بين صريف القلم وصريره
مدة
قراءة المادة :
23 دقائق
.
بين صريف القلم وصريرهالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى صحبه وأزواجه وأبناءه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن ظاهرة الصراع بين الأقلام وإن كانت قديمة، إلا أنها تمثل اليوم أحد أهم وأشهر أوجه وسائل الصراع الكثيرة بين أهل الحق من جهة، وأعدائه من أهل الباطل من جهة أخرى، ولذلك نرى كلًا من الطرفين يتخذها ويجعل منها حجر أساس في هذا الصراع، وهي - وتبعًا لذلك - لا تزال تتجدد بين الحين والآخر - كيفًا وكمًا - ولعل ذلك - والله اعلم -؛ لأنه قد جرت المقادير الإلهية بها، فقد قدر الله - عز وجل - هذا الصراع، وجعل هذا العراك بين الأقلام - صريرًا وصريفًا - قائمًا إلى قرب قيام الساعة، لحكمة بالغة، فمشهد الصراع بينها لم يغب، ولا يغيب، ولن يغيب.
والمتأمل لهذه الصراعات أو تلك، والمتابع لها - من حين إلى حين - يرى أنها قد تخبو حينًا، بينما تتعظم حينًا أخر، وبات من الواضح والمشاهد اليوم، أنها تنامت بصورة لم يسبق لها مثيل في كل هذه السنوات المتأخرة؛ ولكثرتها فشت فشوًا ظاهرًا وجليًا وملحوظًا بحيث لا يكاد بل من غير الممكن أن يخفى على أحد.
ولقد كان أهل الباطل في كل ذلك - ولا يزالون - يهدفون من حملاتهم الكثيرة - هذه أو تلك - على طول تلك الصراعات النيل من الإسلام، فنراهم يتطاولون على الإسلام وحملته، ويسعون جاهدين إلى تشويهه ورموزه، بصور متنوعة تعلوها في أحيان كثيرة العدوان والمكابرة، والمهارشة والمغالطة، يسيرون فيها متسترين تارة، ومجاهرين ومعلنين ذلك في تارات أخر، حتى باتت هذه هي السياسة المتبعة والسائدة، من الكثيرين من أعداء الإسلام اليوم، سواء أكانوا من الغرب وأبناءه، أو حلفاهم وأعوانهم، بل وحتى من فئام - لئام - ممن يحسبون - وللأسف - على الإسلام، فهم وإن كانوا - ظاهرًا - من أبناء جلدتنا، إلا أن أقل ما يمكن أن يقال فيهم، أنهم ممن يعبدون الله - عز وجل - على حرف؛ والحرف: طرف الشيء؛ ولا شك أنه إذا كان الإنسان عليه لم يكن مستقرًا؛ فلهذا كان كل من عبد الله وهذا حاله عابدًا له على حرف، فمن عبد الله - عز وجل - مثلًا على السراء دون الضراء، كان عابداً له على حرف، فهو - وأمثاله - تارة يظهرون، وتارة ينقلبون على وجوههم، مثله ومثلهم كالواقف على حرف الجبل؛ كل ذلك لأنهم - هداهم الله - عز وجل - لا يدركون المقصد الأصلي من العبادة، والذي هو: " التوجه إلى الواحد المعبود، وإفراده بالقصد إليه على كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد؛ لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون من أولياء الله - تعالى، وما أشبه ذلك؛ فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول وباعثة عليه، ومقتضية للدوام فيه سرًّا وجهرًا، بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوام المتبوع ولا تأكيده؛ كالتعبد بقصد حفظ المال والدم، أو لينال من أوساخ الناس، أو من تعظيمهم؛ كفعل المنافقين والمرائين، فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا باعث على الدوام، بل هو مقوٍ للترك ومكسل عن الفعل، ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلى ريثما يترصد به مطلوبه، فإن بعد عليه تركه، فمثل هذا المقصد مضاد لقصد الشارع إذا قصد العمل لأجله، وإن كان مقتضاه حاصلًا بالتبعية "[1].
وفيهم وفي أمثالهم - على قول عند أهل التفسير[2] - نزل قول الله - عز وجل -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ﴾ [الحج: 11 - 13].
وهذا في الحقيقة هو والله الغبن: الفاحش والظاهر، وهو الخسارة العظيمة، والصفقة الخاسرة، في الدنيا والآخرة؛ فلا هو حصل من الدنيا على شيء, وهو مع ذلك في الآخرة في غاية الشقاء والإهانة، والذل والمهانة، نعوذ بالله من هذا الحال.
ولعل أهم وأعظم الأسباب وأشهرها، والتي جعلتهم على هذه الحالة المهانة، ومن أهل هذه الخسارة: الدنيا، فترى حالهم - كما قال الله - عز وجل - في أمثالهم ممن يلمزون المتصدقين: ﴿ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ [ التوبة: 58].
وصدق رسولنا - صلى الله عليه وآله وسلم - والذي قال: (( بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا ))[3].
وبنحوه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا؛ يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل))[4].
ولك أن تتأمل معي - أخي القارئ وأنت أختي القارئة - هذه الشذرة البديعة والماتعة، من كلام الإمام الحسن البصري - وهو يجليهم وأمثالهم لنا ويصفهم - وقد ابتلي بأمثالهم، حيث يقول: "والله لقد رأيناهم صورًا بلا عقول، أجسامًا بلا أحلام، فراش نار، وذبان طمع، يغدون بدرهمين، ويروحون بدرهمين؛ يبيع أحدهم دينه بثمن العنز"[5].
قال هذا - رحمه الله - في زمن التابعين، مع وجود بعض الصحابة - رضي الله عنهم - الغر الميامين، فبالله قلي: كيف بزماننا؟!! والله - عز جل - وحده المستعان.
ولعل ما نقرأه اليوم هنا أو هناك - ليلًا ونهارًا - يؤكد هذا ويؤيده، ويبينه ويوضحه - وهو مثال له وعليه - وكيف أنهم يحاولون - مجتمعين وجاهدين - فتنة المسلمين، وصرفهم عن التمسك بإسلامهم، أو - على الأقل - إضعاف تمسكهم به؛ لأنهم يعلمون أنهم بهذا - وكما يقول بعض العلماء والمفكرين -: يسلبونهم القوة الحقيقة التي يملكونها، والتي لا شيء لهم سواها، وهم من غيرها عرضة للأعاصير والريح العاتية تناوشهم وتتناوشهم، وهم في غير منعة منه، ولا قدرة لهم على الصمود من دونه.
تنبيه:
وقبل أن أشرع فيما أردت - وبعد هذه التقدمة المختصرة - أقول: إنه لابد أن أنبه بادئ ذي بدء على مسألة مهمة ألا وهي: أن هذا الظهور والمفاجئ لهم، والذي يمكن أن يقال: إنه كان مباغتًا وغير متوقع إلى حد ما، سواء ما كان منه قد دون في صفحات التاريخ، أو ما نراه اليوم، لا يعني أن هذا أمر ينبغي الرضوخ عنده، والتسليم والقبول له والإذعان، بل على العكس تمامًا - كما سنبينه لاحقًا - ولكن الإخبار بهذا لا يعدو أن يكون سوء إبراز لصورة الحقيقة لهذا الصريف من تلك الأقلام، وبيان أن لها وجود تاريخي في هذه الأمة؛ فينبغي تقديره حق قدره؛ لا لشيء لكن لنحسن التعامل معه وعلى الوجه الذي ينبغي، وبالمقابل لا ننسى بأنه فعل قدري بحت - لحكم بالغة، وإن خفيت علينا - لا يملكه إلا خالق الوجود ومقدر الأقدار، وحده لا شريك له سبحانه - عز وجل.
ظهور القلم وفشوه:
ولقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن من علامات الساعة ظهور القلم وفشوه:
فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي– صلى الله عليه وآله وسلم - قال: (( إن بين يدي الساعة: تسليم الخاصة، وفشو التجارة؛ حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم))[6].
وشاهدنا من هذا الحديث النبوي - كما هو ظاهر - قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((وظهور القلم))، والتي فسرها علي بن معبد بقوله: " يعني: الكتاب"، أي: الكتابة؛ وقد أشار إلى ذلك أحمد شاكر حين قال: " يريد الكتابة ".
وقال ابن عبد البر: " أما قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الحديث: (( وفشو القلم ))؛ فإنه أراد ظهور الكتاب، وكثرة الكتاب"[7].
وقال الألباني: " والمراد بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (( ظهور القلم )) - والله أعلم -: ظهور الكتابة وانتشارها ".
ونحن إذا ما تأملنا في هذا الحديث قليلًا، ونظرنا إلى واقعنا اليوم، وجدنا هذا الذي أخبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عنه، وتبين - لنا ولغيرنا - وبوضوح ما وعدنا به رسولنا - صلى الله عليه وآله وسلم –؛ وذلك أن هذا الذي أخبر به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذه الجملة قد وقع، أو حتى وقع شيء منه، حتى صار ظاهرًا ومشاهدًا ولا سيما في زماننا هذا، وهو غير خاف على أحد - كما تقدم - بل هو في كثرة باطراد وازدياد؛ ولذلك يعد هذ الحديث أحد تلك الأعلام الكثيرة والمتكاثرة، الدالة على صدق مبعث رسولنا ونبينا - صلى الله عليه وآله وسلم -، بأبي هو وأمي.
والتي يمكن أن يلحق بدلائل النبوة، وإن كان دأب الكثير من العلماء - رحمهم الله - تصنيفه في أشراط الساعة.
والمهم أننا بتنا نرى اليوم كيف أن القلم فشا فشوًا عظيمًا وملحوظًا، وبات أمر ذيوعه وانتشاره مسلم لكل من له عينين، ولقد كان ذيوعه وانتشاره على هذه الصورة المربكة والمرتبكة - في بعض صوره -؛ مدعاة ليكثر عمن أخذ به ومنه: الخلط والخبط، واللغط والغلط، بحيرة مذهلة، ودهشة مستغربة، فلا غرو - والأمر كذلك أن ترى صريف أقلام الكثير منهم - إلا ما رحم الله - عريًا عن الحق، خالي الوفاض من الأدب، كثير السقط، عظيم اللغط، يؤجج الفتن، ويروج للإحن، ويثر الأحقاد، ويبعث الضغائن، قد سلك به أهله كل مسلك رخيص، ليس منه محيص، حتى جعل الكثير من الناس في حيص بيص[8]، كل ذلك، وما خفي أضعاف ذلك.
لذلك لا جرم - والأمر كذلك - أن نرى اليوم أن جملة من أولئك - والذين هم مخذولون ومخذلون - بات همهم وشغلهم الشاغل - مستغلين شعارات الحرية المشؤومة، وغيرها من الشعارات الزائفة الفارغة والجوفاء - أن يحققوا - شعروا أو لم يشعروا - لأهل الكفر والباطل، أعلى ما يصبون له؛ ويدلفون إليه، فلا تكاد تشاهد أقلامهم، أو تسمع صريفها على تلك الصحائف أو الصحف، أو الأوراق والمجلات إلا ورأيتها ساجدة أو راكعة! مستميتة وتستميت في تسطير كل ما يجعلهم دومًا في المقدمة عند ملل الكفر والإلحاد والزندقة، حتى أصبحت أقلامهم كالزند والمعصم، وصريفها كالسيف الذي يستبيحون به الإسلام ووغاه، أو كالنار التي تضرم لتلتهم الدين وحماه.
ألا شلت تلك الأكف الشوهاء، والسواعد البلهاء؛ الممسكة بتلك الأقلام، وبعدًا وقبحًا لذلك الصريف - المأجور والمستأجر - المتحامل على الإسلام وأهله أو ذاك.
ووالله لكأني بصريف أقلامهم الموتور، ودويها المأجور لا يكل ولا يمل ليلًا ونهارًا، وسرًا وإعلانًا في إفساد دين المسلمين وحياتهم، في كل نواحيها العلمية والعملية، والأدبية والأخلاقية، والفكرية والثقافية من جهة، وشغلهم وإشغالهم عن واجباتهم المنوطة بهم، وأهدافهم المرسومة لهم، من جهة أخرى، فتراهم لا هم لهم إلا أن يفتشوا هنا وهناك، وينقبون هنا وهناك؛ بحثًا عن كل زلة يمكن أن يستغلوه، وكل كبوة يمكن أن يمتطوها، وكل ثلمة يمكن أن يلجوا منها وينتقدوها، فإن عجزوا عمدوا إلى الكذب والتضليل، والتدليس في أحسن أحوالهم؛ كل هذا ليجري بها صريف أقلامهم، فيردون عن طريق الحق بها كل من استطاعوا، لا يألون في ذلك جهدًا، ولا يرقبون في مؤمن ذمةً ولا إلاً، ولا يراعون لأحد قرابة ولا عهدًا.
فبئسًا لتلك الأقلام المنكوسة، وتبًا لهاتيك العقول والآراء المنقوصة، ما أطيش صريفهم، وما أضيق أفهامهم، وما أقبح عملهم وآثرهم على الإسلام وأهله.
حقًا: لقد أذى هؤلاء أنفسهم والمسلمين، بل وحتى التاريخ، وصدقًا: لقد أتعب هؤلاء أنفسهم، وأقلامهم وصريفها، وأثقلوا صفحات التاريخ بما يشينهم وفعالهم، ويضرهم ولا ينفعهم، ولو أنهم قالوا: الخير والحق؛ لغنموا، أو سكتوا إذ لم يستطيعوا؛ لسلموا.
لقد تشعبت بفعالهم - هذه وتلك - ميادين الصراع، واتسعت بها بوتقة الخلاف، وكثر بأعمالهم تلك القيل والقال، وكثرة السؤال، وزاد بسببها صرير الأقلام وصريفها، واتسع بعملهم ذلك الخرق على الراقع، وصار الحال:
كالثوب إذ أنهج فيه البلى
أعيا على ذي الحيلة الصانع
كنا نداريها وقد مزقت
فاتسع الخرق على الراقع
بل وبسبب ذلك الصريف - من هنا وهناك - لتلك الأقلام، تفاقم الأمر، واستشرى المرض، واشتبه به الأمر على المستبصر، وخاست بسببه بضائع العلماء من أهل الحق عند كثيرين - وللأسف الشديد -، إلا من رحم الله - عز وجل - وقليل هم، ودب الوهن، وعظم الوهيُ، وعاد الأمر إلى الهزل المقوى بجد، والباطل المزين بحق، وذهب التقى، وسقط الورع، وهجر التورع والتحرج، وصار الناتج من صريف تلك الأقلام أو تلك: آراء مشوبة، وعبارات فاسدة، وخواطر لم تختمر، وفروعًا لم يؤسس لها أصول، وأصولاً لم تشرع على محصول.
فيا لله كم من كاتب منهم شطَّ به قلمُه، فطاش على الورق صريفه، فسطر به ما لا يحل له به تسطيره، وقال: ما لا يحل له قوله، ودندن حول ما لا يحسنه، وخاض فيما لا يتقنه، وسود صفحات وصحائف بالزَّيغ والضلال، وتكلّفَ في الاستدلال، فلوا أعناق الأدلة ليًا، فأخرجها عن قوالبها، وصرفها عن معانيها، وكان الناتج أن عاب ما جاء به صرير قلم غيره ولو كان على الحق؛ وكل هذا لا لشيء إلا ليوهم القارئ أو القارئة بصحة ما ذهب إليه، وسلامة ما هو عليه.
وقديمًا قيل: إذا عاب البزاز ثوبًا، فاعلم أنه من حاجته!! على أن هذا المسكين أو ذاك قد لا يدري أنه بهذا قد خاض البحر الخضم، وهو لا يحسن السباحة، ولا يملك لذلك حتى أقل أدوات السلامة.
بل جهل أو تجاهل ذلك المساكين أو ذاك أنهم بفعالهم هذه، وصريف أقلامهم تلك: يورون نارًا يوشك إن هي شبت أن تأكل الأخضر واليابس، ويقدحون بها زناد حرب تكاد إن هي قامت أن تأتي على الأول والأخر، وقديمًا قيل: عثرة الرجل تجبر، وعثرة اللسان (أو القلم) لا تبقي ولا تذر.
مقاصدهم من صريف أقلامهم:
على أنه لا شك أن لهم من ذلك الصريف أو ذاك مقاصدًا وأهدفًا أخر، ولعل من أهم هذه المقاصد - وقد أشرنا فيما سبق إلى شيء منها - التي ينشدونها من هذا الصريف أو ذاك، ما يمكننا تلخيصه في الآتي:
أولًا: تحريف الحقائق، وإلباسها لباس الباطل.
ثانيًا: امتهان الحق وانتقاصه وأهله.
ثالثًا: نشر صوره مشوهة وقاتمة عن الإسلام.
رابعًا: تلميع المناهج والأفكار الغربية.
خامسًا: هدم كل القيم الإسلامية، وإقامة القيم الكافرة والوضعية مقامها.
الواجب علينا أمام صريف أقلامهم:
إلى غير ذلكم من المقاصد والتي يظهر لنا منها خطورة ذلك الصريف من تلك الأقلام؛ ولذلك كان من الواجب المتأكد ذودًا عن حياض هذا الدّين، وانتصارًا للحق يا مسلمين، وحفظًا لشريعة سيد المرسلين، الرد على أمثال هؤلاء المبطلين؛ والوقوف أمام ذلك المد الجارف من ذلك الصريف بقوة وبحزم ومسؤولية.
وقد انبرى للدفاع عن دين الله - عز وجل - والوقوف أمام ذلك الصريف - والحمد لله - جملة من أصحاب الحق، والذين نذروا أنفسهم وأقلامهم وصريرها، لهتك صريف أقلام كل من تسول له نفسه، أن يعبث بتراث هذه الأمة، أو إسلامها، أو رموزها ...، وهم في ذلك يرث بعضهم بعضًا، ومن أجله وفي سبيله: لا يتلجلجون ولا يحجمون، ولا يجمجمون ولا يدارون، ويرفعون اللثام شيئًا فشيئًا، ويدفعون اللبس شيئًا فشيئًا، فهم بأقلامهم يصولون، وبصريرها يجولون، وفي نصرة دين الله - عز وجل - يسطرون ويسجلون، فكان صرير تلك الأقلام وربي أنقى وأبقى وأتقى.
وتعد - بحق - هذه الشبكة المحبوبة، أعني (شبكة الألوكة)، والتي ضمت بين صفحاتها وفي حناياها وطياتها، جملة كبيرة من المواقع المختلفة والمتخصصة، والتي نرى - ولا نزكيهم على الله - عز وجل - أحدًا، أن كل واحدة منها، على ثغر؛ لأكبر دليل على صدق دعوانا، فقد وعت جيدًا دورها المنوط بها، وما يقع على عاتقها من وجوب حمل (أمانة الكلمة)، وإيصال (الرسالة) كما هي، وعلى نهج السلف الأول - رحمهم الله، من غير تحريف ولا تبديل، ولا همهمة ولا تعتيم، فلم يزل الحق والخير، بعون وتوفيق من الله - عز وجل - لهم ولغيرهم ممن يحذوا حذوهم ويسير على منوالهم، معمورًا بمساعيهم، حالًا بمعانيهم، وهي إذ تسير على هذا فإنها تقوم بواجبها خير قيام، وكيف لا؟! وهم يدعون إلى كل فضيلةٍ وفضل، ونباهةٍ ونبل، ومعرفةٍ وعرف، وفُكاهةٍ وظرف، ولهم شعر يقطر ماء اللطف من رقَّته، ويَزْهَرُ نور الحُسن من حَدَقَته، وتتفجر ينابيع الحكمة من فوهته، فجزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء.
كما لا أنسى أن أقول: إن من يسير على منوالها - أيضًا - ويحذوا حذوها كثر والحمد لله - عز وجل، فكم هي المواقع، والجرائد والمجلات، والكتب والرسالات، والصحف والنشرات، وغيرها والتي تسعى جاهدة؛ ليكون صرير أقلامها، مدويًا - حقًا - بالحق وللحق وفي الحق؟!
ولذلك نرى كغيرنا أن ساحة الإسلام وميادينه اليوم، حفلت كذلك بأقلام أخذت على عاتقها، أن تنشر الحق على الصفحات نشرًا، وأن تؤيده بكل ما يلزمه نثرًا وشعرًا.
فكان لصرير هذه الأقلام المحقة أثر كبير على صريف تلك الأقلام المبطلة، والأخذ على أيديهم وبشدة؛ ليكونوا لغيرهم عظة وعبرة، وليس في هذا - كما قد يدعي البعض - كبتًا لحرية الفكر والقلم، بل هو كبح لهم عما زلت به القدم، وتطهير لهم من النجاسة التي علقت بهم حتى كادوا أن يألفوها وتألفهم، هذا وإضافة إليه أنهم قوم لا يحسنون إلا الشقشقة والمقمقة؛ ولذلك أبشركم: فإن الفضل أقوى عِمادًا من أن يهُدَّه ذلك النّاقص، والعلم أرفع قدرًا من أن يحطَّه ذاك الغامص، كما أسلي وأصبر صرير هذه الأقلام المحقة أو تلك، بقول من قائل:
أنتَ الذي عَمَّ أهلَ الأرض نائلُهُ
ولم ينَلْ شأْوَهُ في سؤددٍ بشرُ
سارتْ صِفاتُكَ في الآفاق واتَّضحَتْ
وصدَّق السمعُ عنها ما رأى البصرُ
فاصْبر لصَرف زَمانٍ قد مُنِيتَ به
فآخر الصبر يا طَوْدَ النُّهى الظَّفَرُ
فما ترى أحداً في الخَلْقِ يسلَمُ مِن
صُروف دَهرٍ له في أهله غِيَرُ
سَعَوا بقصدكَ سِرّاً فاستتب لهم
ولو سَعَوا نحوه جَهراً لما قَدِروا
لولا الأماني التي تُحيي النفوسَ بها
لمُتُّ من لوعةٍ في القلب تستعِرُ
وكم - والحمد لله أولًا وأخرًا - في ذلك من نعمة سابغة، وحكمة باهرة.
وختامًا:
قدرْ لرجلك قبل الخطو موضعها
فمن علا زلقًا عن غرةٍ زلجا
ولا يغرنك صفوٌ أنت شاربه
فربما كان بالتكدير ممتزجا
[1] الموافقات (2/ 398) للشاطبي.
[2] انظر: تفسير الطبري (18/ 575) مثلًا.
[3] أخرجه مسلم رقم: (118) عن أبي هريرة - رضي الله عنه.
[4] أخرجه الحاكم (4/ 485)، وسكت عنه، وكذا فعل الذهبي في التلخيص، وقد حسن إسناده الألباني رحمه الله - في السلسلة الصحيحة (2/ 398) تحت الحديث رقم: (758)، وهو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدم.
[5] أخرجه أبو نعيم في الحلية (10/ 170)، وأحمد في المسند (4/ 272)، والحاكم في مستدركه (3/ 611).
[6] أخرجه أحمد (1/ 407 - 408)، والبخاري في الأدب المفرد رقم: (1049)، وصحح إسناده أحمد شاكر برقم: (3870)، وقال الألباني - في إسناده -: " إسناده صحيح ".
وقال شعيب الأرناؤوط: "إسناده حسن".
وانظر: السلسلة الصحيحة (6/ 266)، و(2/ 250) رقم: (647)، ووقع عند النسائي رقم: (4456): ((ويظهر العلم))، وقد صححه شيخنا مقبل الوادعي في دلائل النبوة (ص: 639).
[7] التمهيد (17/ 297)، ونقله عنه القرطبي في التذكرة (ص:723).
[8] القاموس المحيط (ص: 791) للفيروزآبادي.