الأدب بين عالمين
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
للدكتور إبراهيم سلامة
نحن نعيش بين عالمين يتجاذباننا ويحاول كل منهما أن يردنا إلى ناحيته: (العالم الخارجي) و (العالم الداخلي). ولك أن تقول إننا لا نحيا متجاذبين بين هاتين القوتين، بل نحن نعيش فيهما، فلنا حواس تنقل ما تقع عليها، فتدرك العين المرئيات، والأذن المسموعات، واليد الملموسات.
فحواسنا تنقل إلينا صور الحياة كما هي، ولكننا لا نعيش في هذا المادي وحده، وإلا ضقنا به وتخلصنا منه، وكان من حرم حاسة من هذه الحواس كأنما اغلق أمامه باب من أبواب المعرفة بالحياة.
وما هكذا خلقنا وما هكذا نعيش! فنحن نعيش في عالم داخلي من إدراكنا لما تجلبه حواسنا، ومن تأويلاتنا لهذا المدركات بعد عرضها على ما فينا من حاسية وميول ونوازع وتفكير نحلل به ما يرد إلي نفوسنا، وذكاء نرد به ما يرد علينا من العالم الخارجي إلي الناحية التي نجد فيها منفعته وصلاح شئوننا وغذاء عواطفنا.
ومن هنا ما يقول (ديكارت): من أن (الأشياء التي تحرك حواسنا تهيج فينا الميول المختلفة لا للاختلافات الكثيرة التي تدور بها المحسات، ولكن لاتصال هذه الاختلافات بنفعنا أو ضررنا) ومن هنا أيضاُ ما قاله (مال برانش) من أن حواسنا أمينة مخلصة في تعليمنا العلاقات المختلفة التي بيننا وبين ما يحيط بنا من الأشياء في العالم الخارجي، ولكنها نع أمانتها وإخلاصها لا تعطينا صورة صادقة عن كل ما نحس به، فما حواسنا إلا هبة إلهية لحفظ حياتنا). فديكارت الفيلسوف ومال برانش الأديب متفقان على أن العالم الخارجي الذي تربطنا به حواسنا ليس عالمنا وحده، بل فينا ميول تهيج وتثار بتلك الآثار المحسة ليست صورة صادقة لما نحس به، فنحن نعيش أيضاُ في عالمنا الداخلي الذي يحررنا من الخضوع للعالم الخارجي، ويجعلنا عبيداُ له عبودية العالم إلى الملاحظة والمشاهدة الاستقراء، وعبودية التقليدي إلى قاعدة يلتزمها ويقيس بها مسائل العالم.
والعالمان كما ترى مشتبكان متداخلان، ولكن ينفرد العالم (بالعالم الخارجي) يستمده في الملاحظة والمشاهدة، وينفرد الأديب (بالعالم الداخلي) يستغرق فيه ويتسع بطبيعته لتأملاته وتصوراته.
إن الأديب الذي استمتع بمنظار من مناظر الجمالية، ثم جلس بعد مشاهداته إلى مكتبه إنما يجلس إلى تأملاته، ويجلس إلى صور وتصورات قد تكون موادها الأولى من العالم الخارجي عالم المحسات، وقد يزيد فيها وينقص بما يهبها من حيوية وخيال وإضافات لم تكن لها في عالمها الأول.
والفرق بين ما يسميه علماء النفس (بالخيال الاسترجاعي) و (الخيال الابتكاري) وإذا كان الخيال الثاني أسمى من الخيال الأول سمواُ قد يصل إلى درجة الاختراع في الصور العقلية، وإلى درجة الخلق والابتكار والإبداع في الصور الأدبية، فذلك لأن الخيال الاسترجاعي يعتمد على أكثر ما يعتمد على استعادت المحسات كما هي في العالم الخارجي، في حين يعتمد الخيال الابتكاري على العالم الذي يمده بكثير من القوى النفسية التي تعتبر أساساُ للجدة والإبداع. إن عالم الحس ضاغط ملزم، أما عالم الصور والتصور فحر طليق.
إنني أمام شجرة وقع عليها نظري، ولابد لي من أن أراها شجرة، ولا يمكنني إلا أن أقول إلا إنها شجرة.
أما الأديب فله أن يقول (إنها كلمة طيبة كالشجرة الطيبة) وله أن يقول إن صاحبه الذي لا فائدة فيه كشجر السرو (له رواء وما له ثمر) ولابن الرومي أن يقول إن صاحبه جاف جامد كشجر الخلاف: فغدا كالخلاف يورق للعين ...
ويأبى الأثمار كل الآباء إن المحسات تتحكم في الأدب لأنها ضاغطة ملزمة كما قدمنا.
فلا حرية للأديب أمام العالم الخارجي، أما في عالمه الداخلي فحر طليق يتحكم في صوره حتى ولو جاءته من عالم الحس فيطاردها ويحل أخرى محلها ويجمعها ويفرقها ويتركها أمامه، تتجمع وتتفرق، وتتناصر وتتزاحم، وتتوالد وتتقلص، ليؤلف خياله كما يريد، أو لتطاوع هذه الصور خياله كما يريد أن يبرزها الخيال.
فعالم الحس يعرف بشاراُ ضخماُ قوياُ لو توكأ على جدار لإنهدم الجدار؛ ولكن بشاراُ لا يرى في برديه إلا جسماُ ناحلاُ (لو توكأت عليه لإنهدم) والناس تسمع للمتنبي وتراه ملء العين وملء برديه، ولكنه يرى نفسه ضئيلاُ هزيلاُ، بل يريد أن يخائل الناس في حواسهم ليروه كما يرى نفسه من النحول والذبول ولولا كلامه ما كان في جسمه معلم يدل على حياته: كفى بجسمي نحولاُ أنني رجل ...
لولا مخاطبتي إياك لم ترني إن (تين) شيخ المقتنين في الأدب والنقد إذا كان لا يرى في (الصورة) إلا أنها (إحساس ضعيف) وإذا كان (ابنجهوس) من علماء النفس يفرق بين الإحساس والصورة فيرى أنها باهتة مصفرة كأنها من مادة الأثير، وإذا كان غيره من علماء النفس أمثال بهنس لا يرى في الصورة إلا مادة ضئيلة شفافة متشمعة نحيلة قابلة للذوبان بل للتبخير، فأن الأدباء يرحبون بمثل هذه الصور ويرون فيها مادتهم المطاوعة للخيال، ومن ثم للخلق والابتكار.
لنحذر إذن علم النفس فلا نتورط في تقسيماته وقواعده إذا أردنا أن نحتفظ بالأدب وموارده، فإن الصور هي متاع الأديب ينضده كيفما شاء ويستمتع بمرآها ولو كان باهتاُ مصفراُ.
إن علم النفس (بموضوعيته) الحاضرة التي يريد بها أن يثبت شخصه أمام غيره من العلوم يريد أن يضغط على (الذاتية) التي يعتز بها الأدب ولا يمكنه أن يتخلص منها لا في الإنتاج ولا في النقد.
فكما للأديب عالمه فإن للأدب (علم نفسه) الذي لا يحب أن يخضع إلى العلم الخاص دائماُ، بل له أن يتحكم فيه أحياناُ.
إن هذه الصور الباهتة تتجسم أمام الأديب حتى تكون حقيقة ماثلة أمامه، وحتى لا يستطيع أن يفرق مع تسلطها بين الحقيقة وبين الخيال؛ وفي هذا الاتصال سر الأدب.
فأجمله ما تخيلت فيه لترجع بحقيقة، وما حققت فيه لترجع بخيال.
فحقيقة الأدب تبدو لجدتها أنها متخيلة، وخيال الأديب يبدو لإمكان وقوعه أنه حقيقة واقعة.
فسر الجمال الأدبي في الإضافات التي تضيفها إلى العالم الخارجي، وفي المثالية التي ندركها من الصور الداخلية سواء أكانت صوراً نفسية محضة، أم صوراً خارجية تحولت وباعدنا بينها وبين عالمها الأول بما أضفينا عليها من المثالية.
إن الأدب وجماله في هذه الزيادة التي نضيفها إلى القيم الوجودية في العالم الخارجي، وإلى القيم الإصلاحية اللغوية.
وإن الذوق الأدبي ليس في القيم اللغوية للألفاظ ولا في القيم الحقيقية للمعاني، بل في القيمة التقديرية التي يهبها الأديب هبة للألفاظ والمعاني، أي في القيمة التصويرية.
وبعبارة حديثة في الانسجام الذي نحسه في الموسيقى، ونحسه أكثر عند النشاز، وفي الملاءمة التي نحسها بين الألوان في التصوير، ونحسها أكثر إذا اختلطت الألوان ونبا بها النظر وفي الفترات الزمنية التي نحسها في التقسيم الوزن والفواصل وإيراد المعنى؛ هذا التقسيم المعبر عنه بالمقابلة وبقدر احتفاظنا بهذه التقديرية أو الإضافية تكون نظرتنا للأدب.
فالأدب (الكلاسيكي) اهتم بالقيم الحقيقية وغالى فيها.
والأدب (الرومانتيكي) اهتم بالقيم الإضافية والفردية التي نضيفها إلى القيم الوجودية الحسية والعقلية.
وقد غالت الرومانتيكية في أهمية القيم الإضافية الجمالية فأصبح كل شيء في نظرها فناُ، وكل ظاهرة ولو علمية فنية، حتى قيل أن الطبيعة نفسها عمل فني، وإن الكائن الحي نفسه فن، فالفن الحديث ليس في إضافة جمالية إلى قيمة علمية فحسب، بل في اتحاد الفكرتين: العلمية والجمالية في صورة تدرك في العمل العقلي المستمر. هذه المغالات في الرومانتيكية وهذا التعصب للكلاسيكية آثار الأدباء والنقاد في القرن التاسع؛ فإن سيانت بيف وغيرهما بعد سنة 1855 قاموا للمناداة بالحقيقة في قومة ضد الرومانتيكية وضد الكلاسيكية معاً، وفي مصلحة المذهب (السريالزم) (الحقيقة) في الأدب. لقد ابتدأ أنصار المذهب بوصف العالم الخارجي وحده فالتجئوا إلى الحياة نفسها بوصفها كما هي، ويصفون الأحياء في الأحياء الفقيرة كما هم، ولكنهم أخفقوا لأن الوصف كان لمجرد الوصف لا للحكم عليهم ولا للاهتمام بهم، فكانوا كالنباتيين ينظرون إلى المزروعات التي أمامهم من غير أن يميزوا بين أنواعها ولا بين الفروق البارزة في هذه الأنواع، وكشفت هذه النهضة عن أمثال ستاندال وبلزاك وفلوبير ممن جعلوا لهذه المدرسة الحديثة معالم مقررة، فلم يعد العمل الأدبي خيالياُ محضاُ أو فردياُ محضاُ يصدره الأديب وهو في عالمه الداخلي من غير رعاية للحياة.
فلقد نادى فلوبير بأن الإنتاج الأدبي لابد أن يكون موضوعياُ وأن يكون في نفس الأديب عكساُ ذهنياُ لما تعرضه الحياة مؤسساُ على مصادر حقيقية يطيل الأديب فيها النظر ليتخير منها ما يريد (العالم الخارجي) هذه المصادر لا تشل الخيال ولا تمنعه الحركة، فإنه سيكون الرقيب على هذه المصادر والصور يتخير منها ما يتلاءم مع فنه وخياله (العالم الداخلي)، فكان فلوبير يجري هنا وهناك وراء الحقيقة التي تتفق وأحلامه، وبذا ينتقل عمله الأدبي من أن يكون مجرد وصف أو تحليل إلى أن يكون خلقاً وابتكاراً.
لهذا أسبغ فلوبير على أدبه نوعاً من المنطق ولكنه منطق الحياة، وأفترض كثيراً من الصور العقلية للطب والفلسفة، ولكنه لم يفترض من الطب والفلسفة قوانين بل افترض منهما معنى الحياة.
وأعمال الأبطال في رواياته تبدو طبيعية كما تبدو المسببات عن الأسباب، فالوسط والظروف والأمزجة التي تعيش فيها شخصياته الروائية هي التي تقودهم بدوافعها وتعقدها وتطلعاتها ورغائبها إلى مصائرهم، وكأنها أسباب لنتيجة حتمية واقعية.
وهذه الحقيقة أو هذه الواقعية في الموضوع قادت أسلوب فلوبير إلى الصورة المعبرة والكلمة الحقيقية والوزن المنسجم والرقابة على خياله حتى لحق أسلوبه بالكلاسيكية في كثير من مظاهره، وبعد عن الرومانتيكية باعتماده على الواقع؛ فقد كان يجمع بين حقيقة العبارة والكلمة في معناها الحاضر، وبين حقيقتهما في معناهما الدائم المعروف. وكان إدموند، وجول دي كونكر، من أصحاب نظرية المصادر (العالم الخارجي) لكنهما لم يقفا موقفاً فاتراً بارداً أمام هذه المصادر فكانا فنانين تلتهب أعصابهما وتتألم لتألم الإنسانية (العالم الداخلي) فابتكروا صوراً وكلمات جديدة وأخضعاها لإحساسهما وخيالهما حتى قادها هذا الازدواج من ناحية إلى مذهب الطبيعة ومن ناحية أخرى إلى مذهب الثائريين بعدما تقدم ننكر الأدب وننكر رسالة الأديب بل ننكر طبيعة النفس إن حاولنا أن نجعل من الأدب أداة وصفية لما يقع تحت أسماعنا وأبصارنا لنكون واقعيين من غير أن نتعرض لما تحدثه هذه المناظر والمشاهد في نفوسنا من ألم وامتعاض أو لذة ومسرة، وننكر رسالة الأدب ونمنع عنها مدداً غريراً إن حاولنا أن نصف نفوسنا وأن نفرضها فرضاً على قارئينا في غير رعاية للواقع وللحياة.
إن الذكاء في آخر تحليلاته معناه إدراك العالم الخارجي والداخلي معاً، فالذكي هو الذي أدرك شيئاً ما وأدرك أنه المدرك لذلك الشيء.
وللأدب ذكاؤه وحساسيته. دكتور إبراهيم سلامة