين، والفضلاء المتدينين، على أن أمثال هؤلاء الأتقياء الشرفاء بعيدون عن الحكم، وإذا شاءوا الوصول إليه وحاولوه لفشلوا يقيناً لأنهم لا يملكون وسائله وإنما يملك تلك الوسائل أهل السياسة وأهل المال، وفي معظم الأقطار العربية لا يمكن أن يكون نائباً سوى الغني المثري الذي يستطيع أن يشتري مقعداً في البرلمان من الزعيم الذي يملك القرى وسكانها، فيأمرهم بإعطاء أصواتهم لذلك الغني المثري الذي دفع له الثمن الفادح. من أجل هذا رأى أن الرجل الشريف التقي النقي مقصى عن دوائر الحكم، لا يستطيع إلا البكاء والتفجع لما يشهد في تلك الدوائر - في مقالات يدبجها وفي قصائد بنظمها - يناشد فيها أولئك الحكام أن يعودوا إلى مثل الإسلام العليا ويسلكوا في أعمالهم المحجة ويحملوا بأيديهم مصباح (ديوجنس) يبحثون بضوئه عن الصالحين المختبئين المنكمشين في الزوايا، وينتقونهم لولاية مصالح العباد.
ومن سخرية الأقدار أننا نرى أولئك الحكام يشاركونه في دعوته وفي بكائه وفي شجب الشر والإثم وفي استنكار الخروج على الفضيلة، وهم ممعنون في اجتراح الحرب، لماذا لا يكون المثاليون المتحلون بمكارم الأخلاق من رجال الحكم، ولماذا لا نرى في الغالب الحاكمين وكبار أصحاب المناصب، حتى الصغار إلا من طمغات الانتهازيين والوصوليين، وإن وجد في دور الحكم المتنزهون عم المطامع، فهم نفر قليل. يقول دعاة الشر والخبث إن هذا الجيل جيل فاسد، وأنه ينبغي لنا أن ننتظر الأجيال القادمة التي يؤمل منها الخير - ألا فقولوا إن هذا الكلام يراد منه التخدير وإلهاء الأمة عن الشرور التي ترتكب - فإن هذا الجيل كغيرة من الأجيال، فيه الصالح وفيه الطالح، ومن الواجب أن نسعى ونبذل الجهود في منع الطالحين من تولى مقاليد الأمور، وفي تمكين الصالحين من الوصول إلى الحكم. ويخيل إلى ولا أراني بعيداً عن الخطل فيما أتخيل، أنه لو أتيح لأصحاب المثل العليا من الأنقياء الأتقياء أن يلوا الحكم في البلدان العربية، لكانوا نجوماً يقتدي بهم ويهتدي، ولكانوا ينتقون ذوي الصلاح والتقوى لتقلد الوظائف والمناصب في الدولة، ولكانوا اتفقوا على وحدة الأمة ولو اقتضت الوحدة خسران مناصبهم، ولما كانوا رضوا ببقاء هذه الدويلات الهزيلة السقيمة التي لا وزن لها بين الدول، والتي هي أقوى الحجج على انحطاط العرب وتخاذلهم في وجه الأخطار التي تحيق بهم من جميع الجوانب، ولكانوا انتزعوا السخائم من قلوب العرب، ولموا شعثهم وجعلوا منهم دولة واحدة موحدة، فتزول الحواجز والحدود المصطنعة، وتعطى الحرية لتنقل الأشخاص والأشياء في جميع أراضي الناطقين بالضاد. ولكن كيف يكون ذلك وما السبيل إلى تمكين الانقياء الحقيقيين من ولاية الأمر في الدولة؟ وتعن لي ثلاثة تدابير ينبغي أن نتخذ لمحاولة الوصول إلى تلك الأمنية التي ننشدها: التدبير الأول: إن معظم الناس يجهلون ما في الإسلام من المثل العليا، ويزدرون الدين ويستهترون - ولعل السبب الأكبر في ذلك هو أنهم لم يربوا التربية الدينية في طفولتهم، ولم يتعلموا تعليما دينيا صحيحاً في المدارس - ويا حبذا لو جعل التعليم الديني فرضاً في جميع المدارس العربية وفي جميع مراحل الدراسة حتى الجامعية، وينتقى لهذا التدريس كبار العلماء المثقفين الشرفاء، وبهذه الطريقة ترسخ مبادئ الدين العليا في قلوب النابتة من البنات والبنين، وتظل راسخة إذا ظلوا يتلقنون الدراسة في المعاهد العليا، وإلا محيت من النفوس، وينشأون على احترام دينهم وما فيه من أدب للدنيا والدين.
ومثل هذه التربية قمينة على العموم أن تجعل الخير غالباً على الشر، وتخلق فتياناً ذوى تقي ينشرون الفضيلة والحق أينما علموا، أفي الحكومة أم في غيرها. التدبير الثاني: هو تدبير ذو أثر عاجل، ومؤداه أن يعني كبار أصحاب المناصب في الدولة الذين هم من أصحاب المثل العليا، ووجدوا في دور الحكم من قبل القضاء والقدر الميمون، أقصى العناية لاستخدام الذين يخافون الله، والذين هم شجعان صناديد على الباطل، جبناء رعاديد على الحق، فإذا فعلوا ذلك خففوا من وطأة الشر المستفحل. التدبير الثالث: يكون في جعل الانتخابات للبرلمان حرة إلى أقصى الحدود.
إن النظام البرلماني إنما هو بدعة غربية استوردنا غيرها من كثير البدع التي نشأت في أوربا منذ بضعة قرون، أخذناها بجميع عجرها وبجرها.
وعندي إن صح أن يكون لي (عند) أنه يجب تعديل القوانين الانتخابية في الأقطار العربية، بحيث تشمل القواعد الآتية: القاعدة الأولى: أن تقسم الدولة إلى دوائر انتخابية مستقلة ولا يرشح للانتخاب في الدائرة إلا أحد أبنائها، لأنه لا يعرف أدواءها وظلاماتها سوى أبنائها. القاعدة الثانية: أن يلغي نظام القائمة المعمول به في بعض البلدان العربية، فانه نظام فاسد، ومحصله أن المرشح الذي يفوز في الانتخاب لا يمثل الدائرة أو الدوائر التي يشملها نفوذ القائمة، وإنما هو يمثل الزعيم نفسه، ويخدم في المجلس متى وصل إليه مصالح الزعيم ومطامعه، لا مصالح الأمة. القاعدة الثالثة: أن يرشح الشخص مستقلا منفصلا عن الأحزاب والهيئات والحكومات. القاعدة الرابعة: أن تلغى الدعاوات بشكلها الحاضر المخزي الفاضح، لأنها تجرد الناخبين من حريتهم في انتخاب من تلهمهم لانتخابه ضمائرهم، ولأنه لا يستطيعها سوى أصحاب الأموال الذين ينفقون عليها فاحش المبالغ من الأموال، فيحرم الشرفاء المخلصون الأتقياء الوصول إلى مقاعد النيابة، لأنه ضآلة أموالهم وأنفتهم وعزتهم تربأ بهم عن القيام بمثل تلك الدعاوات، وبذلك تحرم الأمة الانتفاع من أبنائها الأبرار، ويحكمها بهذه الطريقة الأغنياء التجار، ويسود نظام (البلوتارخية).
تأمل أن في الدائرة الانتخابية مرشحين، أحدهما مثر والآخر لا مال له.
الأول يقيم الحفلات والمهرجانات يوماً بعد يوم، يحشد إليها الناس ويغدق عليهم العطايا وأطايب الطعام والشراب والدخان، والثاني لا يستطيع من ذلك شيئاً (أولاً) لقلة ماله و (ثانياً) لأنه يراه شناراً وخزياً.
وبمثل هذه الأساليب تصبح مؤهلات النائب الواقعية المال والثراء، لا العلم والإخلاص ومكارم الأخلاق، فيا وبلنا مما نحن فيه من الأوصاب التي لن تفضى بنا إلا إلى شر المآب. القاعدة الخامسة: أن يكون عدد النواب أقل ما يمكن، ويجب أن ينقص النواب في كل قطر إلى نصف عددهم الحاضر، ولا يزاد ولو زاد السكان. ويا حبذا لو أنعم كتاب (الرسالة) الغراء الروية في هذه الشجون التي يعانيها العرب أجمعون، لعلهم يهتدون إلى سبل قويمة لإصلاح النظام القائم إصلاحاً، يمكن أصحاب المثل العليا من أهل العلم ومكارم الأخلاق من تولى مقاليد الأمور، ومن الوصول إلى مقاعد النيابة التي هي مصدر السلطات كلها. طرابلس الغرب خليل الخوري القاضي في طرابلس الغرب

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢